“علي وملكات الملكات”.. أم تتنكر لابنها في سبيل الحلم الأمريكي

د. أحمد القاسمي

هل نعرف نحن العرب ما يكفي عن سينما آسيا الشرقية، عن مقارباتها الجمالية وقضاياها وتصوراتها للمجتمع؟

لا بد أن نستثني هنا بلدان اليابان وكوريا والصين التي فرضت ثقافتها، وخلقت لها جمهورها الخاص، فنحن نقصد ماليزيا وإندونيسيا وبروناي خاصة، وقد يجيب بعضهم بما أجاب “فيثاغورس” أحد سائليه “المسألة شائكة والعمر قصير”. فأنىّ لنا يتأتى ذلك في ظل هيمنة النموذج الغربي، وضعف التواصل الثقافي بين البلدان الإسلامية، رغم الاشتراك في مقومات ثقافية عديدة؟

لذلك تنفتح مقالتنا هذه على السينما الإندونيسية، فتعرض شيئا من مسارها، ثم تقدّم قراءة في الفيلم الإندونيسي “علي وملكات الملكات” (Ali & Ratu Ratu Queens) الذي ظهر قبل فترة ولاقى نجاحا جماهيريا.

 

إندونيسيا.. بلاد سومطرة التي تنازعها المستعمرون

تظل السينما أشبه ببساط الريح الذي يجعل المتفرّج أشبه بسندباد، لكنه وهو يأخذه في رحلات عجيبة إلى نواح عديدة من العالم ليعرف ثقافتها؛ يفرض عليه رؤاه للحياة، وتصوّراته لشكل الإقامة فيها، فلا شك أن مختلف الأنظمة لم تكن تراهن على السينما من فراغ.

يحط بنا البساط في إندونيسيا، تلك البلاد التي عرفت عند الجغرافيين المسلمين بأسماء جزرها، قبل أن تشكل كيانا سياسيا واحدا، فأشير إليها بجاوة وسومطرة وشبه جزيرة الملايو، أو بجاوة الكبرى والصغرى، وأشار إليها القدماء عندما أضحت لها صلات وتبادل تجاري مع الخلافة العباسية بمملكة المهراج.

ولم تعرف باسم إندونيسيا (تعني التسمية جزر الهند) إلا في منتصف القرن التاسع عشر، وكانت وقتها تخضع للاستعمار الهولندي، ثم عمّ الاسم وانتشر في الثلث الأول من القرن العشرين، وقبل الحرب العالمية الثانية شهدت غزوا يابانيا انتزعها من مستعمرها الأول، وترك أثره في تاريخها السينمائي، ولم تعلن بلدا حرّا مستقلا إلا سنة 1949.

سينما الغزاة.. احتلال اليابان يجهض المشروع المحلي

ككل بقاع العالم هيمنت السينما الغربية والأمريكية خاصة في الثلث الأول من القرن العشرين على دور العرض الإندونيسية، فقد حاول بعض الروّاد تأسيس سينما محلية مقاومة تستهدف شرائح مختلفة من المجتمع الإندونيسي منذ مطلع الثلاثينيات، حتى مرحلة الغزو الياباني دون نجاح يذكر.

وباستقرار الأمر لليابانيين بين السنوات (1942-1945) استولوا على السوق السينمائية الإندونيسية، ووجهوا صناعتها لخدمة ثقافتهم وسياساتهم، فاعتمدوها لعرض الأخبار المحلية والعالمية من منظورهم أولا، ولنشر اللغة اليابانية في إندونيسيا والدعاية للإمبراطورية اليابانية وجيشها المنخرط في حروب مدمّرة في بقاع مختلفة من الشرق الآسيوي ثانيا.

ولم تتشكل ملامح هذه السينما وتتخذ هوية إندونيسية صرفا إلا بعد الاستقلال، فكانت أميل إلى النزعة التجارية وأحوج إلى الاستقرار، فقد كلفتها حساسيتها للأوضاع السياسية وتأثرها الشديد بالسياسات الجبائية هزات كثيرة.

 

رأس الألفية.. ترنح الصناعة السينمائية بعد ازدهارها

تعتبر الثمانينيات فترة ازدهار من جهة الكمّ على الأقل، فقد بلغ الإنتاج 115 فيلما سنة 1990، ثم أخذت تتراجع وانخفض عدد الأفلام المنتجة انخفاضا حادّا، فبلغ ستة أفلام في بداية الألفية الثانية، ويُردّ ذلك الترنّح إلى تأثير العولمة وانتشار القنوات الفضائية، وانتشار قرصنة الأفلام الأجنبية.

ثم أخذ العدد في التصاعد تدريجيا، وبدأت تحاول هذه السينما التعافي على أيامنا على مستوى نسق الإنتاج، أو استدعاء المواضيع الجريئة، مثل الدين والعرق والحب، وقد كانت محظورة في حقبة “سوهارتو” الذي استقال سنة 1998 إثر ضغوط شعبية.

ويسهر مهرجانان على تنمية السينما الإندونيسية وعلى تواصلها مع السينما العالمية، وهما “مهرجان الفيلم الإندونيسي” الذي ظهر منذ 1955، لكنه يقام بشكل متقطع، و”مهرجان جاكرتا السينمائي الدولي” الذي أسس منذ 1998.

الممثلة ماريسا أنيتا التي أدت دور الأم “إيما” والدة علي التي هاجرت إلى أمريكا بحثا عن مجد غنائي مستحيل

 

من جاكرتا إلى نيويورك.. رحلة البحث عن الأم المتملصة

سنتخذ من فيلم “علي وملكات الملكات” (2021) للمخرج “لوكي كوسواندي” زاويتنا التي نطل منها على هذه السينما، حيث يجعل المخرج من الطفل “علي” مدار الأحداث المختلفة، فقد تركته أمه “إيما” صبيّا مع والده في جاكرتا، وهاجرت إلى أمريكا بحثا عن مجد غنائي مستحيل. وحين شبّ علي، وبعد أن توفي والده عمل على اللحاق بها في نيويورك، فلم يعثر عليها إلا بعد رحلة بحث مضنية.

أما “إيما” فقد تزوجت من أمريكي أبيض، وكوّنت أسرة جديدة، وباتت تعيش حياة باذخة، وظهور علي إلى جانبها سيكشف خداعها لزوجها الجديد، ويهدد استقرارها الأسري، لذلك تغلق دونه الباب أولا، ثم تلتقي به سرا لتطلب منه العودة من حيث أتى.

بنى المخرج أثره أحداث مفارقة، فقد ظل “علي” حافظا لذكرى أمه وفيّا لوصيتها، فاعتنى بوالده حتى ذهبت به جلطة دماغية، وبالمقابل أعمت الغربة “إيما”، وقتلت فيها غريزة الأمومة، ومن هذه العناصر صاغ المخرج ميلودراما تخاطب الوجدان وتهز المشاعر، وتعمل على استدراج أكبر جمهور ممكن للعرض.

علي يبكي بعد أن تخلت عنه والدته إيما وهاجرت إلى أمريكا لتحقيق حلمها كمطربة شهيرة

 

غلبة أحلام الهجرة على العائلة.. انحراف القيم

يمثل الانحراف عن القيم المشتركة القادح الأمثل للميلودراما، وأول عتباته تخلي “إيما” عن عائلتها، فقد اختارت أن تطارد حلمها بأن تصبح مطربة شهيرة في أمريكا مخلفة وراءها زوجا كارها لما تفعل، وابنا مفتقدا لرعايتها، ثم صرفتها أضواء نيويورك عن حياتها الأسرية البسيطة في جاكرتا.

اختزل الفيلم في شخصية “إيما” مختلف مظاهر الشر، وجعل من محيطها الاجتماعي الجانب الخيّر، فقد أحسن الزوج العناية بالابن في غياب الأم، ثم دفعه إهمالها ورفضها العودة إلى الانفصال عنها، وتعتبر الخالة التي تبنّت “علي” بعد وفاة والده وعامة الأهل ما أقدمت عليه “إيمي” معصية وعارا، والموقف نفسه تقفه النساء الإندونيسيات الأربع اللواتي يحاولن التلاؤم الصعب مع الواقع الأمريكي، ومثّلن عائلة لـ”علي” بعد أن أنكرته أمّه وتخلت عنه.

وشأن الميلودراما أن تبرز حدة الصراع بين القيم، وأن تجعل الشّر يسود لفترة ثم يتهاوى أمام الخير، فبُعدها الشعبي يدفعها إلى الاستجابة إلى تطلعات الجمهور الواسع، والمفارقة هنا أن الجمهور المستهدف وهو الشباب المراهق خاصة لن يطمئن إلى النهاية التي يقتضيها هذا النمط السينمائي، وتنسجم مع سلم الأخلاق السائد، أي عودة “إيما” من نيويورك للعيش مع ابنها، فهو يتماهى مع الأم، ويتطلع بدوره إلى أن يترك الأهل والوطن، وإلى أن يجرّب الحلم الأمريكي.

بدا المخرج حسّاسا للغاية لهذا الصراع، فكيف للفيلم أن يتجاوز هذه المعضلة ويحقق القصاص العادل ويعاقب المعتدي؟ لذا كان عليه أن يبتكر نهاية توافقية لا تقسو على الأم، وتعمل على تفهم أسباب مغامرتها، وعلى الحدّ من تصنيف ما أتته بالعمل الشرير، وتتركها تعيش حلمها الأمريكي بسلام، وتضمن لـ”علي” أن يثبت ذاته، وتساعده موهبته في الرسم على الحصول على منحة دراسية، ويساعده لطفه على تحصيل حب المطربة الشابة ذات الأصول الأندلسية.

علي يبدو تائها في شوارع نيويورك، بعد أن صدّته والدته وتظاهرت بعدم معرفتها به

 

“أحبك”.. موسيقى الإثارة وتأجيج عواطف المتفرج

لا يخاطب الفيلم عقل المتفرّج بقدر ما يستهدف وجدانه، ليجعله يتعاطف مع الطفل “علي” وهو يعيش اليتم مرغما، ثم مع “علي” الشاب الذي يتوه في شوارع نيويورك، بعد أن تصدّه أمه وتتظاهر بعدم معرفته. وحين يلحّ ليلتقيها ثانية ويعتقد أنه كسب ودّها؛ يجد تذكرة طائرة ورسالة منها تطلب منه أن يرحل إلى جاكرتا، فكانت محنته سبيل المخرج “لوكي كيسواندي” لتأجيج عواطف المتفرّج، ويجره إلى الانفعال بقصّته.

وكان يستثير وجدانه من خلال انفعال السيدات اللواتي قبلن به ليعيش بينهن، وبكائهن من أجله، أو من خلال الصراع النفسي الذي تعيشه الأم، بين أن تقبل بابنها فتخسر عائلتها الناشئة، أو أن تخطئ في حقه ثانية وتتخلى عنه، وتختار الحل الثاني، وحجتها أنها لن تتخلى عن ابنيها من زواجها الثاني، ولن ترتكب الخطأ نفسه الذي دمّر أسرتها الأولى، ثم تنشج بالبكاء طويلا معترفة أنها أم سيئة.

وللرفع من وتيرة الإثارة وتأجيج العواطف، يجعل المخرج الفتى يتصرف بحماقة، فيتهم العمّات باستغلاله والغيرة من أمه حين يبلغنه رسالتها، ليجد نفسه مشردا لا رفيق له، أو يُدرج الأغاني الشجية المعبرة عن وضعية الفتى، فيورد أغنية “بيلي إليش” المراهقة الأمريكية ومطربة البوب العالمية التي تنتشر أغانيها بشكل مذهل بين الشباب مثل أغنيتها “أحبك” (I Love You)، فكأنها تردّد على لسانه “ليس صحيحا، قل إنهم يكذبون عني”، أو تغني “إيفا” التي تريد أن تنحت مسرة مطربة، كما كانت أمه تفعل سابقا، لكنها لا تتخلى عنه في سبيل حلمها “لا حدود لحبك” مكرّرة “هذه فرصتنا لكي لا ننظر خلفنا ونطير بعيدا ونترك وراءنا كل ما نعرفه”.

الأم البيولوجية لعلي “إيما” التي تركته وذهبت إلى الولايات المتحدة وتزوجت برجل أبيض

 

شخصية الأم التي جمعت السلبيات.. فن الميلودراما

للميلودراما أسلوبها الخاص في تشكيل الشخصيات، فهي تجعلها نمطية خيرة أو شريرة، ثابتة لا تتغيّر عن جوهرها كثيرا، فيرمز بعضها إلى الشجاعة والطهارة، ويشير آخر إلى الخيانة، وامتثالا لقوانينها يجعل الفيلم من “علي” فتى شجاعا يواجه محنه برباطة جأش، ويخرج عن العرف السائد، فيسافر إلى الولايات المتحدة رغم معارضة خالته، ليصلح الخطأ الذي ارتكبته أمه، وليدعم هذا العرف نفسه (أي صيانة العفة ورعاية العائلة)، ويجعل من “إيفا” الفتاة الطاهرة التي تمنح الفتى ما عجزت عنه أمه، فيجد عندها العاطفة الصادقة.

يجمع الفيلم في شخصية الأم بين الخيانة والوصولية، ولا يجعل من صورتها إيجابية إلا بعد أن تعيش الندم، وتسعى إلى التصالح مع محيطها، وتلتزم بالقيم الأخلاقية والاجتماعية المشتركة، فتعترف لزوجها بحياتها السالفة في جاكرتا، وبوجود ابنها في نيويورك، وتنال غفران الابن وعفو الزوج في آن معا.

“لا حاجة إلى الأم الحقيقية”.. تملص بيولوجي ووطني

لقد بدا الفيلم متسامحا مع الأم، فجعل “علي” يتفهّم حاجتها إلى الهجرة وإلى تحقيق أحلامها رغم ما شابها من الأنانية والتنصّل من المسؤولية، وجعل الخالة تراجع موقفها فترسل ابنها بدوره إلى الولايات المتحدة.

وهنا تكمن أخطر أطروحات الفيلم “أن لا حاجة إلى الأم الحقيقية”، وأن “أمهات أخريات يمكنهن تعويضها”. وتتجاوز الأم بُعدها البيولوجي إلى البعد الرمزي، فـ”علي” يتخلى عن إندونيسيا وطنه الأم، ويجعل من الولايات المتحدة الأمريكية وطنا جديدا، وفيه يجد ما لم يجده في وطنه الأصلي.

وجه الخطورة هنا أن لهذا الاختيار تبعات على مستوى مفهوم الهوية والانتماء تدعو ضمنا للتحرّر منهما بدل الاعتزاز بهما. وبانتباهنا إلى هذه الدلالات فقط نفهم لماذا لم يكن المخرج يأخذ وصايا الخالة لـ”علي” وهو يهم بمغادرة جاكرتا، بعدم أكل لحم الخنزير والمواظبة على الصلوات مأخذ الجد، ويدرجها في سياق هازل.

 

جنة الحلم الأمريكي.. دعاية الهجرة في السينما التجارية

ظل الفيلم يمتدح الحياة في أمريكا جاعلا الحياة فيها يسيرة، والنجاح متاحا للجميع، فـ”إيما” تنتهي إلى حياة باذخة، والملكات الأربع يحقق حلمهنّ وينجحن في بعث مطعم “ملكات الملكات”، وإيفا تنجح في كسب إعجاب الجمهور، و”علي” يقطع حبل السُرّة مع أمه ويحلّق في عالم الفن والنجاح، بل إن الخالة المحافظة تستسلم بدورها وتنتهي إلى تحريض ابنها على الهجرة.

ينال الجميع حظّه من الحلم الأمريكي، لكن إلى أي حدّ يمكننا أن نعتبر رسائل هذا الخطاب الفيلمي جادة؟ فلنسلم بذلك لا بدّ أن ننتزع من أذهاننا ما نعرف عن صعوبات الهجرة إلى الولايات المتحدة، والعراقيل التي تضعها أمام طالبي التأشيرات، وأن نتناسى قوانين “ترامب” العنصرية التي كانت تفصل بين الآباء الطالبين للجوء وأبنائهم، وأن ننزع من مخيلتنا جداره الذي عمل على مدّه على كامل الحدود المكسيكية، أو تصريحاته العنصرية ضد المهاجرين، وتحرّشه المستمر بهم.

بيّن إذن أن الفيلم يصنع للشباب الطامح للهجرة صورة أمريكا التي يريدها، ويبيع له الأحلام الزائفة، ومن هنا نفهم تراخيه في إدانة الأم والبحث عن الأعذار لها، رغم أنّ الميلودراما تعاقب المعتدي العقاب الصارم.

لا يمكن بحال من الأحوال لفيلم “علي وملكات الملكات” أن يختزل المدونة الفيلمية الإندونيسية الكبيرة أو تجاربها المتقلبة، ورغم أنّه مدين في نجاحه إلى إتقان الممثلين لأدوارهم وأدائها بطريقة مقنعة، شأن “إقبال ضياء فخري” الذي أدى دور “علي”، و”أورورا ريبارو” التي أدت دور المطربة “إيفا”، و”ماريسا أنيتا” التي أدت دور الأم “إيما”؛ فإنه يبقى فيلما تجاريا استهلاكيا يستهدف الشباب الحالم بالهجرة، ويجعل من الخطاب السينمائي طعما ليستدرجه إلى قاعات العرض، بدل البحث عن المعالجات المناضلة التي ترفع من الوعي عبر خلق الحكايات الممتعة، وتقديم انطباع جيّد عن الإنتاج السينمائي في “بلاد المهراج”.