“علّ صوتك”.. صخب موسيقي يكسر قيود التقاليد في حي سيدي مومن

المصطفى الصوفي

حي سيدي مومن بالدار البيضاء هو حي شعبي قديم موغل في المتناقضات، ناسه بسطاء يعيشون على الكفاف والحلم، وفيه يصارعون الحياة منذ ساعات الفجر إلى حدود الليل بحثا عن دراهم معدودات، وعن حرية تسابق ريح الأطلسي، لتعلو فوق العمارات الشاهقات، في أرقى الأحياء البيضاوية الثرية.

في سيدي مومن تجليات صوفية تزهر بطيب ضريح مر مريده من هناك ذات زمان، فضاءات ترسم من بساطتها دروب متربة تحمل الكثير من وطء حمام جريج، وأزقة يعبرها الموردون وأهل السياسة والدين والمنبوذون والسكارى والمعربدون والحالمون بعبور البحر باتجاه المستحيل.

في سيدي مومن كما في باقي عدد من الأحياء الشعبية البيضاوية كالقريعة والإدريسية والحي المحمدي ودرب غلف وغيرها، يتطاحن أنصار الوداد البيضاوي والرجاء البيضاوي حول مجد كروي فاتر وانتصارات فارغة، لا تكاد تكون مجرد فرجات كروية تنتهي بحروب درامية تكسر فيها العربات والحافلات، ويسيل فيها كثير من الدماء باسم عشق أفيون الشعوب.

 

نبض الخارجين عن الطاعة.. ثورة هادئة تنطق بأحاسيس الروح

هنا سيدي مومن، شباب طموح يزهر كالفطر، يحلم بثورة هادئة من أجل التعبير عن أحاسيس النفس والروح، وسط عائلات محافظة وأُسر أثقل كاهلها الزمان، تعاني ويلات الفقر وغلاء فواتير الماء والكهرباء، وترى في هذا الجيل الجديد المشاكس خلقا ملعونا لا يسمع ولا يطيع ولا يفهم.

أمام هذه المتناقضات في الحي الموغل في التعقيد، والرؤية المتزمتة تجاه كثير من الشباب الحالم بتغيير وضعه المزري، والنظرة الدونية من محيطه وأسرته في كثير من الأحايين، كان لا بد لهؤلاء المشاغبين الخارجين عن طاعة العادات والتقاليد أن يرفعوا صوتهم بقوة حتى يسمعهم العالم اليوم أو غدا.

شباب سيدي مومن في ظل هذه الأجواء مُصرّون على إسماع صوتهم، والإنصات إلى نبض قلوبهم ومشاعرهم بوسائلهم الخاصة، فيكون الفن كشكل من أشكال الإبداع الراقي ملجأ لهم، بينما يراه المتزمتون لعنة وقلة أدب وخروجا عن الأعراف وطاعة السلف.

المخرج نبيل عيوش المشهود له بصناعة فرجة سينمائية من قاع الأحياء الشعبية تعبيرا عن قضايا إنسانية ومجتمعية

 

“علّ صوتك”.. من قاع الأحياء الشعبية إلى المهرجانات الدولية

المخرج المغربي نبيل عيوش المشهود له بصناعة الفرجة السينمائية من قاع الأحياء الشعبية تعبيرا عن قضايا إنسانية ومجتمعية؛ كان رفيقا لهؤلاء الحالمين لإسماع صوتهم ورفع حناجرهم، ولا صوت يعلو فوق صوت الحرية. وقد أشار في فيلمه الروائي الجديد “علّ صوتك” إلى رؤية إبداعية جميلة ترافق هؤلاء الشباب في تطلعاتهم للمستقبل، ولحياة جديدة مفصلة على مقاسهم، لا على مقاس العائلات والمحيط.

مشاهد الفيلم التي تنهل من ثنايا مجتمع غارق في الأوهام والأوحال والأحلام، كانت لها بوادر وإشراقات فنية مشجعة، حيث قاد هذا الصوت الفيلمي العالي إلى المشاركة في مسابقة الدورة الـ74 لمهرجان كان السينمائي خلال شهر يوليو/تموز الماضي، وتُوّج خلالها بجائزة المهرجان للسينما الإيجابية.

شكلت مشاركة الفيلم في كان حدثا سينمائيا مغربيا وعربيا بامتياز، خاصة أن هذه المشاركة تعد الأولى في تاريخ السينما المغربية بعد مشاركات متنوعة في أنشطة موازية للأفلام الأجنبية، لعل أبرزها “نظرة ما”، و”أسبوع المخرجين”، و”أسبوع النقاد”، وبعد مشاركة يتيمة سنة 1662 في مسابقة الأفلام الوثائقية بفيلم “أرواح وإيقاعات” لمخرجه عزيز رمضاني.

بهذه المناسبة اختار المركز السينمائي المغربي مؤخرا هذا الفيلم، ليشارك في الدورة الـ94 لجائزة الأوسكار 2022، وهي الجائزة السينمائية الأشهر في العالم، التي تتوج أروع الأعمال السينمائية المبهرة وأفضل النجوم البارعين.

بطل فيلم “علّ صوتك” إسماعيل أدواب الذي لعب دور مدير المركز الثقافي لتعليم الموسيقى

 

أنغام تكسر صمت الواقع البائس.. مراهقون في عمق الهامش

فيلم “علّ صوتك” أنتجته شركتي “عليان” و”أفلام العالم الجديد”، وتبلغ مدته 102 دقيقة، وهو من بطولة ممثلين شباب قدّموا أدوارا طلائعية، وهم نهيلة عارف وإسماعيل أدواب وأنس بسبوسي وأمينة كنان، فضلا عن مريم نقاش وزينب بوجمعة وعبد الرحمن رحماني وسماح باركو ومها منان ومهدي رزوق وسفيان بلالي ومروان بناني ومروة كنديش وغيرهم.

يحكي الفيلم قصة زمرة من الأصدقاء يدرسون في مركز لتعلم الموسيقى والرقص، حالمين بتغيير أوضاعهم وواقعهم البائس والوسط الذي يعيشون فيه، وذلك عبر الموسيقى التي يجدون فيها متنفسا للتعبير عن همومهم ورغباتهم وطموحاتهم، رغم امتعاض الآخرين من اختيارهم هذا.

كما يطرح الفيلم كثيرا من الإشكالات المجتمعية لمراهقين وشباب يعيشون في عمق الهامش، بما يحمله هذا الهامش من نظرة دونية تجاه المرأة والشباب والفقر والعنصرية وقتل لمواهب الشباب في المهد.

يتطرق “علّ صوتك” كموضوع إلى أحلام متناقضة بين فئتين في المجتمع، فئة تريد الخروج من جلباب الآباء والتمرد على التقاليد والطقوس القديمة، وفئة تريد فرض أمر واقع بطريقتها باسم الدين، وتفتي في الحلال والحرام.

 

سيدي مومن.. فضاء الإبداع الرحب والإلهام السينمائي

إنه صراع بين صوت الشباب والمراهقين الحالمين بإقامة احتفال موسيقي كبير للتعبير عما يعتريهم من رغبات وطموحات، وبين صوت المتزمتين الذين يرون في الموسيقى لحنا حراما يجب القضاء عليه وإسكاته وثني الشباب عن ممارسته.

من ناحة الفضاء كان نبيل عيوش ذكيا في اختياره لواحد من الأحياء الشعبية في مدينة الدار البيضاء تتصارع فيه قيم كثيرة متناقضة، وتتعايش في نفس الوقت، من أجل تصوير الفيلم.

حي سيدي مومن الذي صور فيه الفيلم شكّل دائما مصدر إبداع للمخرج، فقد صور فيه أفلاما سابقة شهدت نجاحا كبيرا، ولعل أبرزها فيلم” علي زاوا” (1999) الذي يعالج قضية الأطفال المشردين والمتخلى عنهم، ثم “يا خيل الله” (2012)، ويعالج موضوع الإرهاب الذي ضرب مدينة الدار البيضاء سنة 2003.

بهذا نعلم أن عيوش يجد في هذا الحي الفضاء الخصب للإبداع، فمن واقع الطفولة المغتصبة والتشرد إلى موضوع الإرهاب، ثم إلى موضوع موسيقى الراب والهيب هوب، وكلها مواضيع ذات ارتباط بالمجتمع، ولصيقة بأهالي وسكان هذا الحي الذي يحوّله عيوش دائما إلى فضاء سينمائي وإستوديو مفتوح للتصوير.

نهيلة عارف وأمينة كنان المشاركات في الفيلم يؤديان أغنية في فيلم “علّ صوتك”

 

سرب البلشون.. شاعرية اللغة البصرية الرشيقة

في هذا الفضاء المفتوح برع عيوش في اقتناص أبهى المشاهد بلغة سينمائية شاعرية وباحترافية عالية، سواء من خلال ترك الكاميرا تنتقل بحرية في معظم الحي لإبراز خصوصياته، وأيضا للكشف عن متناقضاته وأحلامه التي تحاول أن تطير كما يطير سرب البلشون.

اللون الأبيض لطائر البلشون علامة سينمائية لها ما يبررها في الفيلم، فلكل مشهد معنى، ولكل صورة أيقونة تعبر بلغة شاعرية تنطق بالحقيقة بطريقة غير مباشرة، وبهذا فإن أبيض البلشون تعبير عن صفاء سريرة شباب حالم بملامسة النجوم.

كما أن لرفرفة تلك الأجنحة غير المنكسرة وطيرانها بعيدا وهي تُغير المكان باتجاه مكان آخر؛ لغة بصرية رشيقة تختزن كثيرا من المعاني، وتقف بديلا فنيا عن الكلام والحوار في بعض الأحيان، وتفصح عن معاني متعددة، وتستوجب من المتلقي قراءتها، بدل اعتبارها مجرد ديكور أو لقطة عابرة في الزمان والمكان.

 

خلخلة الذاكرة الجماعية.. عدسة جريئة تصنع الدلالات العميقة

في مختلف مشاهد الفيلم، تمكّن عيوش من أدواته التصويرية والتركيز على ما يفيد، وما يخدم الفرجة السينمائية، فالرقص في الشارع ليس بريئا، وتحدي المتزمتين ليس بريئا، والغناء ليس بريئا أيضا. وهذه المتواليات الفيلمية تُفصح عن كمّ هائل من العلامات التي تؤسس للغة سينمائية خصبة جمعت بين دقة التصوير ووصف العالم بالصورة، ورؤية إخراجية تنهل من الواقع بجرأة عالية.

مضامين “علّ صوتك” بما تحبل به من دلالات فيلمية كثيرة، سواء السردية منها أو الإيحائية والدلالية والرمزية وغيرها؛ تُعطي للفيلم درجات متفاوتة في خلق فرجة حقيقية وغير مصطنعة، وقوة في الإقناع لشباب يتحدون بالصوت والإيقاع العالم الذي يريد كبح أصواتهم الرطبة.

كما أن تركيب الصور بتقنية عالية وتقطيع المشاهد وحركات الممثلين في مواجهتهم للمتعصبين، وأيضا حركات الكاميرا وانتقالها في مختلف الزوايا من الأعلى والأسفل، وباقي الإكسسوارات من صوت وإضاءة وفضاءات داخلية وخارجية، كلها متتاليات فنية أعطت للفيلم نكهة فرجوية خاصة.

بهذا، استطاع المخرج أن يحقق ذلك الانسجام البنيوي والاجتماعي والجمالي في الفيلم من خلال طرح ظاهرة الموسيقى الغربية في الأحياء الشعبية، ويبقى التساؤل المطرح هو هل تحققت تلك الشمولية الفنية في إنتاج إبداع قادر على خلخلة الذاكرة الجماعية وإنتاج المعنى بالنسبة للمتلقي، والخروج بخلاصات واستنتاجات تنسجم فيها مخلف عناصر الفيلم شكلا ومضمونا؟

الممثلات المشاركات في فيلم “علّ صوتك” خلال مشاركتهن في مهرجان كان بدورته الـ74

 

صناعة النجوم.. طيور تحلق في سماء الموسيقى والسينما

تبقى قراءات كل فيلم على حدة رهينة بالمتلقي وما يمتلكه من أدوات جمالية ونقدية، وما يمتلكه أيضا من مقومات معرفية وقيم فكرية وفلسفية، فمضمون الفيلم يمكن القول إنه بارز ومفهوم، لكن يبقى جانب الشكل مهما لمعرفة أفكار المخرج وطريقته الفنية في تناول هذا الموضوع وصناعة فيلم قوي ومؤثر.

إذا تطرقنا إلى موضوع شخصيات الفيلم، يمكن القول إن نبيل عيوش وظّف ممثلين شبابا غير معروفين، وهم المحور، وهذه ميزة تُحسب للمخرج الذي دائما يصنع نجوما جديدة في كل فيلم من أفلامه، ففي فيلمه السابق “علي زاوا” اعتمد على ممثلين أطفال مشردين، وحقق الفيلم نجاحا كبيرا داخل الوطن وخارجه، وبهذا أخرجهم من دائرة العتمة والنسيان إلى دائرة الضوء والنجومية.

في فيلمه الجديد يعود عيوش مرة أخرى ليقوم بالعملية نفسها، فأغلب الممثلين الذين اعتمد عليهم هم شباب متماسكون تدربوا على تقمص الأدوار التي أوكلت لهم، فرقصوا وتحدّوا حي المتزمتين، وصنعوا من أنفسهم طيورا تُحلّق في الأعالي وتُغرّد بقوة الحناجر.

معظم الممثلين في هذا الفيلم هم من طلبة مركز ثقافي أسسه نبيل عيوش سنة 2014 بنفس الحي، لتعليم الشباب الموسيقى والفنون والمعاصرة، وبالتالي شكّل هذا الفضاء مشتلا حقيقيا لنجوم ولفنانين طموحين تحدّوا الفقر والعنصرية والانحراف والتطرف بحثا عن الحرية، وبحثا عن زاوية مُضيئة يرسمون فيها بأصواتهم وحركاتهم ملامح طيور بيضاء مجبولة على التحليق في السماء.

المخرج نبيل عيوش رفقة زوجته مريم التوزاني وطاقة فيلمه “علّي صوتك” أثناء المشاركة في الدورة الـ74 لمهرجان “كان”

 

“علّ صوتك”.. صوت مبحوح يعبر عن إحباطات الشباب

استطاع نبيل عيوش من خلال هذا الفيلم أن يرسم برؤيته الجمالية والشاعرية عالما متناقضا يتأرجح بين الحلم والحرية، وبين زوايا غارقة في النظرة العدمية والقيم المتحجرة باسم الدين والسياسة والأعراف البالية.

“علّ صوتك” هو في العمق ثورة هادئة على الواقع، وعلى من يريد أن يلعب دور الموجه، وليس من حقه أن يكون كذلك، إنه حكاية متشابكة تُروى بين مركز ثقافي يرتديه الشباب، ومسجد يذكر فيه اسم الله بكرة وأصيلا، وبين شارع مليء بالمتناقضات والصراعات والأهواء.

إنه صوت مبحوح يُعبر عن كثير من الإحباطات والانكسارات لشباب باحثين عن الحرية مهما كان الثمن، ورغبات موغلة في الحب والتعاسة، وطموحات تتحقق عن طريق الرقص والغناء، إنه كبسولة فيلمية وسينمائية تريد أن تعالج قيم القهر والنظرة الدونية من الآخر بترياق الغناء.

إنه في نهاية المطاف قصة حماسية صادقة تبعث على الفرح، وتزرع ورود الحياة الهادئة في الشوارع من غير تنمر أو احتقار، وتحدٍّ قوي لكل الأشكال والطاقات السلبية التي يصنعها وائدو الحلم في المهد، وقاتلو تطلعات الشباب بمحاكمات صورية غير عادلة.

إنه فلسفة سينمائية لمنطق الحب وعشق الفنون، وأجنحة الحرية وبياض الخلاص من واقع لا يعترف لا بالرقصات ولا بنبض الحياة في عيون شباب أعياهم الفقر والظلم والاستعباد.