“عن الأبدية”.. تعرية عبثية لخواء العالم

أمل ممدوح

يقول الفيلسوف والكاتب الفرنسي “ألبير كامو”: بالعبث توصلت لنتائج ثلاث؛ تمردي وحُريتي ورغبتي. وعلى نهج مشابه فكريا يسير المخرج السويدي “روي أندرسون” بأسلوبه الخاص والفريد، ساعيا لتعرية خواء العالم وما تحت جلده كخطوة للتمرد عليه، فيقول في إحدى مقابلاته “أريد أن أصنع أفلاما أوضح من الواقع نفسه”، وهو ما اتبعه في أفلامه التي تحمل اسمه كاتبا ومخرجا، وأبرزها ثلاثيته المسماة “ثلاثية الوجود”، وتتألف من أفلامه “أغاني من الطابق الثاني”، و”أنت.. الحي”، و”حمامة جلست على غصن تتأمل الوجود”، ليستمر نهجه في فيلمه الجديد “عن الأبدية” (About Endlessness) الذي نال جائزة الأسد الفضي في الدورة الـ76 لمهرجان البندقية السينمائي، وتم عرضه مؤخرا في القسم الرسمي خارج المسابقة في الدورة الـ41 لمهرجان القاهرة السينمائي.

لوحة “فوق المدينة” لمارك شاجال

 

“فوق المدينة”.. آدم وحواء يستكشفان العالم

يبدأ الفيلم بمشهد “ما قبل الافتتاحية” (Avant titre) يصاحبه غناء أوبرالي خافت، يسبق مشهدا افتتاحيا يبدو شبيها بلوحة “فوق المدينة” للفنان الروسي الفرنسي “مارك شاجال” الذي يظهر تأثر “أندرسون” به.

نرى في المشهد رجلا وامرأة في لقطة خيالية يُحلقان في سماء رمادية غائمة لا نرى ما تحتها، يتوسطان الكادر بلا حركة حقيقية، يحتضن الرجل المرأة من الخلف برقة في ثياب بسيطة مجردة قديمة الطراز وترابية الألوان، يتلفتان حولهما وينظران للأسفل كأنهما آدم وحواء يستكشفان العالم من أعلى، تبدو المرأة كمن تستيقظ من نوم محاولة الاستيعاب، ليبدو المشهد بتقدمه منفردا مشهدا مفصليا لما يأتي بعده.

 

حكايات الغيوم.. لوحات فاترة

ينتقل الفيلم بعد الافتتاح لمشهد يُناظر السابق لكن أرضيا، يجلس فيه زوجان على أريكة في حديقة عامة مُطلّة من بعيد على المدينة، يُدير الرجل ظهره للمرأة التي تجلس بجواره بلا مبالاة، ينظران للسماء منهمكَين في مراقبة صامتة فاترة لا تعني شيئا، بينما يمرّ سرب طيور في السماء، فتعلق المرأة “إنه سبتمبر”.

تبدأ بعد هذا المشهد سلسلة متتالية من المشاهد القصيرة والمنفصلة كاللوحات، تربطها على اختلافها سمات شكلية وسردية مشتركة، وإن لم ترتبط دراميا إلا على المدى الكلي، فهي لا تحتوي على أحداث تتصاعد أو تكمل بعضها بعضا، فالغيوم تُخيّم على المشاهد عادة، بينما يتخللها تعليق صوتي تقريري فاتر لامرأة تُعتبر الراوية للفيلم، تلقي جملة كالقصة القصيرة جدا، وتبدأ دائما بكلمتي رأيت رجلا أو امرأة، تروي فعلا أو حدثا مُعتادا ناقصا بجمل تامة، كأنه حدث مكتمل يستحق أن يُروى ضمن سياق عبثي عام يسخر من عدمية العالم، بينما يُسرد هذا العبث في نسق متماثل ملتزم يشكل بحدّ ذاته مزيدا من السخرية.

رجل يسير مع ابنته لعيد ميلاد

 

المشاهد المراوغة.. سخرية قاتمة

في أحد المشاهد نرى رجلا يصعد سُلّما من نفق تحت الأرض حاملا مشتريات، بينما نستمع لصوت نفس الغناء الأوبرالي في أول الفيلم كرابط خلفي بالمشهد الافتتاحي، ليقف في مواجهتنا شاحب الوجه، بينما تخبرنا الراوية “رأيت رجلا أراد أن يفاجئ زوجته بعشاء جميل”.

يحكي الرجل عن صديق مدرسته القديم الذي يراه ولا يرد عليه، معترفا بإيذائه له فيما مضى، ليكون هذا الرجل إحدى الشخصيات المعدودة في الفيلم التي تتكرر بعد ذلك.

ونرى في مشهد آخر فتاة تسقي نبتة، بينما يراها شاب يظل ينظر إليها، ليأتي صوت الراوية “رأيت رجلا لم يجد الحب بعد”، كجملة تنفي ما قد يبدو أمامنا حبا، في استباق لنهاية عدمية لحكاية لم تبدأ، ونرى نادلا يقدم الخمر لأحد الأثرياء في مطعم خاو بطقوس بروتوكولية دقيقة، حتى يسكبه أثناء صبّه شاردا غير مكترث بعدها إلا بتنظيف المكان.

ونرى مشهدا لرجل قتل زوجته ويحتضنها من الخلف باكيا، ليكون التعليق المصاحب مراوغا يحمل تفسيرا عكسيا “رأيت رجلا أراد أن يحمي شرف عائلته لكنه غيّر رأيه”، بما يحمل معنى أن القتل بذاته ضد الشرف. ونرى مشهدا يكتمل بعد تعليق الراوية التي تقول عن امرأة في محطة قطار “رأيت امرأة لا أحد كان ينتظرها”، فإذا بشخص يلهث ليلحق بها، فكثيرا ما تراوغنا المشاهد أو التعليقات رغم تقريريتها، كما نجد كذلك تعليقات لمشاهد أخرى مثل “رأيت رجلا ضلّ طريقه”، و”رأيت امرأة تحب الشامبانيا كثيرا كثيرا”، أو”رأيت امرأة لديها مشكلة مع حذائها”، وغير ذلك من تعليقات عن أحداث صغيرة لا تعني شيئا.

أشخاص في مطعم بلا طعام ورجل ضلّ طريقه

 

عُزلة وبؤس وكآبة.. الحق في البكاء

يبدو الناس في مشاهد الفيلم بائسين فاقدين للدهشة، يتصرفون ويتحدثون باقتضاب آليّ فاتر، تنقص تصرفاتهم المنطقية، لكنهم متصالحون مع ذلك بانهماك. يكسو وجوههم شحوب أبيض كالموتى، في جوّ شاحب غائم شديد البرد، فتسود الألوان الرمادية والباهتة في كل الأماكن والملابس طوال الوقت، ونلمح في كثير من المشاهد السُّحب تسير ببطء كرابط خلفي بين مشاهد الفيلم، كما نجد الأشخاص مجردي الأسماء فيما عدا الغائبين منهم، ودائما ما نجدهم متباعدين خاصة الأزواج، إذ يعطي دوما أحدهما ظهره للآخر.

نجد شخصا يبكي في حافلة بينما لا يلتفت إليه أحد، بل يختصم الركاب فقط حول حقّه في البكاء في الحافلة، وتكثر المطاعم والمقاهي الخاوية في الفيلم بشكل يشبه مقاهي وأماكن لوحات الفنان الأمريكي “إدوارد هوبر”، وتكوينات لوحاته العاكسة للعزلة ولأناس مجهولين ووحيدين، بأطرها المتداخلة وغرفها الفرعية التي نشعر فيها بنظرة عين بعيدة متلصصة على أشخاص تستغرقهم وحدتهم، كمشهد أصغر داخل مشهد أكبر.

تبدو الطاولات شبه مهجورة كما تخلو من الطعام، فالجميع يؤدي فعل الحياة بلا حياة، مع ظهور الكتل المعمارية في الخلفية بنوافذها المغلقة وخطوطها الصارمة المحاصِرة في كثير من المشاهد، الأمر الذي يعكس كآبة وعزلة الإنسان الحديث في المجتمع السويدي، ويدعم تلك الصورة مشهد الغمام الكثيف والجو المثلج الشاحب.

قِسّيس يشرب الخمر في الكنيسة

 

صليب وزجاجة خمر.. ازدواجية الهوية

تُطلّ من عالم الفيلم أزمة وجودية ليس فقط فيما بين داخل الشخصيات وخارجها في الأفعال اليومية، بل في الهُوية أيضا، وهو ما أبرزته أزمة قِسّيس تُعتبر شخصيته الأكثر ظهورا خلال الفيلم، فنراه في أول مشاهده يحلم بكابوس يظهر فيه حاملا صليبا خشبيا ثقيلا، بينما يركله الناس في الشارع ويدفعونه هاتفين بصلبه، فهو قِسّيس فقد إيمانه، بينما لا يزال يمارس دوره الروحي الوعظي كمورد رزق، مما يسبب له تعاسة وشعورا بالزيف والذنب وعدم الاتساق.

نراه في غرفة جانبية في الكنيسة، ونرى عبر بابها المفتوح قاعة الصلاة في الخلفية، بينما يشرب القِسّيس فيها الخمر مختبئا بنهم قبل تقديمه في طقس كنسي، لنلحظ على الطاولة وجود زجاجة الخمر على الجانب الآخر المقابل للإنجيل على خط مستقيم واحد، كطرفين متناقضين لكنهما مجتمعين معا، بينما يقبع الصليب كبيرا أعلاهما في منتصف الجدار، كإشارة لازدواجية هوية الرجل وانقسامه النفسي، ليخرج ضمن نفس اللقطة الطويلة الثابتة، متتبعين قيامه بالطقس الديني موجها جملا دينية للمصلين، لنتابع بعدها معاناته من كوابيسه بذهابه لطبيب نفسي خامل الروح أقرب للموتى، لا يعينه في شيء ولا يهمه سوى أجره، بينما يتوسل القسيس مساعدته مرددا “ماذا أفعل الآن وقد فقدت إيماني؟”، فهو يسعى لتعزيز قهره لا حريته، وكأن الإيمان فعل حتمي قهري لا اختياري، يُحدث فقده فزعا لأنه يضعه أمام طريق حُرّ غير محدد مسبقا.

الحبيبان يحلقان فوق المدينة

 

الحرب العالمية الثانية.. ظلال الدمار والحرب

تُخيّم حالة الحرب وآثارها على مشاهد الفيلم من آن لآخر، وخاصة ظلال الحرب العالمية الثانية وإن لم يشر إليها مباشرة، فنجد في أحد المشاهد أمّا وأبا يزوران قبر ابنيهما الذي فقداه في الحرب، ونرى رجلا في مشهد آخر فقد قدميه في لغم أرضي، ونرى مخبأ أرضيا يُصوّر فيه قادة جيش هتلر المهزوم، بعضهم نائم كالأموات والآخر يحتسي الخمر وآخر جمده الذهول. تبدو محتويات المكان مبعثرة متربة، بينما يدخل هتلر مكتئبا وسط أصوات الأسلحة في الخارج.

وفي مشهد آخر نرى الجيش النازي يسير مهزوما وسط الجليد مُقادا إلى معسكرات الأسر في سيبيريا، ويظهر الحبيبان المحلقان بلوحة “مارك شاجال” من جديد، في مشهد أطول مدة وكادر أكثر اتساعا، ليبدوان طافيين فوق مدينة باهتة خربة، كإشارة جديدة رمزية لخراب المدينة من جراء الحروب، مع مزيد من اتضاح صوت الغناء الأوبرالي المصاحب للمشهد، بما يحيل إلى آدم وحواء القادمين من الجنة إلى أرض خربة، تعبيرا عن تحول مؤلم من جهة، وعن حالة أكثر بعثا للأمل لما فيها من حُبّ، ولأنها الأبعد عن الأرض، حيث الخلاص يبدو للمرتفعين، ليعتبر هذا المشهد مشهدا رئيسيا في تقديم وفهم الفيلم.

وكأننا في بقية الفيلم نرى ما يراه هذان الحبيبان من أعلى، الأمر الذي يدعمه سماعنا لنفس الغناء الأوبرالي في خلفية أحد المشاهد الأولى، حيث يمدّ لنا الفيلم خيوطا خافتة تربط عالمه ومشاهده بنسق واحد وصبغة واحدة رغم انفصالها، كالحالة اللونية وطبيعة الطقس والغيوم ومرور السحب والأصوات الخافتة وبعض الأصوات التي توحي بتجاور الأماكن، مثل جرس الكنيسة في مشهد، ثم ظهور الكنيسة في مشهد تالٍ لا يرتبط به.

قسيس يحمل صليبا في كابوس

 

بين تشظي السرد وتماسك الصورة

بُني السيناريو على سرد مُتشظّ، لكنه متماسك في وحدة واضحة، بينما تتسم الصورة بتجريد يُفرّغ عالم الفيلم من التفاصيل، لمباعدة تُقلِّص واقعية المَشاهد لرؤية أكثر وضوحا لآلية الحياة وما وراء سطحها الظاهر، محدثة نوعا من التغريب القصدي الذي يسعى لتنشيط الذهن بتذويب الألفة مع ما نرى، فيما تسود اللقطات الثابتة الطويلة والكادرات المتسعة التي ترصد ما بداخلها كالعين المراقبة، مع عمق بؤري للصورة يحتوي على عدة مستويات وأماكن وأطر متداخلة، مع قطعات مونتاجية حادّة غالبا بين المشاهد، في بناء بصري ودرامي إبداعي دقيق ومتماسك.

امرأة تحب الشامبانيا

 

حالة دوران أبدي.. لمحات سيزيفية

تسود الفيلم بُنية عبثية تهكمية بشكل قاتم على عدمية حياة نمارسها بجدية، يدعمها هذا الكمّ من المشاهد المتلاحقة بلا معنى فعلي، كلهاث الحياة من أجل لا شيء، فيما يشبه غزلا عنكبوتيا يُكرر نفسه برتابة وآلية بينما يظل واهيا، مما يقودنا لترجمة أكثر دقة لعنوان الفيلم، لتكون “حول اللانهائية” كحالة سيزيفية دائمة (نسبة لأسطورة سيزيف الإغريقية، الحامل الأبدي للصخرة المتدحرجة نحو قمة جبل)، والتي تُعد أساسا للرؤية العبثية.

يدعم ذلك تكرار وحدات بصرية في الكثير من مشاهد الفيلم، مثل الدائرة التي تدور سواء كانت عجلة في دراجة أو في عربة طفل -وقد تكررت في عدة مشاهد- أو أسطوانة “فونوغراف” تدور بلا صوت في مشهد هزيمة هتلر، أو ساعة لا تتحرك مُعلقة في محطة قطار، إضافة لسير معطل كالحافلة التي تمتلئ بالركاب دون أن تتحرك، بينما يتجادل الركاب ويعترضون على شيء آخر.

من جهة أخرى نلحظ حالة دهليزية بتكرار ظهور الأبواب والمنافذ المفتوحة والمفضية لمكان آخر، وضمن هذا السياق العبثي يأتي مشهد في منزل بين فتى وفتاة تتشابه ألوان ملابسهما ويبدوان أخوين، يدور بينهما حديث عن تدوير الطاقة الكونية، وأننا جميعا عبارة عن طاقة لا تفنى وإنما تتغير، ليكون خيارهما ما بين أن يكونا حبة طماطم أو حبة بطاطس، في حوار عدمي تهكمي.

حياة أعلى من الحياة.. نهاية بين قوسين

يأتي المشهد الأخير في الفيلم يصور حدثا عارضا معتادا من جديد، لرجل تعطلت سيارته في طريق خاو طويل، كنهاية ساخرة تؤكد حالة خربة، بينما يمر من جديد سرب طيور في السماء الغائمة، تماما كمشهد البداية للزوجين في الحديقة العامة، وكأن الفيلم يدور بين قوسين كلاهما لا يعني شيئا، في ملمح دائري يربط بين البداية والنهاية كالحلم الصادم، أملا في تمرد يسعى لحياة أعلى من الحياة، خارج قيودها التي لا نهاية لها.