عن الجحيم الأرضي.. في جزيرة جاوا

قيس قاسم

 شاعرية الألم.. قد يكون التوصيف الملائم لمنجز ساشا فريدلاندر، مع أن أوصاف أخرى قابلة التصاق به كالجامع أو المتعدد الطبقات، الموجع، وغيرها، لأن وثائقيها جمع أكثر من منظور ومستوى لموضوع واحد، قد يبدو عادياً ومألوفاً في عالم الوثائقي، جسد حالة انسانية قد تتكرر في أكثر من مكان لكن طريقة معالجتها المختلفة هي ما يعنينا هنا بالدرجة الأولى. لقد أخذت قصة عمال مناجم حجر الكبريتيك في جزيرة جاوا الاندونيسية وسجلتها، بفارق عن غيرها، عمق معرفتها بتفاصيل الحياة في تلك المنطقة من العالم، ولهذا الجانب حكاية ذات صلة بالمخرجة وثقافتها.

ساشا فريدلاندر

قبل ذهابها الى اندونيسيا درست ساشا السينما الوثائقية في نيويورك، وبعد تخرجها حصلت على منحة دراسية من معهد الفن الأندونيسي في بالي عام 2011، وأثناء وجودها طلبت منها هيئة الاذاعة البريطانية، لإتقانها اللغة الاندونيسية العمل كمساعدة لفريق كان يعد لها برنامجاً وثائقياً عن جزيرة بالي السياحية، ومروا أثناء تصويرهم بجبل “كاوه جين”، الوجهة السياحية الأنشط في الجزيرة لغرابة المشاهد الطبيعية التي تلفه في وحدة نادرة تجمع بينه وبين الغيوم والسماء. بعد مدة قررت العودة الى ذلك الجبل وهذة المرة لا لتصوير جانبه السياحي بل لإنجاز فيلم وثائقي عن حياة عمال مناجم الأحجار الكبريتية، والذي كثيراً ما يصفونها ب”الجحيم”. الى الجحيم ذهبت بنفسها والى الجبل الذي يعانق السماء وأوحى اليها بعنوان فيملها “في المكان الذي تتلاقى فيه السماء بالجحيم”.
اعتمدت فريدلاندر إسلوباً شاعرياً، لإظهار مقدار الألم الذي يعانيه عمال مناجم جبل كاوة جين، مستلهم من جمال المكان الساحر والعمل المضني والمهلك الذي ينخرط فيه مزارعون، في الأصل، اضطروا لشح ما تعطيه محاصيلهم الزراعية، للعمل في تلك البراكين المتأججة الحرارة وهي تعانق السماء. على غير طبيعة المناجم في العالم فكاوة جين مازال نشطاَ، ولم يخمد كلياً، ومن فوهاته يخرج غاز الكبريت الذي يتجمع بعوامل البرودة فيصبح حجراً. في تلك المقالع يحفر عمال المناجم الصخور ويستخرجوا وسط غيوم من غاز الكبريتيك السام، الأحجار الكبريتية الصفراء اللون، مثل الذهب، قيمة ولوناً، كونه يدخل في صناعات كثيرة منها: السكر، مستحضرات التجميل، صناعة أعواد الثقاب، أسمدة كيمياوية وغيرها. كل هذة المعلومات تقدمها فريدلاندر وسط حركة العمال الدؤوبة لتكمل خلفية المشهد الذي امتاز بجمالية بصرية مذهلة، وبإسلوب تصوير يمزج الموسيقى الشعبية بالصورة الواقعية في هارموني يذكر بالتناقض الصارخ بين الجمال والألم وبين القساوة الجسدية والمشاعر الفياضة بالوجع.
في المشهد الاستهلالي، تجتمع العذابات في مناخ خيالي/حلمي مع الواقع. مشاعل تتحرك وسط العتمة المطبقة ببطأ، مع مرور الوقت، وليس بفضل نورها الخافت، تظهر ظلال البشر الذين يحملونها ومع بداية شروق الشمس تتجلى ملامح المشهد اليومي: عمال يخرجون في الليل ليصلوا قمة الجبل فجراً ويبدأون العمل داخل فوهاته المشتعلة.

لا كلام ولا أصوات بشرية تُسمع سوى السعال، وهمهمات مكتومة غير مفهومة لبشر يتحركون وسط براكين صفراء يختنقون بدخانها فيما معاولهم تحفر في الكتل الحجرية ليجمعونها بعد حين ويذهبون لبيعها الى صاحب المنجم. أثقال لا يتحملها بشر، يرفعونها فوق أكتفاهم وهو ينزلون بها الى القاع ومنه يصعدون ثانية الى القمة عبر مسالك خطيرة أقل زلة قدم تؤدي بهم الى الموت. لم نسمع في المشهد كلاماً مباشراً لكننا نسمع صدى حلم يحكيه رجل لنا: “حلمت أنني قد سقطت وسط البركان المتأجج ناراً، فهرع الرجال لنجدتي، وبينما كانت أيادهم ترفعني كانت عيوني تذرف الدموع وجسمي يرتجف، عندها أفقت من الحلم”. في اليوم الثاني لم يجرؤ الرجل الذهاب الى العمل خوفاً من يتحول الحلم الى واقع. أليس هو واقعاً؟، أن يذهب هؤلاء كل يوم الى الجحيم ويخاطرون بحياتهم من أجل تأمين لقمة عيشهم المسممة بغاز الكبريت القاتل.
مع أن معدل أعمارهم لا تتعدى الخمسين عاماً، يعيش عمال المناجم حياتهم دون التفات الى أعدادها، فالنسبة اليهم الحياة هبة ألهية وعليهم عيشها، وتوفير مستلزماتها، بغض النظر عن نوعية ومستوى العيش نفسه، وهذا ما سيعمل الوثائقي على ابرازه عبر أربعة شخصيات كل واحدة منها تمثل مستوى من الوعي، مرتبط بعوامل خارجية تحيط بكل واحد منهم فيما يبقى العمل في المناجم جامعهم الى جانب جزيرة جاوا كمكان مركزي تدور حوله الكثير من القصص والعيش فيه يظل حلماً يراود خيال الشباب منهم.

من اختلاف علاقاتهم ووعيهم تستخرج فريدلاندر موضوعات فيها الكثير من المقاربات عن طموح البشر وأحلامهم، مثل اللغة كعنصر قوي يُظهر الاختلاف بينهم وبين السواح الأجانب الذين يزورون الجبل الشهير ويمرون بهم مروراً عابراً. بالنسبة الى شبابهم يفتح وجود كائنات، مترفة، قادمة من مكان آخر من الكرة الأرضية، نافذة حلم واسعة يطل منها شباب تخيلوا أنفسهم وقد  أصبحوا يوماً أدلاء سياحيين مثل غيرهم، ويكتسب الحلم نفسه معنى أكثر في الواقع حين يشاهدون أدلاء من موطنهم ذاته وهم يرافقون زواراً ويتقاضون رواتب جيدة مقابل جهد لا يمكن مقارنته بجزء من الألف من جهدهم، والأهم انهم لا يتعرضون لخطر الموت المبكر بسبب العمل في الأحجار الكبريتية السامة. جزء من والوثائقي يُخصص لعلاقة التواصل المختلة بين عامل المنجم والسائح،  ومن خلالها تتضح علاقات الهيمنة الثقافية الإقتصادية غير المعلنة إلا في حوارات مقتضبة وفي لقطات أخذتها كامرتها غفلة، كالتي يظهر فيها عامل شاب وهو يحاول لمس شَعَر سائح أشقر وكأنه يريد التأكد من أنه انسان مثله! وأيضاً،عبر دروس تعلم اللغة الانكليزية أو الفرنسية التي تشغل بال الكثيرين من شبابهم على أمل تعلمها والعمل بها مع الغرباء القادمين لرؤية المنظر الخلاب وهم يكررون عباراتهم المألوفة “انه الجحيم بعينه”. كلمات تُذكر العمال بأنهم في الجحيم وهناك بشر آخرون يعيشون في النعيم.
ثمة تناقضات داخل العيش المشترك البسيط، خارج العلاقة بالأجنبي، تظهر خلال السياق العام فحين تأخذ فريدلاندر زوجة أحد العمال ضمن نماذجها الأربعة لم تكن تعرف انها جاءت من عاصمة الجزيرة الى الغابة المحيطة بالجبل الشاهق. من حكايتها عن علاقتها بزوجها الذي أحبته تفضح التصادم الموجود بين الهندوس والمسلمين في جاوا الاندونيسية. فالزواج تم، على أساس اعلانها ان المتقدم الى خطبتها رجل ينتمي الى نفس ديانتها، لأنهم لو عرفوا حقيقة أنه مسلم ومن قرية وسط الغابة ما كانوا يوافقون على زواجهما!. وبالنسبة لوالد الزوج فأن موقفه من العمل في المناجم مرتبط بروح التضحية وقيّم الحفاظ على وحدة العائلة، لهذا نرى أن كل ما يجنيه من مال يدخره لولده وأحفاده، دون أن ينفقه على نفسه.

من هذة العلاقة يستخرج الوثائقي قيّم العيش الآسيوية المتقشفة والمتكافلة الى درجة يصعب فهمها في أماكن آخرى من العالم خارج الإطار الثقافي الذي تنمو فيه. وفي جانب اشكالي يذهب الوثائقي الى بحث العلاقة بين الأرض ومزارعيها الذين لم يعد يجدوا فيها مصدراً لضمان عيشهم فتراهم يذهبون الى مناطق جديدة بحثاً عن عمل جديد لا علاقة له بالزراعة والأرض فتنشأ علاقات انتاج جديدة خارج ما كان متعارف على وجودها طيلة ألاف من السنين والتي أنتجت تلك الثقافة التضامنية العائلية فيما سيظهر نوع من التفكك الأسري ناتج عن طريقة تفكير الناس للحصول على مصادر رزق من مهن لم يتعلموا بعد أبجدياتها، ومتابعة الوثائقي لجولات بحث شاب من عمال المناجم عن عمل في مركز المدينة دون كفاءات، يفسر سر عودته الى الجبل وأحجاره الكبريتية. ليس البحث عن عمل في المدينة سوى تعبير عن رغبتهم في التخلص من عذاب الإشتغال في المناجم لكن انعدام فرص حصولهم على مصادر مالية أخرى  تجبرهم للقبول بالجحيم على أمل العيش يوماً، وحتى ولو في الأحلام، كما يعيش بشر يأتون اليهم من أقاصي الأرض للحظات ويغادرونهم دون اكتراث لمصائرهم والى التفات الى عذابات أجسادهم، كما صورتها فريدلاندر في فيلم سنقول عنه ثانية.. شاعري بإمتياز جمالياً وقاسٍ على المستوى الواقعي.