“عند سفوح التلال”.. رؤية سينمائية استباقية لتغيير جزائري مُنتظر

قيس قاسم

لا العوز ولا البطالة هو ما يؤلم شباب الجزائر فحسب، بل انغلاق الأفق وضيق مساحة الحرية

وثائقي “عند سفوح التلال” للمخرج الجزائري عبد الله باديس يسبق زمن عرضه بوقت قصير جدا موعد انطلاق الحراك الشعبي الذي تشهده البلاد اليوم، غير أن ما ينقله من واقع يُحيل المتفرج إلى أسباب خروج الناس إلى الشوارع مطالبين بالتغيير.

لا يخاف باديس من أن يأخذ كل مشهد حواري وقته، وهذا يظهر من المشهد الأول الذي جمع شابا جزائريا عاطلا عن العمل مع رجل مسن من أهل الحي، حوارهما يكشف واقعا صعبا يعيشانه، فمسبباته لا تعود إلى شُح في ثروات البلاد ولا إلى نقص في الطاقات البشرية، بل تعود إلى تسلّط حفنة من السياسيين على مقاليد الحكم لوقت طويل؛ سياسيين فضّلوا مصالحهم الخاصة على مصالح الشعب، فكانت النتيجة هجرة واسعة إلى الخارج، وبطالة وتعطيل لخطط ومشاريع يفترض أنها إنتاجية بالأساس.

لا العوز ولا البطالة هو ما يؤلم شباب الجزائر فحسب، بل انغلاق الأفق وضيق مساحة الحرية، حيث يختتم الشاب كلامه بعبارة مؤلمة شديدة الدلالة “لقد سرقوا أحلامنا، فحتى هذه أضحت صعبة المنال”.

 

“مجاهدون” و”إرهاب”.. معانٍ على غير حقيقتها

من ذلك المشهد الجامع بين أجيال جزائرية تتوارث نفس المشاكل وتتقاسم الهموم نفسها منذ عقود، ينقل باديس كاميرته إلى سطح أحد المنازل، حيث يجتمع عدد من الشباب العاطل عن العمل، شباب جامعي يبدد وقته في الكلام والغناء والسهر لوقت متأخر من الليل.

تُعيد مستوى حواراتهم وعمقها أحكام مَنْ لا يعرف المجتمع الجزائري جيدا، فتلك الشلّة المصغرة لشريحة اجتماعية واسعة تُجيد وصف حالة بلادها، وتعرف نقاط الضعف والقوة الكامنة فيها، وتبحث عن توصيف دقيق لها عبر قراءات لثقافات إنسانية يريدون أن يكونوا جزءًا منها.

من الفلسفة الإغريقية يجدون التعبير المناسب لوصفها؛ “تراجيديا جزائرية”، وما يحدث فيها خلال عقود يلخصونه بكلمة واحدة؛ “طوباوية” خيالية. فهم يستلهمون المعارف الفرنسية ولا يستنسخوها، يبحثون في تضاريس أرواحهم وجغرافية بلادهم، ويريدون معرفة تاريخهم خارج ما هو مكتوب في المناهج المدرسية. لا يترددون في إعادة النظر بعبارات “أريد لها أن تكون مقدسة، خارج النقد، عصية على المراجعة”، مثل “المجاهدين” التي ضاع معناها الحقيقي، وغدت مع الوقت تعبيرا يُراد به تبجيل الماضي وتجاهل الحاضر وما يكمن داخله من تناقضات، وكلمة “الإرهاب” التي اسُتغلت لإجهاض معاني الحرية وترسيخ عسكرتارية السلطة.

تضم الرحلة عددا من الشابات والشباب اختاروا التوجه إلى المناطق المحيطة بمدينتهم وهران

هجرة داخلية للبحث عن الجزائر

تقودهم تلك الحوارات والنقاشات العميقة المصحوبة دائما بموسيقى عربية يعزفها أحدهم إلى “هجرة” داخلية في أطراف مدينة وهران، ليكتشفوا ما يجهلونه عنها وعن بقية مساحات بلادهم الشاسعة.

تضم الرحلة عددا من الشابات والشباب اختاروا التوجه إلى المناطق المحيطة بمدينتهم وهران. رحلتهم ستُحيل الوثائقي إلى “فيلم طريق”، ليسجل تفاصيل بحثهم عن ذواتهم و”جزائريتهم”.

في كل مساحة دخلوا إليها التقوا بجزائريين مثلهم يواجهون ظروفا اقتصادية صعبة رغم غنى البلاد، إلى جانب اكتشافهم جوانب مهملة من تاريخهم المعاصر، فقد غطت بطولات “المجاهدين” الجُدد على غيرهم من الثوار، هذا ما عرفوه خلال مقابلاتهم شيوخ وبسطاء من مناطق خاض فيها الزعيم الجزائري ومؤسس دولتها الحديثة الشيخ عبد القادر الجزائري معارك ضد الفرنسيين أواسط القرن التاسع عشر وانتصر فيها، الشواهد موجودة على الحيطان لكن الكثير منها مُبعد من الكراسات المدرسية.

تُرسخ محاورات الشباب قبل شروعهم بالسفر عن قناعتهم بأن جهلهم بتضاريس وطنهم هو في أصله خلل ثقافي

اغتراب في داخل الوطن

تُعبر محاولة أحد الشباب نسخ وحفظ قصيدة كتبها عبد القادر الجزائري في مديح جيشه أثناء مقارعته الفرنسيين؛ رغبة كامنة في داخله لإعادة قراءة تاريخ بلاده وفق ما يكتشفه بنفسه.

وتُرسخ محاورات الشباب قبل شروعهم بالسفر عن قناعتهم بأن جهلهم بتضاريس وطنهم هو في أصله خلل ثقافي شخّصوه عبر مقارنتهم مع ما يتوفر للمواطن الغربي المجاور لهم من فرص جيدة لمعرفة الكثير عن موطنه وتاريخه، وبين ما يتوفر عند الجزائري، فهناك يُراد به تقوية بنيان المواطنة، وهنا في الجزائر يجري تجاهله.

هذا جزء مما التقطته كاميرا باديس خلال مصاحبتها الشبان في أكثر من مكان، فقد بدوا وكأنهم يتعرفون لأول مرة على وطنهم، لكن في وسط كل ذلك الاغتراب الموجع كانت تجمعهم على الدوام الموسيقى والروح التضامنية الطيبة، فرغم كل ما يعانيه الجزائري يظل طيبا وكريما وتواقا للأحسن بأقل الاشتراطات.

كل مكان زاره وثائقي باديس معهم قادهم إلى موطن خلل متأتٍ من خلل أكبر منه، فمشاريع الصيد الخاصة لا تخضع لرقابة

“سويسرا أفريقيا”.. ثروات لا ينعم بها أهلها

المزارعون الجزائريون يريدون وقف هجرة أبنائهم إلى المدن، فمطلبهم الأول من رجال دولتهم تأمين المياه لزرعهم، وإحياء المشاريع التي وُعدوا بتنفيذها منذ التحرر من الاستعمار وحتى اليوم، أما الصيادون فيطالبون بحصتهم من عطايا بحرهم الكريم، فهم لا يقبلون بتعطيل موانئهم، ولا بحصر حق الصيد بالأثرياء المقربين من السلطة. لقد غدا البحر ملكًا لأصحاب شركات السفن، أما صغار الصيادين فتركوا قواربهم وعادوا إلى بيوتهم، حتى الأطفال الصغار في المناطق الحدودية تركوا مقاعد الدراسة و”امتهنوا” التهريب.

في حوارات الشباب الهادئة والطويلة مع مراهقين امتهنوا تهريب البضائع عبر الحدود المغربية تتجلى معالم كارثة سياسية اقتصادية، ولأنهم عرب فهم يريدون لبقية الأوطان الخير لا التناحر والعداء، ولهم ولأهلهم يتمنون توفير فرص عمل تجنبهم مغامرة التهريب التي لا يستنكفون عن وصفها بـ”الطفيلية”. إنها أعمال مخجلة لا يرتجونها بديلا لعمل نزيه، فالفلاحون والبحارة والطلبة كلهم يعانون من شظف عيش لا يتناسب مع ثروات بلاد طبيعية وبشرية هي موضع حسد الكثيرين.

كل مكان زاره وثائقي باديس معهم قادهم إلى موطن خلل متأتٍ من خلل أكبر منه، فمشاريع الصيد الخاصة لا تخضع لرقابة، وتسريبات سموم سفن تجارها الكبار ومصانعهم قتلت الأسماك، مما قلل من محصول الصيادين الصغار، كما قلّل غياب المكننة الزراعية أيضا محصول المزارع المعتمد في مناطق زراعية كثيرة على أدوات قديمة لا تتوافق مع بلد شديد القرب جغرافيا من بلدان تشهد ثورات تكنولوجية في حقل الإنتاج الزراعي. قسم من الثروات النفطية يُهرب إلى دول الجوار مقابل مواد غذائية يفترض بالدول البترولية أو الغازية توفيرها لمواطنيها.

لقد أضحى مواطنو “سويسرا أفريقيا” كما يطلق على الجزائر أمام خيار وحيد؛ الهروب منها نحو الجهة الثانية، أو العيش وسط ثروات لا ينعمون بها.

لا يتردد صانع الوثائقي المهم والمتنبئ عبد الله باديس بما سيحدث من استخدام الشعر والنص المكتوب وسيلة تعبيرية إضافية لإغناء متنه السردي

ورع ديني وحب للحياة.. خصال متأصلة

في خضمّ كل ذلك اليأس، يُشخّص الوثائقي الجزائري القطري الفرنسي الإنتاج خصلتين متلازمتين عند الجزائري؛ ورعه الديني وحبه للموسيقى، فالجزائري وعبر سلوك وتصرفات نماذج من الشباب المشارك في الرحلة نجده مؤمنا مسلما، دواخله متطامنة مع روحانية مترسخة، فلا غلواء ولا أفضال في تدينه على غيره.

أما أنه مُحب للحياة ومباهجها، فتلك هي خصلته الثانية غير المتعارضة مع الأولى، فأينما حلّ “المكتشفون” الجدد كانت الآلة الموسيقة هي نقطة جذب الآخرين إليهم، فالصبيان والشيوخ يأتون ويتشاركون مع عازفيها اللحن والغناء، حيث يتذوقون الفن والكلام الجميل، فمن هذا المكان انبثقت موسيقى “الراي” التي أحبها الناس كما أحبوا الغناء العربي الرصين.

لا يتردد صانع الوثائقي المهم والمتنبئ بما سيحدث من استخدام الشعر والنص المكتوب وسيلة تعبيرية إضافية لإغناء متنه السردي، ولا يتردد حتى في تشكيل مشاهد مسرحية تمسرح الحياة الجزائرية وتعكس تناقضاتها، وتضفي مقاطع مختارة من قصائد للشاعر الفلسطيني محمود درويش شاعرية على المشاهد الخارجية الملتقطة لتبرز جمال البلاد وروعتها.

تتوقف كاميرا باديس طويلا عند مساقط المياه وسفوح التلال وفي السهول الخضراء، تتأمل الأمكنة وتنقل لنا غنى وثراء بيئيا مدهشين، ومن غير العدل أن لا يتمتع أصحابها بها، فالجزائر والجزائريون وفق رؤية باديس يستحقون حياة أفضل من تلك التي يعيشونها اليوم، وربما لهذا السبب خرجوا مطالبين اليوم بتغيير يُرجع إليهم ما يحق لهم امتلاكه.