عودة الشاشة الصغيرة.. الدراما المصرية تنفض غبار كورونا

خالد عبد العزيز

طقوس شهر رمضان الكريم وأجواؤه الروحانية التي لا تتكرر سوى مرة كل عام نستقبلها ببهجة واشتياق، ساعات العبادة المُكللة بالصفاء النفسي توازيها ساعات أخرى من المتعة ينتظرها المتفرج كل عام، وذلك مع بدء موسم الدراما الرمضانية في الوطن العربي، من محيطه الأثير إلى خليجه الغالي.

إنها وجبة درامية دسمة في انتظار مُتلقيها، ويُقدمها صُنّاع الأعمال الفنية بعناية بالغة جلية لا تُخطئها عين طمعا في اقتناص رضا المتفرج، أصناف درامية عديدة، جميعها أمام متذوقها، يتذوق ما لذ وطاب، لكن تبقى في النهاية الوجبة الأشهى والأكثر اكتمالا.

لا شك أن جائحة كورونا أثرت بشكل أو بآخر على المشهد الإبداعي، ليبدو حجم الإنتاج في العام 2020 تحديدا متقلصا عن السنوات السابقة والتالية، كما أدت ظروف الجائحة إلى انحسار الأعمال السينمائية المعروضة، مما يجعل من سوق الدراما أرضا جديدة لصُنّاع السينما، يُوجهون إليها طاقتهم الفنية المكنونة، وبالتالي فمن الممكن ملاحظة مدى التطور اللافت للنظر حقا من الناحية الحرفية أو الفنية، واقتراب الدراما من السينما، وتأثرها بها بدرجة ما من ناحية الشكل تحديدا.

في هذا العام قدمت الدراما المصرية نحوا من 27 مسلسلا، وذلك في ازدياد لافت بالنسبة للكمّ عن العام 2020 الذي لم تقدم فيه إلا نحو سبع مسلسلات. بالتأكيد لا يكمن التقييم في الكم فقط، لكن في الكيف أيضا، ومن ناحية مضمون الأعمال ومدى جدّية الأفكار المطروحة، مما يمثل عاملا هامّا لاكتمال الرؤية.

 

انحسار الصعيد وصعود البطولات النسائية.. ملامح الموسم الجديد

يُعد الموسم الرمضاني الأكثر مشاهدة على مدار العام، لذا لا تبخل أيّ من الجهات الإنتاجية في تقديم عملها بصورة تليق بها، أو بأسماء الفنانين المشاركين، وقد بلغت الميزانية التقريبية -وفقا للتقارير المتاحة- للمسلسلات المعروضة نحو مليار جنيه، وبالتأكيد هذا رقم ضخم مقارنة بعدد المسلسلات، لكن تكلفة الإنتاج الباهظة لا بد أن يوازيها تقديم محتوى يحترم عقل المتفرج ولا يستهين به، وهذا يدفعنا للتساؤل عن مدى جدية الأعمال المُقدمة.

من ناحية أخرى تنوع الإنتاج الدرامي من حيث الشكل، فلا غلبة لنوع على آخر، بل على العكس من ذلك بدت بعض الأنواع في سبيلها للانحسار بشكل ملحوظ، مثل دراما الصعيد التي تتناول جنوب مصر وصعيده، فبعدما كانت هذه الأعمال في السابق تُشكّل قبلة المتفرج، فإنها افتقدت في السنوات الأخيرة طزاجتها وقدرتها على الجذب، ففي هذا العام لم يصمد من هذا النوع الدرامي سوى عملين هما مسلسل “موسى”، من تأليف ناصر عبد الرحمن، وإخراج محمد سلامة، ومسلسل “نسل الأغراب” من تأليف وإخراج محمد سامي.

وفي مقابل انحسار نوع على حساب آخر، برز في هذا الموسم ازدياد حجم البطولة النسائية مقارنة بالأعوام الماضية، فمن بين 27 مسلسلا جاء 11 عملا من بطولة نسائية، أي أكثر من الثلث، لكن ما سيدوم أثره طويلا ليست أسماء البطولات الحصرية لهذه الفنانة أو تلك، بل ماهية الأفكار المطروحة في هذه الأعمال، وهل طرقت المسكوت عنه في المجتمع؟ أم أن كل هذه الأعمال ما هي إلا ترديد لصدى نجومية لا يعلم سوى الله أحقيتها من زيفها؟

كما تعود في هذا الموسم الدراما القصيرة، أو الأعمال ذات الـ15 حلقة، مثل مسلسل “بين السما والأرض”، و”كوفيد 25″، و”عالم موازي”، وبالنظر إلى خريطة توزيع الفنانين على المسلسلات الرمضانية، نجد أن تنوّع حجم الإنتاج ما بين المسلسلات القصيرة أو الطويلة، يجعل الجميع في طور الظهور، وكأن شركات الإنتاج الفني تبحث عن خلق فرص عمل بما يوازي حجم الفنانين الزائد في اطراد واضح.

وفي هذا الإطار نستعرض قبسا من لمحات الدراما المصرية في الشهر الكريم، ونسعى لفض مغاليق تلك الأعمال، وهل قدمت جديدا على مستوى طرح الأفكار والاشتباك مع القضايا الهامة أو المجتمعية؟ أم أن ما ظهر على الشاشة هو ما بطن من خواء وجدب في التناول؟

 

السينما التاريخية.. عين مصر التواقة إلى الماضي

تزايدت في السنوات الأخيرة الأعمال الدرامية التي تتناول الماضي، أو تدور أحداثها في فترات تاريخية سابقة، فبعضها يرغب في سبر أغوار أزمنة مضت، والبعض الآخر لا يُقدم مصر سوى بعين تتوق للعودة للوراء، دون قول جديد أو إبراز مغزى ما لجعل الأحداث تدور في هذه الحقبة أو تلك.

يقول الناقد السينمائي الراحل سمير فريد: للفنان الحق في تناوله للتاريخ، وإما أن تكون لديه الإمكانيات للتعبير من خلال الواقعية التاريخية، أو لا تكون لديه مثل هذه الإمكانيات، فيلجأ إلى التعبير من خلال التجريد التاريخي إذا جاز التعبير.

وفي مسلسل “قصر النيل” من سيناريو وحوار محمد سليمان عبد المالك، وإخراج خالد مرعي، نرى التاريخ أو الواقعية التاريخية في تناول الماضي من خلال تلك الإمكانيات البراقة للتعبير عن مصر في ستينيات القرن الماضي في وهج الحقبة الناصرية بكل ما لها وما عليها، ففكرة المسلسل تدور حول شهوة الانتقام، ومدى فعالية جذوة الانتقام المشتعلة في قنص الحق المُهدر بفعل سطوة القوة، أو بواقع الزمن المدرار.

الممثلة دينا الشربيني بدور كاميليا التي تعود من بريطانيا للانتقام من عائلة متورطة في مقتل والدها

 

“قصر النيل”.. عودة كاميليا للانتقام من قاتل أبيها

تدور أحداث مسلسل “قصر النيل” في إطار يحكمه الإثارة والتشويق حول كاميليا (الممثلة دينا الشربيني) التي تعود من بريطانيا، وذلك للانتقام من عائلة السيوفي المتورطة في مقتل والدها، لكن هذا الانتقام الشخصي يدور في فلك أكبر، وهو تقديم نظرة أكثر عمقا لفترة الستنييات، ولا مانع من صِبغة الدراما بجرعة لا بأس بها من الانتقاد الحاد واللاذع أحيانا، ليس لعصر بعينه، بل يمتد هذا النقد للعصر الملكي وما قبل إعلان الجمهورية، وللحق، فإن هذا النقد وتلك النظرة الواسعة لأي فترة سابقة مُبررة، ولها دوافعها التاريخية التي لا تقبل الشك.

نسج السيناريو أحداثه بأسلوب متعرج لا يسير بمنوال ثابت، إذ يبدأ السرد في الستينيات ثم تتخلله قفزات زمنية للوراء، ولا شك أن “الفلاش باك” (العودة للوراء) هنا يضيف بعدا آخر للحكاية، فيزيد من جرعة التشويق ويجعلها أكثر طزاجة لتكتمل الحكاية، شذرات الماضي تتلاحم مع الحاضر كاشفة عن أبعاد القصة ومضمونها.

هذه القصة التي تدور رحاها بين أزمنة عدة يقابلها بذخ إنتاجي جلي سواء من ناحية الإكسسوارات أو الديكورات الباهظة التي بدت متأرجحة بين فخامة الأربعينيات وبساطة الستينيات، مما يجعل المسلسل بشكل عام شديد الجاذبية، سواء على مستوى الشكل أو المضمون الذي اتخذ من حبكة عادية أرضا للانطلاق، وقول ما يندر قوله عن ماضٍ لا تزال آثاره تطالعنا بين حين وآخر.

 

“لعبة نيوتن”.. ظلال النظريات الفيزيائية على حياتنا

تناولت الأعمال الفنية العلاقة بين الرجل والمرأة ونظرة كل منهما للآخر، كما تبعث تلك الأعمال السؤال الدائم من مرقده، من يُدير العلاقة ويتحكم في دفتها، هو هل الرجل أم المرأة؟

وفي مسلسل “لعبة نيوتن” من قصة وإخراج تامر محسن، وبمشاركة في السيناريو من ورشة كتابة تقودها مها الوزير؛ يتطرق السيناريو إلى حساسية العلاقة بين الرجل والمرأة بأسلوب مغاير ورؤية تشق غبار الواقع، ويتمثل ذلك في بحث الزوجة الدؤوب عن حريتها الممزوجة بشرنقة الزوج.

يبدأ المسلسل بداية مشوبة بالتوتر الشديد، ذلك التوتر الذي سيصاحبنا طوال الحلقات، إذ نرى هناء (الممثلة منى زكي) أثناء وصولها إلى الولايات المتحدة في رحلة عمل تستغرق أياما، لكن مع تقدم السرد تتكشف ملامح القصة التي تأخذ منحى آخر، امرأة مصرية ترغب في وضع طفلها في الأراضي الأمريكية طمعا في الحصول على مزايا الجنسية الأمريكية للمولود.

بداية قد تبدو طبيعية ومكررة نوعا ما، لكن السيناريو -الذي عُنون باسم صاحب أشهر النظريات الفيزيائية “نيوتن”- يخبئ في جعبته الكثير من الأحداث، حيث يقول المخرج تامر محسن عن مغزى عنوان العمل: اسم المسلسل مستوحى من “قانون نيوتن الثالث”، ألا وهو “لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار”، وبالتالي تتضح تلك النظرية في مسار العلاقة بين حازم الزوج (الممثل محمد ممدوح) وزوجته هنا.

 

هنا وحازم.. بركان من التوتر الجاذب

نسج السيناريو الأحداث لتسير في خطين سرديين متوازيين، الخط الأول هو هَنا وحياتها الجديدة في الولايات المتحدة، أما الخط الثاني فيدور حول حازم الذي يستكمل حياته في مصر، ولكل خط منهما عقباته ونقاط حبكته التي تساهم في تعقيد الأحداث ودفعها للأمام، مما يُفجر بركانا من التوتر الجاذب للمتفرج، ويدفعه للُّهاث وراء الأحداث بحثا عن ما يروي ظمأه.

يعتمد المخرج تامر محسن في بنائه للدراما على التفاصيل الصغيرة التي تكشف عن سمات كل شخصية، وبشكل يجعلها أكثر قابلية للتصديق، ففي المشاهد الأولى نرى هَنا بعد انقطاع الكهرباء عن منزلها وانغلاق الباب عليها، ليصبح الباب هو الفاصل بين هنا وحازم، وكل منهما يسعى لكسر الباب أو إصلاحه، في دلالة لتعقد العلاقة بين الزوجين ووجود حاجز بينهما، ذلك الحاجز الذي سيتراكم تأثيره مع مرور الوقت.

قضايا مُتعددة يطرحها المسلسل في سرد درامي مُحكم، يضع شخصياته في مرمى وابل من الضغوط الحياتية التي تتماس بشكل أو بآخر مع حياة المتفرج نفسه، مما يجعل حياة أبطال العمل الدرامي حازم وهنا انعكاسا لحياة الكثيرين، وتظهر بين طيات تلك الضغوط والمفارقات الدرامية أسئلة تبحث عن جواب، مثل قابلية الفرد للانسياق وراء عدم القانون، ومدى مشروعية تلك الأفعال التي تقع تحت طائلة الإكراه في الحياة.

كل ذلك يقدمه المسلسل وفق إيقاع مشدود كالوتر، وبأسلوب فني مميز لا يشبه غيره، يُدرك المتفرج بصمة صانعه فور مطالعته.

 

“بين السما والأرض”.. إثارة اجتماعية في المصعد المتعطل

نادرة تلك الأعمال الفنية التي تتناول الفرد والعالم المُحيط به ورؤيته لمن حوله، هذه النظرة التي تنطلق من الداخل للخارج، لتصبغ الدراما بنظرة ثاقبة للمجتمع عموما، فحيوات البشر يمس بعضها بعضا وتلتقي دروبهم بطريقة أو بأخرى، مما يجعل وحدة المصير هي الكفة الأرجح في معادلة الحياة.

في إعادة للفيلم المصري “بين السما والأرض” الذي أُنتج عام 1960 عن قصة نجيب محفوظ وإخراج صلاح أبو سيف، ويُعد من كلاسيكيات السينما المصرية والعربية؛ جاء هذا العام مسلسل “بين السما والأرض” بمعالجة درامية وسيناريو وحوار من إسلام حافظ، وإخراج محمد العدل، لكنه لا يطرح فقط ما سبق تقديمه من أفكار في الفيلم، بل يُضيف عليه وفق متطلبات العصر وتغيّر وتبدل الرؤى للمجتمع المصري على وجه التحديد، وما طرأ عليه من تبديلات تستحق الوقوف أمامها.

تدور أحداث المسلسل في إطار اجتماعي تحكمه الإثارة حول مصعد يتعطل بإحدى البنايات، ويحوي بداخله مجموعة من الشخصيات ذوات الميول والخلفيات المختلفة، وعلى الجانب الآخر نرى حارس العقار يسعى لحل الأزمة وإنقاذ روّاد المصعد المنتظرين عودة الكهرباء، أو بالأحرى استعادتهم الحياة مرة أخرى بعد الموت.

مشهد من مسلسل “بين السماء والأرض”، حيث الشخص محشورة في بقعة ضيقة وهي المصعد المُتعطّل

 

“الفلاش باك”.. فرشاة تلوين الشخصيات في اللوحة

نسج السيناريو أحداثه ببراعة ورسم لكل شخصية حياتها وخلفياتها، والأهم أزمتها ودوافعها لزيارة البناية في هذا الوقت على وجه التحديد، مما يجعلنا أمام عالم متكامل يحوي من الأصناف والأنماط البشرية ما لا يُعدّ ولا يحصى، فالأعمال التي تدور أحداثها في مكان واحد، دوما ما يكتنفها الملل، أو يصاحبها الإيقاع البطيء، وعدم دفع السرد بما يُغذيه من حبكات تدفع وتطور القصة نحو ذروة محتملة.

لكن في هذا المسلسل بدا عكس المتوقع، فالأحداث تتدفق بسهولة ويسر، وتكشف عن ماضي الشخصيات وحيواتها عبر تقنية “الفلاش باك”، الذي بدا هنا -حتى مع الإفراط في اللجوء إليه- مُبررا، فبدونه ستفقد الدراما ركنا أساسيا في بنائها، مما يزيد من جرعة الترقب لدى المتفرج.

أمامنا عشر شخصيات دفعها القدر للحشر في بقعة مُصغرة، ولكل منهم عالمه المتفرد القائم بذاته، لكن فجأة تتوحد تلك العوالم في تلك المساحة الضيقة، ثم تتوحد مصائرهم، فبعد أن كان كل طرف يبغي الخلاص لنفسه، تبدلت رؤيتهم وأصبح الكل واحدا، وهنا يطرق السيناريو نقطة جوهرية في مضمون العمل، ألا وهي تقديم رؤية رمزية للمجتمع بكافة أنماطه وأنواعه المتباينة، وكيف يصبح هم الخلاص الإنساني من المأزق هما عاما بعدما انفلت من أسر الرؤية الخاصة.

 

تقلص الاحتكار وتزايد الحركة.. حصاد الموسم الدرامي

بنظرة مبدئية، يُمكن القول إن دراما هذا العام تفوقت بنسبة ليست بالهيّنة عن السنة السابقة، سواء على المستوى الشكل والمضمون، أو الكم والكيف، ويتجلى ذلك في اتجاه صناع الأعمال الفنية نحو أفكار وقضايا غير مطروقة من قبل، أو إعادة طرح الأفكار القديمة أو المستهلكة بمعالجات جديدة، أو الاشتباك مع قضايا الرأي العام بجرأة، مثل مسلسل “الطاووس” من تأليف كريم الدليل، وبإشراف على الكتابة من محمد ناير، وإخراج رؤوف عبد العزيز، وهو مسلسل يتماس مع قضايا الاغتصاب واستغلال النفوذ، وكل ذلك جعل المستوى الفني للأعمال يرتفع هذا العام.

على مستوى الصناعة والقدرة السوقية، تقلصت نسبة احتكار كيان واحد على السوق الدرامي، فهذا العام بلغ إنتاج شركة “سينرجي” -القائمة على النسبة الأكبر من الإنتاج الفني في مصر- حوالي 13 مسلسلا من إجمالي 27 مسلسلا، مما أفسح المجال لعودة بعض شركات الإنتاج للساحة مُجددا، وبما يسمح بتنوع الإنتاج وتداول الأفكار بصورة أوسع قليلا، ولو بقدر يسير.

نقطة أخرى من الممكن ملاحظتها بالعين المُجردة، وهي ارتفاع نسبة الأعمال الدرامية المعتمدة على الأكشن أو الحركة، والسبب في هذا يعود إلى انحسار السينما، ودورها في تقديم هذه الأعمال، فاتسعت الشاشة الصغيرة لمثل تلك النوعية من الدراما، لكن على المستوى الفني لا يزال بعض هذه الأعمال يعاني من الضعف، سواء على مستوى الأفكار المطروحة، أو الاستسهال في التنفيذ.

رؤى عديدة ورسائل مُبطنة تضمنتها الدراما الرمضانية هذا العام، بعضها جديد والآخر إعادة تدوير للقديم، ولا شك أن الإبهار الشكلي طغى على المضمون، ويبقى في نهاية السباق العمل الأجدر هو الجاذب لعقل المتفرج لا بصره فقط. تُرى أي عمل من تلك الوجبة الدسمة سيحظى بالدرجة العليا، وأيهم سيتوارى في الظلال؟