عودة “وحش المال” إلى وول ستريت

 
أمير العمري
 
على العكس مما يبدو من النظرة الأولى، لا أعتقد أن الموضوع الرئيسي في فيلم “وحش المال” Money Monster – رابع الأفلام التي أخرجتها الممثلة الأمريكية جودي فوستر- هو موضوع “حيتان وول ستريت”.
صحيح أنه يدور حول “كايل بودويل” (جاك أوكونيل) الشاب الذي يخسر كل ما يملك بما في ذلك ما ورثه عن أمه، أي ما يبلغ ستين ألف دولار، وهي دون شك، ثروة بمقاييس عامل بسيط، لا يكسب أكثر من 9 دولارات في الساعة كما يشكو في حواره مع المذيع التليفزيوني الشهير “لي غيتس” (جورج كلوني).
 
غير أن ما يستولي على الأنظار معظم الوقت، كما يسيطر تماما على الفيلم في كل لقطة من لقطاته، هو ذلك الحضور المباشر للإعلام التليفزيوني الأمريكي، كيف يلعب الدور الأساسي في الترويج للوهم، للمكاسب الضخمة التي تنتظر المضاربين في البورصة، من خلال البرنامج الذي يقدمه لي غيتس في سياق شديد الجاذبية، يجعل كل شئ يبدو أمام الأمريكيين البسطاء وكأنه “لعبة” مضمونة النجاح.
 
 يتعامل التليفزيون باعتباره “عرضا للفُرجة”، أي للتسلية، مع المسائل المالية، الاستثمار والمضاربة وشراء الأسهم وبيعها، ويصورها للجمهور العام من خلال برنامج “وحش المال” من خلال شكل أقرب إلى برامج المنوعات والتسلية الاستعراضية، فهناك راقصات شبه عاريات تحطن بنجم البرنامج جورج كلوني، يتمايلن معه على الإيقاعات الراقصة، ليضمن تسويق مادته الدعائية لما تعرضه شركات المال في “وول ستريت” كحلّ سحري لمشاكل البسطاء، ومراهنة على المضمون، لينتهي عامل نقل بائس مثل “كايل”، هو نموذج لملايين الأمريكيين الواهمين الحالمين بتحقيق الثراء المفاجئ، إلى خسارة كل ما يملك، ثم يركز الفيلم على كيفية تعامل البرنامج التليفزيوني مع مأساة كايل الشخصية ويحولها إلى مادة استثنائية للفرجة من أجل تحقيق أكبر قدر من الإثارة، يتابعها فريق البرنامج بقيادة منتجته ومخرجته “باتي” (جوليا روبرتس) لحظة بلحظة على الهواء مباشرة، ويصور كيف تلهث “باتي” وراء الكواليس من أجل كشف الحقيقة، حقيقة ما مارسته الشركة من خداع أدى إلى ضياع ملايين الدولارات من أموال الحالمين.
 
إن سعي “باتي” لكشف الحقيقة ليس من أجل الحق بالطبع رغم تعاطفها الذي لاشك فيه مع العامل المحبط “كايل” الذي يحتجز مقدم البرنامج غيتس – كلوني على الهواء مباشرة ويهدد بنسف الاستديو بمن فيه بحزام ناسف يرغم غيتس على ارتدائه بينما يمسك هو بالريموت بجهاز التفجير في يده.. فهدف باتي.. ابنة عالم التليفزيون، التي تتمتع بمهارة كبيرة في إدارة عملها، هو أساسا، تحقيق أكبر قدر من الإثارة. إنها تسأل بين حين وآخر: كم يبلغ عدد من يشاهدونا الآن؟ فتأتيها الإجابة: كل الناس يشاهدوننا.. عشرات الملايين.. ربما العالم كله!
 
يتوقف الفيلم أمام “وول ستريت” وشركات المضاربة المالية وما يحيطها من فساد يتمثل هنا في مدير إحدى هذه الشركات الذي يستولي – عن طريق التلاعب – على 800 مليون دولار من أموال “الأبرياء” من المضاربين، ثم يهرب بها إلى جنوب أفريقيا، إلى أن يجد نفسه مرغما على الوقوف أمام الكاميرا في النهاية، يواجه غيتس وكايل، شارحا الأمر بكل بساطة: “ليست هناك جريمة أو مخالفة قانونية.. بل هذا هو القانون.. وهو ما يفعله الجميع كل يوم في العالم كله.. واسألوا الروس والصينيين.. ثم أنت لا تشكو عندما نتيح لك أن تربح المال.. لكنك تأتي لتشكو فقط عندما تخسر رغم أنك تعرف المخاطرة”!
 
 
ممارسات الغش والخديعة والتحايل من أجل الاستئثار بالثروة على حساب الضعفاء، وتصوير آليات الاحتيال، وشهوة السيطرة والتربُّح، سبق أن رأيناها، ربما على نحو أفضل، في فيلم المخرج أوليفر ستون “وول ستريت” (1987). وفيه يروي كيف يستيقظ وعي شاب يعمل داخل إحدى الشركات المالية العملاقة على ما يحدث من تلاعب يسبب الدمار لملايين الأشخاص، فيتمرد على رئيسه في الشركة، ويسعى لكشفه وتدميره مستغلا التناقضات والصراعات القائمة بين الشركات المالية. 
كان هذا “البطل” المتمرد، الذي قام بدوره ببراعة الممثل “شارلي شين”، يفضح الفساد من الداخل. وفي “وحش المال” يصبح المعادل الدرامي لشخصية شارلي شين في “وول ستريت” “ديان ليستر” (كاتريونا بالفي)، الناطقة باسم الشركة، التي تقرر التمرد على رئيسها الذي سنعرف لاحقا أنه أيضا عشيقها، وتتعاون مع منتجة البرنامج التليفزيوني في كشف حقيقة ما وقع من الاستيلاء على 800 مليون دولار من أموال المضاربين، وبالتالي ترغم رئيسها على الظهور أمام الكاميرا – على الهواء مباشرة أمام ملايين المشاهدين – بحيث لا يمكنه وهو عرضة للتهديد بالقتل من جانب كايل، أن ينفي قيامه بالخداع.. هكذا بكل بساطة حسب الطريقة الأمريكية المثيرة التي تجعل كل شئ يتم أيضا بقوة السلاح!
 
يبدو غضب كايل في البداية موجها للمذيع التليفزيوني (غيتس)، لكنه سرعان ما يتجه ناحية الشركة التي تتحمل مسؤولية ما وقع له من خسارة بشكل مباشر، وهو يريد أن يعرف الحقيقة ويكشفها للملايين على الهواء، أي كيف كان ممكنا أن يحدث ما حدث. في البداية تتحول مشاعر المذيع النجم (غيتس) من الخوف على حياته والرغبة في النجاة، إلى التعاطف مع الشاب- الضحية، ثم يكتسب تدريجيا، ثقة أكثر وحرية أكبر في الحركة، بعد أن يسقط في يد كايل ويكاد ينهار خاصة بعد أن يعرف أن الشرطة تحاصر الاستديو التليفزيوني، ثم بعد أن يحضروا أيضا صديقته (وهي حامل منه) تخاطبه من وراء الزجاج عبر إحدى الشاشات، لتصب عليه اللعنات في مونولوغ طويل مباشر شديد القسوة، وتتهمه بالغباء والحماقة وبأنه المسؤول الوحيد عن تبديد المبلغ الذي كان سندهما الوحيد في الحياة وهما ينتظران طفلهما الأول.
 
يتحول غيتس – كلوني السعي لإنقاذ حياته والإفلات من مصيره المرعب خاصة وأنه يرتدي ذلك الحزام المملوء بالمتفجرات، ويصبح هو المتحكم في “كايل”، يقوده خارج مبنى القناة التليفزيونية، إلى الشارع، ليقطع كلاهما مسيرة عجيبة نحو مقرّ الشركة في “وول ستريت” في واحد من أفضل مشاهد الفيلم من ناحية التنفيذ والإخراج، مع براعة واضحة من جانب المونتاج في الانتقال بين مختلف شخصيات الفيلم  من أماكن وزوايا مختلفة، في دقة لا تسقط منها أي تفصيلة، وحيث تحضر باستمرار شاشات العرض التليفزيوني وما يتوالى عليها من شرائط تحصل عليها بأعجوبة منتجة البرنامج بفضل اتصالاتها وعلاقاتها بأطراف خارج الموضوع، منها شاب متخصص في اختراق أنظمة الكومبيوتر، بحيث تضمن المخرجة، وضع المشاهدين في قلب الفيلم وكأننا نعيش مع أبطاله تلك الحالة من اللهاث من أجل الوصول إلى الحقيقة، ومن ثم إنقاذ حياة بطله الحقيقي أي غيتس – كلوني، وتفادي وقوع انفجار يتسبب في قتل المئات، قبل أن يعترف كايل لغيتس أن الحزام الذي يرتديه لا يحتوي على متفجرات بل على كتل من الطين!
 
 
تتسق فكرة استخدام شاشات العرض، التي تتوفر في كل مكان ويتم أيضا نقلها من مكان إلى آخر، حتى داخل الشركة أي بعيدا عن مقر القناة التليفزيونية، مع توصيل دائرة مباشرة تنقل على الهواء ما تريد أن تبثه المنتجة التي تقبع طول الوقت داخل حجرة التحكم، مع فكرة الفيلم الأساسية التي تتمثل في “قوة الميديا المصورة”، وكيف أصبحنا أسرى لها كمشاهدين. 
 
هنا يقول لنا الفيلم إنه إذا كان ما يبثه التليفزيون هو ما تسبب في وقوع الكارثة المالية لملايين الأشخاص، فهو نفسه الذي يقوم بتصويب الأمر، ولكنه خلال عملية “التصحيح” عن طريق الكشف، يستخدم الحدث وتطوراته ليجعل من المأساة الشخصية سلعة تكفل رفع نسبة المشاهدة ثم ضمان تدفق المزيد من الإعلانات.
 
نجح جورج كلوني في تقمص دور لي غيتس والتماهي معه مستغلا نجوميته وما يتمتع به من “كاريزما” خاصة لدى جمهور السينما، واستطاع أن يمسك بمقود الفيلم، ويدير “العرض” – التليفزيوني والسينمائي بالتالي، كما كان دور منتجة البرنامج التليفزوني مناسبا تماما لشخصية جوليا روبرتس، فجاء أداؤها مقنعا ولعله الأداء الأفضل لها منذ سنوات، فهو يعكس نضجها الكبير وقدرتها على إدارة الأمور من وراء الكواليس في الفيلم بالطبع، أما أداء الممثل الإنجليزي جاك أوكونيل في دور “كايل” فجاء نمطيا جامدا ربما بفعل معالم الشخصية التي يؤديها التي لم تتطور كثيرا. 
 
 جودي فوستر أخرجت هنا موضوعا قديما، ربما يكون أيضا قد سبق تقديمه بصورة جيدة في فيلم “الشبكة” The Network وغيره، ولكنها قدمت الموضوع بأسلوب سينمائي حديث من الناحية الشكلية، أما من  ناحية البناء أو أسلوب السرد، فلا يتجاوز المسار العام للفيلم الهوليوودي المثير، الذي يكثر فيه الحوار بدرجة مزعجة أحيانا، وتحتبس فيه الأحداث داخل الاستديو التليفزيوني المغلق، لأكثر من ساعة، قبل أن تنتفض كل أدوات الإنتاج من أجل تنفيذ المشاهد الأخيرة من الفيلم التي ترتفع به، وتجعله فيلما جديرا بالمشاهدة.. ولم لا!