غرب نهر الأردن

أمير العمري

في فيلمه التسجيلي الطويل “يوميات حملة” Diary of a Campaign الذي أخرجه المخرج الإسرائيلي “آموس غيتاي” عام 1982، كان يقدم تجربة جديدة في استخدام الكاميرا في الفيلم التسجيلي بعيدًا عن التغطيات المألوفة للأحداث السياسية كما نراها في التقارير التليفزيونية. وقد صور “غيتاي” هذا الفيلم في الأشهر الثلاثة التي سبقت الاجتياح الإسرائيلي للأراضي اللبنانية عام 1982، لكن الفيلم كان بمثابة نبوءة بالأحداث الدامية التي أعقبت ذلك.
كان هذا فيلمًا عن الاحتلال، وعن شعور المحتل بعدم الثقة والاضطراب والقلق في مواجهة الكاميرا السينمائية. وفيه يصور “غيتاي” مظاهر الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة، المواجهات اليومية بين الإسرائيليين والفلسطينيين، هستيريا الاحتلال والقوة الطاغية والقهر عندما تصطدم بإرادة شعب مصمم على البقاء. لم يكن هذا فيلمًا عن الصمود الفلسطيني، بقدر ما كان فيلمًا عن الخلخلة التي أحدثها الاحتلال من جهة، والصمود الفلسطيني من جهة أخري، في البنية الإسرائيلية.

استخدم “غيتاي” في فيلمه اللقطات الطويلة بطريقة كانت تتجاوز كل ما هو مألوف في السينما، فالكاميرا تظل متركزة على شخص ما لعدة دقائق دون قطع قبل أن تنتقل إلى متابعة موقف آخر أو شخص آخر. وقد صور معظم مشاهد فيلمه من خلال سيارة تتحرك عبر الطرق، تتابع الأحداث وترصد التناقضات. كذلك كان يتعامل مع الشخصيات العادية من الإسرائيليين والفلسطينيين، ولم يلجأ إلى إجراء المقابلات مع الرموز أو المسؤولين، ربما باستثناء رحلته الغريبة بالكاميرا إلى منزل “بسام الشكعة”، عمدة مدينة نابلس الذي بترت ساقاه في أعقاب محاولة إرهابية إسرائيلية لاغتياله. 

اليوم بعد 35 سنة من “يوميات حملة” يعود “آموس غيتاي” بفيلم تسجيلي جديد هو “غرب نهر الأردن” West of the Jordan River الذي عرض للمرة الأولى في تظاهرة “نصف شهر المخرجين” بمهرجان “كان” الأخير حيث قام “غيتاي” بتقديم فيلمه للجمهور ثم مناقشته معه في نهاية العرض. وهو يضيف إلى العنوان الرئيسي للفيلم عنوانا فرعيًا هو “عودة جديدة إلى يوميات حملة”. والفيلم يوضح أن موقف “غيتاي” لم يتغير كثيرًا عما كان في الماضي، فهو لايزال مؤمنا بحتمية التعايش بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ومازال يرى- كما يعبر عن ذلك حرفيًا في فيلمه الجديد- أن المشكلة تكمن في المتطرفين على كلا الطرفين.

إنه مرة أخرى، يستقل سيارة يجوب بها مناطق متفرقة من الضفة الغربية وعلى الأخص، مدينة الخليل التي ترتفع فيها حدة التوتر بين الطرفين بسبب وجود المستوطنين اليهود في قلب المجتمع الفلسطيني، يصور حينًا من داخل السيارة التي يصحبه فيها طاقم صغير للتصوير، أو يتوقف ويهبط ليقترب أكثر من الشخصيات التي يحاورها، يحاول أن يلتقط كل ما من شأنه أن يدعم وجهة نظره “المسبقة” التي تقر بوجود مشكلة غياب الثقة بين الطرفين، بسبب الضغوط التي تمارسها جماعات المستوطنين الإسرائيليين من جهة، وجماعات التطرف الفلسطيني من جهة أخرى، لكنه يرى أن هناك مساحة كبيرة للأمل رغم كل معالم التشاؤم. يتحاور “غيتاي” مع عدد كبير من الشخصيات، من الناس العاديين من صفوف الفلسطينيين والإسرائيليين، ومن المسؤولين -السابقين والحاليين- ينتقل من العقائدي إلى السياسي، ومن السياسي إلى الإنساني، ومن الفقدان المشترك، إلى القناعات الراسخة حول الحقوق التاريخية. وهو يبدأ وينتهي دائمًا عند مقابلته الشهيرة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق “إسحق رابين” الذي سبق أن أخرج عنه وعن ملابسات اغتياله فيلمًا مستقلاً قبل عامين.

“غيتاي” لا يبدو مشغولاً كثيرًا هنا بالشكل السينمائي كما كان في “يوميات حملة”، أي بحركة الكاميرا الطويلة التي أصبحت السمة المميزة لأفلامه خلال العقود التالية، بل يبدو اهتمامه منصبًا على استكشاف الوضع الراهن، الذهني والعقلي، العاطفي والوجداني، بين الفلسطينيين والإسرائيليين، من الناس العاديين الذين يعيشون على أرض واحدة، يشتركون في أشياء ويتصارعون حول الكثير من الأشياء. يحاول أن يعرف بما يشعرون إزاء بعضهم البعض بعد كل هذا السيل من الدماء، وكل هذه الحروب والعنف والكراهية والنفور والبغضاء طوال تلك السنين، هل هناك أمل، هل هناك إمكانية للتعايش المشترك، أو لمجرد الاعتراف بحقوق الطرف الآخر في العيش الكريم؟ هل يمكن التطلع إلى الآخر بنظرة إنسانية، هل يمكن أن يصبح الفقدان المشترك، للابن، للزوج، للرفيق، أساسًا لبناء جسر مشترك مع الآخر؟

حساسية الموضوع تجعل “غيتاي” الذي يمر على شخصيات عديدة، يخرج في الكثير من الأحيان عن الالتزام بدور المراقب المحايد الصامت، الذي يكتفي بطرح الأسئلة، فهو يصر على التنقيب أكثر فيما وراء الاسئلة، وعندما لا يحصل على الجواب الشافي يعيد طرح السؤال بطريقة أخرى، وكثيرًا ما يتدخل لكي يعبر عن رأيه، عن غضبه الشخصي من غياب العقل، ومن ذلك الاستسلام الراسخ لمقولات ثابتة لم تنتج سوى العنف والكراهية.  وبهذا المعنى يمكن اعتبار “غرب نهر الأردن” فيلمًا شخصيًا عما يشعر به “غيتاي” اليوم. عن غضبه الشخصي من حالة العجز التي وصلت إليها السياسة، فبات من الضروري البحث عن طرق أخرى لتحقيق السلام. منذ اغتيال “رابين” في 1995، الذي أجرى معه “غيتاي” مقابلة شهيرة مصورة وقت أن كانت مظاهرات الغضب من قبل جماعات وأحزاب اليمين المتطرف تهتف بموته في شوارع “تل أبيب”، و”غيتاي” الذي عاد من منفاه الاختياري الطويل في باريس ليشهد ما بعد “أوسلو”، يشعر بنوع من الصدمة الشخصية، المهانة، بأنه تلقى لطمة كبيرة، هي جزء من الصدمة العامة التي ساهمت في دفع مجرى الأحداث خطوات إلى الوراء، إلى نقطة “اللا أمل”.

ومع ذلك ففيلم “آموس غيتاي” الجديد فيلم متفائل. صحيح أنه يتوقف أمام بعض الشخصيات المؤدلجة وصاحبة الخبرة السياسية السابقة مثل وزيرة الخارجية السابقة “تسيبي ليفني”، وغيرها، على اليمين وعلى اليسار، من الصحفيين والسياسيين والنشطاء، من الشيوخ والكبار بل ويلتقي طفلاً فلسطينيًا أيضًا، يحاورهم ويحاول أن يجعلهم يدركون أن جماعات التطرف على الجانب الفلسطيني هي السبب في تعطل مسيرة السلام، متذرعا بالعمليات الانتحارية التي وقعت في إسرائيل بعد توقيع اتفاق “أوسلو” بين “رابين” وعرفات في البيت الأبيض، لكنه من ناحية أخرى يدرك جيدًا أن “رابين”- كما يقول له أحد الفلسطينيين بكل بساطة ووضوح رؤية- اغتيل على يدي يهودي متطرف وليس على يد فلسطيني!

 

 

 يتمثل التفاؤل في تركيز الفيلم كثيرًا على دور منظمات المجتمع المدني داخل إسرائيل في كشف الممارسات التي يرتبكها المستوطنون أو جنود الجيش ضد الفلسطينيين، من هذه المنظمات منظمة “كسر الصمت” الإسرائيلية التي توثق الشهادات التي يرويها الجنود السابقون في الجيش الإسرائيلي عما لاقوه خلال مهماتهم في قمع الانتفاضة، وذلك الشعور المتزايد بالذنب إزاء ما وقع من تجاوزات. وهناك أيضا منظمة “بتسيلم” للدفاع عن حقوق الإنسان التي يلتقي عددًا من النشطاء العاملين فيها من الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، ويستمع إلى شهاداتهم عن ممارسات الاحتلال، لكن أهم ما يتوقف أمامه طويلاً هو منتدى العائلات الثكلى من الإسرائيليات والفلسطينيات، اللاتي تشتركن في الشعور بالألم لفقدان الابن أو الزوج، تروي الكثيرات منهن أمام الكاميرا كيف توصلت شعوريًا ووجدانيًا إلى ضرورة الإحساس بما تشعر به المرأة على الطرف الآخر من آلام، وبالتالي أصبح من الممكن النضال المشترك معًا من أجل ألا تستمر الجروح والخسائر.

 

المشهد الأخير في الفيلم يصور اشتراك مجموعة من الفلسطينيين والإسرائيليين من كل الأجيال، من دعاة السلام، في حفل مشترك حيث يغني الإسرائيليون الأغاني العربية ويرقص الإسرائيليون والفلسطينيون معًا، في نوع من “اليوتوبيا” التي يحلم “غيتاي” بأن تفرض نفسها مستقبلاً بعد أن يتخلى الطرفان عن الكراهية والعنف المتبادل. والفيلم على هذا النحو، يوازن بين الطرفين، ويلقي المسؤولية على عاتقهما بالتساوي، في تغافل واضح عن مسؤولية الطرف المحتل الذي يملك القوة المسلحة الأسطورية، ويمارس القهر والقمع كأقوى ما يكون. وهي رؤية تتسق مع ما يصوره الكثير من أفلام السينما الإسرائيلية المعدلة التي ترفض الصهيونية دون أن ترفض إسرائيل نفسها، تتعاطف مع الطرف الفلسطيني وحقه في دولة مستقلة، دون أن تتخلى عن تبرير العنف المضاد بدعوى الدفاع عن النفس، وهكذا بحيث يستمر النزاع، ويستمر معه الحلم الوهمي بالتعايش رغم كل ما وقع ويقع من ظلم واضطهاد.

رُغم ذلك قد تكون ميزة فيلم “غيتاي” أنه يكشف بوضوح، من خلال ما يطرحه الكثير من الشخصيات الليبرالية واليسارية التي تظهر فيه، من إدانة دامغة للممارسات الصهيونية، والاعتراف الواضح بفشل المشروع الصهيوني في تحقيق الأمن للإسرائيليين، وبالتالي ضرورة البحث عن وسيلة أخرى غير الحرب، من أجل التوصل إلى السلام.