“غزة مونامور”.. قصة حب ومعاناة في أكناف الإله أبولو

أسماء الغول

يبدو أنّ القدرة على مشاهدة فيلم “غزة مونامور” تبدو مثل البحث عن الألماس، فقد وصلني الرابط بسريّة، وبعد تشديدات على أن لا أرسله إلى أحد شاهدت الفيلم الذي صعد إلى الأوسكار باسم فلسطين مع الفجر، خوفا من أن يُحذف الرابط.

يتناول الفيلم ما تدور حوله حياة الأخوين المخرجين التوأم عرب وطرزان، أي مكان ولادتهما ونشأتهما غزة، تماما كما تتحور أفلامهما السابقة حول هذه المدينة الجدلية، ولكن هذه المرة لم يتناولا الألوان الفاقعة في سيرة المدينة، فلم يتحدثا عن الحرب مثل فيلمهما “كوندم ليد” (2013)، وليست الحريات بالتأكيد كما فيلمهما “دغراديه” (2016)، بل سارا بخفة من فوق غزة بكل تناقضاتها التي يقع في فخها كثير من المخرجين والمصورين والكتاب.

 

لقد صوراها كما يليق بها في ثيمة عالمية، أي قصة محلية دون الوقوع بأسر ما تراه الكتابات المستشرقة في غزة ذات الحكم الإسلامي، بل ما أرادا أن يقولاه كما يقولان قصة تقع في أي مدينة، مع خصوصية هذه المدينة.

توأم الثمانينيات.. سينما من رحم الواقع

عرب وطرزان هما من مواليد الثمانينيات، وذلك جيل حضر كل ما مرّ بغزة من مراحل جيوسياسية كالانتفاضة والانقسام والحرب وما نتج عنها من تغييرات اجتماعية، وذلك ما يجعلهما قادرين على أن تكون غزة موضوعهما لعقود قادمة في السينما التي يصنعانها، وقد خاضا تجارب سينمائية وفوتوغرافية كثيرة قبل أن يصلا إلى النضج الذي نراه في فيلم “غزة مونامور” (2020).

المخرجان مع تمثال أبولو غزة

 

وبينما كانا قبل خمسة أعوام يفكران أن يتمحور فيلمهما عن تمثال الإله أبولو العاري، وما يمثله من رمز جنسيّ يربطانه بوضع غزة؛ نجدهما قد تخلّيا عن هذا المسار، ليكون تمثال أبولو أيضا عابرا بخفة في الفيلم، لكنه أساسي في تبيان كثير من حوله في المدينة الساحلية.

تمثال الإله أبولو العاري.. هدية البحر إلى غزة

يتحدث المخرجان التوأم عن حياة الصياد عيسى الذي وجد التمثال، دون أن يدخلا في بحث استقصائي عن مصير التمثال، فالصياد الذي اعتاد دخول البحر وحده اصطادت شبكته التمثال البرونزي الذي سيعرف لاحقا باسم الإله أبولو، وخبأه في الخزانة بمنزله قبل أن يكسر قضيبه وهو يحاول أن يحركه.

وأتذكر أنني كنت أعيش في غزة وقت العثور على التمثال الذي وُجد في البحر، وصحب ذلك الحدث حكايات تداولها الناس في غزة أقرب إلى الخيال؛ كسعره وعرضه للبيع في السوق السوداء للآثار، أو حكاية والدة الصياد التي حين رأته في المنزل صرخت بابنها “غطيه يمى”.

تمثال أبولو الذي عثر عليه في بحر غزة سنة 2013

 

كما لم يتطرق الفيلم إلى الترجيحات بأنّ قائدا في المقاومة تولى حمايته، وبعد أن قُصف منزله اختفى التمثال، وهناك من يقول إنه جرى تهربيه بعد بيعه بعشرات ملايين الدولارات، فهذا النوع من القصص لم يغص فيها الفيلم، وقد وصلت إلى الصحافة العالمية منذ العثور على التمثال بأشهر قليلة قبل حرب صيف 2014، وكان عرب وطرزان وقتها مستقرين في فرنسا لكنهما اطّلعا على الحكاية، وسمعا منها الجانب الكوميديّ الذي لم يغفلاه في الفيلم.

حبكة السيناريو.. كوميديا عميقة في عالم معقد

يتناول الفيلم حكاية الصياد عيسى ويومياته مع صيد السمك وبيعه بأرخص الأثمان بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها غزة بعد سنوات عالقة في الحصار، ورجوعه إلى بيته حيث يعيش وحيدا، ووقوعه في حب جارتهم الخيّاطة، وهناك زيارات شقيقته الملحّة عليه للزواج بإحدى صديقاتها.

تمر مواقف كوميدية أصيلة في السيناريو وليست دخيلة عليه -كما حدث مع أفلام فلسطينية صُنعت مؤخرا وكانت ثقيلة في طرحها وفكاهتها- فما يميز فيلم عرب وطرزان خفته وليست بساطته، فهو عميق ومعقد معا، لكن بخفة محتملة وثيقة بالواقع.

فغزة التي تبدو في الفيلم عتيقة وحديثة، وجميلة وقبيحة، وبائسة وحيوية، وميتة وحية، لا يمكن أن تكون بسيطة، وهو ما انتصر له عرب وطرزان، أي حياة الإنسان هناك مقارنة بقصة مثيرة كالتمثال الذي كان سيسهل الحديث عنها، لكنهما ذهبا إلى الحكي عن الأصعب، الحيوات المحيطة بالتمثال أبولو.

يساري جار عليه الزمن.. حب في ميدان حرب تسمعها ولا تراها

مرّ الفيلم على حماس والحرب والحصار والهجرة لكن لم يكن عنهم، بل أخرج من بينهم قصة حب لرجل عانس وصل الخمسينيات ولم يتزوج، ووقع في حب أرملة من عمره في الحارة، لكن التعبير عن ذلك الحب في غزة صعب جدا، بل يكاد يكون مستحيلا دون أن تحيط به شبهات الفساد الأخلاقي، ومع ذلك يتشجع عيسى ليعترف إلا أنه في كل لحظة جميلة يستعد لفعل ذلك يقطعها شيء تعيس ما.

تسمع الحرب ولا تراها، لكن في الخلفية بشكل دائم صوت “الزنّانة” (الطائرة بدون طيار)، ترى الاحتفال بالصواريخ التي تشبه القضيب أيضا وهي غزة التي تبلغ فيها الذكورية حد الطوفان، لكنك لا ترى المقاومة، تسمع إسماعيل هنية يخطب في التلفاز لكنك لا ترى حماس، فالفيلم يعرض تأثيرهم وسيطرتهم على الحياة اليومية ورؤيتهم لما يجب أن تكون عليه غزة دون مباشرة أو إطلاق أحكام علمانية عليهم.

قصة حب بين بطل الفيلم وجارته الخياطة

 

فالضابط الذي يأكل ساندويش لا يعجبه أنّ عيسى يضع كثيرا من العطر، ويقول له غيرت لي طعم الفلافل، ثم تتوالى الأحداث ويسجن عيسى مرتين، مرة لأنه أخفى التمثال، والأخرى لأنه أخفى القطعة المكسورة منه، باعتبارهم يملكون غزة وما تحتها، وفي المقابل نرى عيسى يتعامل مع هذه المواقف بين الفكاهة وعدم المبالاة والخوف، مثل أي يساري جار عليه الزمن، ووجد نفسه يعيش بين الإسلاميين، لكن حتى هذه لا يأبه الفيلم لها كثيرا، فقصته تعبر جنب الأيديولوجيات خالية إلا من إشارة هنا وهناك كي تظهر التناقضات الاجتماعية وسياقها الدرامي.

“أنا كنت شاكك فيك من الأول”.. نمطية الشرطة المؤدلجة

تستمر التناقضات بسلاسة في سياقها الدرامي دون مفاجآت كبيرة ومآسي اعتدناها في أفلام من غزة وعنها، كاعتراض موظف الوزارة الحمساوي على وصف خبير الآثار لأبولو بالإله، قائلا إنه لا يجوز قول ذلك، فيسكت الخبير مُجبرا، ليبدو مثل موظفين كثر عملوا بحكومة حماس دون أن يحملوا خلفياتها الأيدلوجية.

كما تظهر في مخاطبة الضابط للصياد حين قال له “أنا كنت شاكك فيك من الأول”، فكل من لا يشبههم محل اتهام، كما هي الشرطة في كل مكان، ومع ذلك أظهر الفيلم رجال الشرطة بالمظهر الإنساني وفضولهم البشري الذي يغلب كل محاولات التمثل بفكر معين.

الفيلم يفوز بجائزة أفضل فيلم آسيوي بمهرجان تورنتو 2020

 

كل هذه التفاصيل تلخص حياة غزة بدقة لا تجد أمامك إلا أن تضحك معها وتبكي أيضا، خاصة إن كنت ممن عاش فيها، وكذلك الديكورات والأزياء ومكياج الشخصيات والحارات والمنازل، ما عدا المركب نفسه، فلا يوجد قوارب في غزة تشبهه على الإطلاق، وكذلك الأفق المضاء في البحر، إذ لا يمكن أن تراه في غزة المحاصرة، لكنها هنات بسيطة يغفر لها عظمة التفاصيل الإنسانية الأخرى، والسيناريو الممتع الذي يمكن وصفه بالسهل الممتنع.

“الملائكة لا تدخل منزلا به تماثيل”.. صراعات في عالم عيسى

إنّ شخصية عيسى الفريدة ستظل بالتأكيد محل شك في مجتمع كمجتمع غزة، فالمصائر فيه متشابهة، وعيسى رجل رقيق ومثقف ويحب الموسيقى الأجنبية، وغير متزوج رغم أنه بلغ من العمر عتيا، كما لا يقبل محاولات السيطرة عليه من قبل شقيقته التي تجد أنّ الأرملة بنت سوق ويجب الحذر منها، وابنتها الوحيدة مطلّقة و”ماشية على حل شعرها”.

المخرجان في كواليس الفيلم

 

كما لا يأبه عيسى حين تقول له شقيقته “الملائكة لا تدخل منزلا به تماثيل”، فقد بنى علاقة حب رقيقة بينه وبين التمثال، كما بناها في داخله مع الأرملة، وهذه المشاعر لا يستطيع أي ممثل أن يوصلها لك ببصمته، لكن الممثل الفلسطيني سليم ضو يفعل ذلك ببراعة.

خلطة الواقعية السحرية.. جراءة تستفز الأقلام المحافظة

الفيلم عجيب كغزة، فلولا أن التمثال أبولو حقيقة لقلنا إنّ الفيلم فانتازي، ومع ذلك لا يزال فانتازيا لأن الحياة في تلك المدينة خليط من الواقعية السحرية، كما أنه جريء وصادق إلى درجة قد تدفع أهل غزة أنفسهم للاعتراض عليه، وهذا ما حصل من قبل الأقلام المحافظة التي ربما لا تظهر لها الصورة كاملة بسبب الحصار وروتين الأيديولوجيا والأشياء المقبولة والمرفوضة كما تراها الحكومة دون أن تشعر.

المخرجان مع سليم الضو

 

في اليوم التالي لم أستطع مقاومة رغبتي بأن يرى العالم هذه النسخة الأيقونة من غزة، رغم التشديد علي أن لا أوزع الرابط، وبقصد أو دون قصد أرسلت الرابط لبعض أصدقائي وصديقاتي في غزة وخارجها.