فان جوخ الصين !

محمد هاشم عبد السلام
 
يُعتبر الفنان التشكيلي الهولندي فينسينت فان جوخ من أهم رواد المدرسة الانطباعية، وما بعد الانطباعية أيضًا في الفن التشكيلي. كما أنه أحد أعظم من تركوا بصماتهم، على العديد من الفنانين التشكيليين العالميين من بعده، وليس ثمة شك في أن أعماله لا تزال قادرة، بشكل لا ينضب، على إلهام العديد من الفنانين المُعاصرين حول العالم. وبالرغم من فان جوخ لم يحظ حتى وفاته في 29 يوليو عام 1890، بأي قدر من الشهرة، ولم يبع طوال حياته سوى لوحة واحدة، لكن منذ وفاته الدرامية، التي لا تزال تشكل لغزًا كبيرًا حتى يومنا هذا، لا تمر ذكرى وفاته، ولا حتى يوم مولده، في الثلاثين من مارس عام 1853، إلا ويتذكره العالم، ويحتفل المحبون والعشاق به وبعبقريته الفذة وفنه الخالد.
 
من الصعوبة بمكان على أي باحث أو ناقد، وإن لم يكن مستحيلا، حصر كل ما كُتب من مقالات أو ما تم تأليفه من كتب أو جرت صناعته من أفلام، سواء روائية أو تسجيلية، عن حياة وشخصية وأعمال فان جوخ. ربما لو اعتمد المرء على ذاكرته فيما يتعلق بالأفلام الروائية، فيمكنه تذكر أسماء بعض من صنعوا أفلامًا روائية عن فان جوخ مثل، فينسيت مانيلي، وآلان رينيه، وروبرت ألتمان، وموريس بيالا، والذين تناولوا حياة وأعمال الرجل، كل من وجهة نظره الخاصة. لكن، يصعب على المرء تذكر أو حصر أسماء المخرجين التسجيليين أو الأفلام التسجيلية التي صُنعت عن فان جوخ.
 
وبالرغم من تلك الصعوبة، بوسع المرء التأكيد على أن الزاوية التي نرى من خلالها الفنان في الفيلم الصيني، “فان جوخ الصين”، للمخرجين “هايبو يو” وابنته “كيكي تيانكي يو”، هي زاوية جديدة ومختلفة كلية. إن شئنا الدقة، نحن لا نُشاهد بالفيلم أعمال فان جوخ الحقيقة، وإنما آلاف النُسخ التي تُحاكيها أو تُقلِّدُها أو تنسخها. ومنذ اللحظات الأولى التي ندرك فيها، عبر عنوان فرعي، أننا في بلدة “دافين” الصينية، تخوض بنا الكاميرا وسط مجموعة من الحواري والأزقة البالغة الضيق، التي تتراص على جوانبها وأرصفتها العديد من الحوامل وإطارات اللوحات، ونُطالع بعض الأعمال العالمية الشهيرة، حتى نصل إلى أحد المحلات الصغيرة أو إحدى الورش.
 
 
تلك الورشة أو ذلك المكان، الذي نتبينه بصعوبة بالغة، نظرًا لكمية الحبال الممتدة أمامه والمُعلق عليها لوحات لفان جوخ على وجه التحديد، تغطي أرضيته العديد من الإطارات الخشبية الفارغة المُعدة لتثبت اللوحات عليها بعد الانتهاء منها أو غيرها من الصناديق الكبيرة المُخصصة لشحن الأعمال الفنية. تواصل الكاميرا سيرها، فنجدنا بالداخل، حيث عشرات الأطنان من الألوان المختلفة، وآلاف الفرشات المتباينة الأنواع، والمئات من الأفرخ الورقية المختلفة الأحجام، ثم مجموعة من الرجال المختلفي الأعمار، المُنكبين على العمل بهمة ونشاط، ودقة وتركيز، يرسمون مجموعة من أعمال فان جوخ الشهيرة.
 
بعد ذلك، نتعرف على الفنان التلقائي “زهاو”، ونقصد بالتلقائي هنا، الذاتي التعلم، والذي يُمارس فن الرسم هنا كمهنة أو حرفة ليس غرضها النهائي الإبداع أو الابتكار. ومن خلال “زهاو”، الذي سيصاحبنا طوال الفيلم، نتعرف على أفراد أسرته، ورفاقه الذين يشاركونه العمل في تلك المستنسخات. وكيف أنهم يمارسون تلك المهنة منذ سنوات، وأنها مصدر رزقهم الوحيد. ث
م يُطلِعُنا “زهاو”، تدريجيًا، والكاميرا لا تتوقف عن مسح اللوحات وتنفيذها من جانب الحرفيين بالورشة، على آلية سير العمل، وكيفية التنفيذ، وأشهر اللوحات التي عليها طلب أكثر من غيرها، وأنواع وأحجام الأعمال والاختلاف بينها، وأخيرًا وليس آخرًا طريقة البيع والشحن، وكل تلك التفاصيل تبدو صاعقة لنا.
 
ووصف التفاصيل بالصاعقة، لا يحمل أدنى مبالغة، خاصة، عندما نضع في اعتبارنا أن جل ما أنتجه فان جوخ من أعمال على امتداد حياته، لا يتجاوز 2000 عمل، منهم قرابة 1200 رسمة واسكتش ومخطط، و800 لوحة تقريبًا، وذلك خلال السنوات الأخيرة فقط من عمره الفني، وأنه لم يبع سوى لوحة واحدة فحسب أثناء حياته، بينما باع “زهاو”، وفريق عمله، في غصون بضع سنوات فحسب، ما يزيد عن 90 ألف لوحة من أعمال فان جوخ المستنسخة.
 
 
صحيح أن الجميع بات يعرف الآن أن الصين صارت تنتج وتصنع كل شيء، من الإبرة إلى الصاروخ كما نقول، وأن الصينيين يصعب الوقوف أمام قدومهم الكاسح واحتلالهم الاقتصادي للعالم قريبًا، لكن بالنظر لتلك الكمية المُنتجة من اللوحات، وحجم العمل البالغ والشاق، بالتأكيد تعترينا الدهشة، لا سيما وأن تنفيذ الأعمال يتم يدويًا من الألف للياء، مع انتفاء أي وجود للميكنة بالمرة أو الطباعة الكمبيوترية. وبرغم ذلك، فلا سبيل للفوضى أو الغش، رغم أن الأعمال مُنفذة بالألوان الزيتية على الكانفاه أو الخيش أو غيرها من الخامات.
 
لكن، ومع مرور ما يقرب من عشرين دقيقة من زمن الفيلم، البالغ ساعة وثلث الساعة، نجدنا تدريجيًا قد ألفنا تلك الأجواء، وأن تلك الأرقام وغيرها من المعلومات، وذلك الجهد البدني المبذول، باتت غير مثيرة لمزيد من الدهشة. ربما تستوقفنا بعض اللحظات التي يبدو فيها الإرهاق البالغ والنعاس والكلل على الحرفيين أو لنقل شبه الفنانين، وطريقة “زهاو” في السيطرة على هذا الفريق بحيث يأتي العمل بأكبر قدر من الانسجام والتناغم فيما بينهم، وبمنتهى الدقة من حيث التنفيذ. نُشاهد “زهاو” مثلا، في لقطة طويلة من الفيلم ينهر أحد الحرفيين لطريقة تنفيذه للوحة “بورتريه شخصي”، وكيف حاد بها عن التطابق والعمل الأصلي للفنان، ثم مطالبته بإعادة تنفيذها أو التصرف من أجل إصلاح الخطأ بأي طريقة، ثم نشوب شجار وتذمر وتمرد من جانب الحرفي.
 
عند تلك النقطة من الفيلم، وبعد التشبع والاطلاع على كل ما سبق، والانبهار به، وقبل أن يتسرب إلينا الممل ويترهل إيقاع الفيلم ويفقد أية أهمية وينتابه التشوش، نكتشف أن كل ما سبق، برغم طوله النسبي، كان مجرد التمهيد لموضوع الفيلم الأساسي، إذ يبدأ الفيلم تدريجيًا في الاقتراب بنا، على نحو إنساني، من “زهاو”، كبشر. وتدريجيًا نكتشف أنه ليس مجرد حرفي يُنفِّذ على نحو آلي تلك المستنسخات، لكنه بالفعل يحمل في داخله كل مقومات الفنان الحقيقي الأصلي. وهنا، يبدأ الفيلم في الإجابة عن السؤال الذي جال بخاطر المرء، لماذا رغم الموهبة البارزة التي يتمتع بها هذا الفنان، يرتضي فقط بهذا العمل الشاق، وبالعائد المادي والأدبي الضئيل ذاك؟
 
 
يعقب ذلك، تدخل من جانب المخرج بسؤال “زهاو” عن المكان الذي يُبيع إليه أعماله، ومن هو شريكه؟ نعلم أن البلد الرئيسي الذي يبيع إليه “زهاو” أعماله هو هولندا، ويطلعنا بعد ذلك على قصة زيارة أحد الهولنديين إليه مصادفة قبل سنوات، وإعجابه بما كان يفعله وفريقه، ثم تعاقده معه على تصدير تلك الأعمال إليه. بعدئذ، يواصل المخرج طرح عدة أسئلة متعلقة بفان جوخ، وعما يعرفه عنه، وعن أعماله، ومتحفه بهولندا، وعن سبب عدم التفكير في زيارة هولندا؟ وهنا، يتحول الفيلم كلية للتركيز على “زهاو” وحلمه، بعدما يبوح لنا بأنه لم يشاهد قط أي عمل من أعمال فان جوخ، ولا عمره غادر بلدته الصغيرة التي جاءها من قريته المجهولة.
 
وسرعان ما يشرع في تنفيذ حلم السفر، بعد تغلبه على معارضة الجميع من حوله لذلك الحلم وإقناعهم بضرورته، خاصة زوجته، نظرًا لفقرهم، والتكلفة الباهظة لتذكرة السفر والنفقات بهولندا. يُصر “زهاو”، وبالفعل يبدأ في اجراءات استخراج جواز السفر، وطلب التأشيرة، ويبدأ رحلته، التي كانت بالفعل بمثابة رحلة حج من ناحية، وميلاد لروحه من ناحية ثانية.
 
يُذهل “زهاو” عندما يصل أمستردام ويشاهد أعماله بأحجامها المختلفة مُعلقة في مجرد كشك عادي متوسط الحجم مُقام فوق أحد الأرصفة بميدان سياحي بأمستردام، ثم يكاد يُصعق عندما يتعرف على أسعار اللوحات وكيف أن ما يتحصل عليه لا يتجاوز ربع الثمن الذي تباع به، ويطالب الهولندي بزيادة السعر للتغلب على نفقات المعيشة ولكي يستطيع إمداده بالمزيد. ثم، نشاهد “زهاو” بالمتحف أمام العديد من لوحات الأصلية التي نسخها جميعًا وفريقه مئات، بل آلاف المرات، وكيف تتحجر الدموع في عينيه، ويعترف أنه لو ظل يحدق في شاشة الكمبيوتر لسنوات لما تعلم الكثير مقارنة بما رآه بأم عينيه. ويلاحظ كيف أن الألوان كئيبة وحزينة مقارنة بما تبدو عليه على شاشة الكمبيوتر.
 
يزور بعد ذلك قبر فان جوخ، ويبكيه متأثرًا في أحد أكثر مشاهد الفيلم قوة. وعلى امتداد الرحلة المُفعمة بالشجن وزخم المشاعر العاطفية الجياشة، نكاد نشعر كما لو أن “زهاو” وفان جوخ كان شقيقين أو صديقين حميمين فرقت بينهما الأيام، ثم التم شملهما مُجددًا.
 
إن تلك الرحلة، التي تأتي بعد منتصف الفيلم وتستمر حتى قبل المشاهد النهائية، هي بالفعل قوام الفيلم بصريًا وسينمائيًا، لكنها بالقطع لم تولد من فراغ، بل شُيدت عبر تراكم العديد من اللقطات والمشاهد والمعلومات التي أفضت إليها على امتداد الفيلم، ولذا جاءت على هذا القدر من القوة والعمق.
 
والمثير في الأمر أن تأثير الرحلة لم يتوقف عند هذا الحد، سواء بالنسبة لنا أو لـ “زهاو” نفسه. فمن هولندا، نشعر بأن “زهاو” عاد إلى بلدته وقد تعمَّد أو وُلِدَ من جديد كشخص آخر، كفنان اكتشف معنى الفن والإبداع، وصار أكثر وعيًا وإدراكًا لما لديه من موهبة. ولذا، ولأنه فنان بالفعل، يتمرد “زهاو”، صحيح أنه يُعد بإمساك العصا من المنتصف لتحقيق قدر من التوازن بين أكل العيش والفن، لكنه يقرر في النهاية أن يُبدع أعماله الخاصة، لربما، حسب قوله، يصير فان جوخ في يوم من الأيام.