فان جوخ بين الروائي والتسجيلي

أمير العمري

أفلام كثيرة ظهرت عن الفنان التشكيلي الهولندي المشهور فنسنت فان جوخ، منها ما هو تسجيلي ومنها ما هو روائي. وإذا كانت السينما كفن بصري يتيح إمكانيات المشاهدة العريضة للجمهور العريض، إلا أنها لعبت دورا محدودا للغاية فى لفت أنظار عشاق الأعمال الفنية إلى فان جوخ، فقد فشلت معظم الأفلام التي ظهرت عنه فيما حققه معرض واحد فقط للوحات الفنان فى أوساط المهتمين بالفن التشكيلي.

في الطريق حاليا فيلم بريطاني جديد بعنوان “حب فان جوخ” Loving Van Gogh  يروي مجددا قصة حياته وموته الغامض، وهو أول فيلم عن الفنان الشهير يستخدم التحريك أو الرسوم التي تمزج بين شخصيات الممثلين بعد تحويلها إلى رسومات وبين ما يشيع من أجواء في لوحات فان جوخ المعروفة باستخدام التقنيات الحديثة في التلاعب بالصورة.

"فنسنت وثيو" يتميز بتصويره صراحة للمعاناة الصحية لفان جوخ وما ألمّ به من أمراض في الفترة الأخيرة من حياته.

الملاحظ أن الأعمال الفنية الشهيرة لفان جوخ، وظروف إنتاجها، تتراجع عادة فى معظم الأفلام التي ظهرت عن الفنان الكبير إلى المرتبة الثانية، بينما تتصدر الواجهة، الحياة الشخصية للفنان، بملامحها الحزينة والمثيرة التي تجعل منها ملحمة مأساوية. ويتعامل غالبية السينمائيين مع لوحات فان جوخ باعتبارها مجرد مفاتيح لفهم شخصيته ورسوما إيضاحية لقصة حياته. وتتخذ طريقة رسم أشجار السرو المتلاصقة مثلا، رمزا للتعبير عن العاطفة المشبوبة الجامحة، بدلا من كونها تسجيلا موضوعيا لتأثير الرياح الشمالية الباردة فى البيئة التي كان فان جوخ رسم فيها.

ومن الممكن القول إن الأفلام التي ظهرت عن فان جوخ تبنت الرؤية ذاتها، وإنْ بتنويعات مختلفة، من فيلم “التلهف للحياة”(1956) لفنسنت مينيللي، إلى “فنسنت وثيو” (1990)) لروبرت ألتمان. والفيلمان أمريكيان بالمصادفة وحدها، لكن هناك أفلاما أخرى تواصلت فيها الأفكار على نحو يدعو للدهشة والتساؤل، مثل “فان جوخ” الذي أخرجه آلان رينيه، أحد رواد الموجة الجديدة الفرنسية عام 1948، وغيره من الأفلام التي تمزج بين الطابع التسجيلي والطابع الروائي، مثل “فنسنت الهولندي”(1972) للمخرجة السويدية مايا زيترلنج، و”فنست” (1987) للمخرج الأسترالي بول كوكس.

فى فيلمه المصور بالأبيض والأسود، يركز آلان رينيه على لوحات الرسام، لكنه يعبر عن أزمة فان جوخ الشخصية في حياته، عن بحثه الشاق من أجل تحقيق الذات والعثور على الحب، من خلال العلاقة بين اللوحات والتحكم فى الايقاع الذي يستخدمه فى طريقة تعاقب اللقطات التي تصور اللوحات على الشاشة.

وربما كان أكثر الأفلام التي ركزت على لوحات فان جوخ الفيلم التسجيلي الذي أنتجه تليفزيون بي بي سي البريطاني، وهو بعنوان “آكلو البطاطس” للمخرج كن ليش (من إنتاج عام 1981)، وفيه نجد اهتماما بالمضمون الاجتماعي التاريخي للوحات فان جوخ، إلى جانب الاهتمام بسيرة حياته الشخصية والمتاعب التي واجهها في حياته.

اللوحات التي تظهر في الأفلام عن فان جوخ ليست سوى نسخ مقلدة للوحات الأصليةلهذا الفنان

مشكلة اللوحات الأصلية

ومن بين الصعوبات الكثيرة التي يواجهها عادة السينمائيون الذي يريدون صنع أفلام عن فان جوخ أو عن غيره من كبار الفنانين التشكيليين، صعوبة الحصول على تصريح بتصوير الأعمال الفنية الأصلية لارتباطها بحقوق الطبع وما إلى ذلك. وربما لا يدرك سوى قليل من المشاهدين أنهم لا يشاهدون فى الحقيقة سوى نسخ مقلدة للوحات الأصلية فى الأفلام التي ظهرت عن فان جوخ. لكن بعض اللوحات الأصلية ظهرت مرة واحدة فقط في فيلم “فنسنت”، لكن بعد أن تم مزجها باللوحات المقلدة. وعند تصوير فيلم “التلهف للحياة” Lust for Life (1956) الذي اشترك في إخراجه جورج كيكور وفنسنت منيللي، استخدم المخرجان 200 صورة فوتوغرافية ملونة وقاما بتكبيرها إلى الحجم الحقيقي للوحات. وقد حصل عليها منتجو الفيلم من أستاذ أمريكي يقوم بتدريس الفن.

وفى فيلم “أحلام” Dreams للمخرج الياباني الكبير أكيرا كيروساوا، تدور إحدى قصص الفيلم الست حول طالب ياباني يتفقد لوحات فان جوخ من خلال جولة له في أحد المعارض، لكنه يصل إلى درجة من الامتزاج الكامل مع الأعمال الفنية لدرجة النفاذ داخلها والتجول بين البيئة الطبيعية التي صنع فيها الفنان فى إطارها لوحاته. هنا يعكس كيروساوا رؤيته الشخصية لعالم فان جوخ، ويمزج بين التصوير الحي المباشر للواقع الذي عاشه الفنان حيث كان يرسم لوحاته وسط الطبيعة الريفية، وبين اللوحات نفسها. لكن سرعان ما نكتشف أن اللوحات التي تظهر على الشاشة ليست سوى مجموعة من اللوحات المقلدة قام فنانون معاصرون بنسخها بشكل سريع عن لوحات فان جوخ الأصلية بغرض استخدامها فى الفيلم.

ومن الممكن اعتبار فيلم “فنسنت وثيو” (1990) لروبرت ألتمان نسخة مصورة ولكن بالحركة البطيئة عن فيلم “اللهفة للحياة”. فهناك مشاهد متطابقة فى الفيلمين. لكن الفيلم الأول يتميز بتصويره صراحة للمعاناة الصحية لفان جوخ وما ألمّ به من أمراض في الفترة الأخيرة من حياته، وكذلك في تصوير معاناته من الناحية المالية وتأثير هذا النوع من المعاناة على الإبداع الفني، ويخصص الفيلم حيزا معقولا أيضا لتناول شخصية ثيو شقيق فان جوخ.

قام بدور فان جوخ في فيلم “اللهفة للحياة” كيرك دوجلاس. وقد اقتضى منه القيام بالدور التدرب على الرسم، وبوجه خاص رسم الغربان التي تظهر في بعض لوحات فان جوخ، واستطاع بالتالي أن يتقمص الدور بشكل مقنع، وأن يقدم محاكاة أقرب إلى الدقة لطريقة فان جوخ فى العمل. أما تيم روث الذي قام بالدور نفسه في فيلم “فنسنت وثيو”، فقد فشل فى إقناع المشاهدين بأنه هو الذي كان يستخدم الفرشاة فى الرسم. وقد استعان الفيلم برسام محترف لتصوير يد الرسام أثناء العمل.

عند تصوير فيلم "التلهف للحياة"، استخدم المخرجان 200 صورة فوتوغرافية ملونة وقاما بتكبيرها إلى الحجم الحقيقي للوحات فان جوخ

شروط أفلام الفن

من الشروط الأساسية التي ترتبط بما يعرف بـ “أفلام الفن” أي تلك التي تتناول عمل وحياة مشاهير الرسامين، ضرورة التركيز على إبداع الفنان، على طريقته في العمل، وعلى الاسكتشات التي يرسمها قبل أن يتوصل إلى اللوحة النهائية المكتملة، وهو ما نجح فيه كثيرا الفيلم الفرنسي “المشاغبة الجميلة” للمخرج الكبير جاك ريفيت والفيلم البريطاني “السيد تيرنر” (2014) لمايك لي، كما يتعين أيضا الاستناد إلى المصادر الأدبية ونظريات الجمال التي أثّرت في الفنان أكثر من غيرها، إلى جانب علاقاته الاجتماعية والإنسانية وتأثيرها في محيط عمله.

الملاحظ أن الأفلام التي ظهرت عن فان جوخ، ركزت أساسا على العناصر التي توفر محاكاة أقرب بقدر الإمكان إلى الدقة في الملابس والديكورات والماكياج، بحيث بدت لقطات الفيلم فى أجوائها قريبة من أجواء لوحات الفنان، فالديكور الداخلي للحجرات مثلا يصمم بحيث يشبه اللوحات، ويراعى في تصوير المناظر الريفية للطبيعة والفلاحين أثناء العمل، اقترابها من طابع البيئة الريفية التي قضى فيها فان جوخ فترة من حياته، وكذلك المواقع الأخرى فى المدينة. ويراعي السينمائيون الانتقال لتصوير أفلامهم في المواقع الطبيعية، إلا أن المطابقة الحرفية للأماكن ليست دائما ضمانا للحصول على فيلم متميز عن فان جوخ.

 

 

من جهة أخرى، تساهم الأفلام في تعميق المغزى الأسطوري للشخصية بدلا من محاولة فهمها فى ضوء مؤثرات العصر السياسية والاجتماعية والثقافية. على سبيل المثال، يساهم فيلم “اللهفة للحياة” مثلا، في ترسيخ صورة فان جوخ الأسطورية، ويبقى الفنان في نهاية الأمر لغزا كما كان الأمر بالنسبة للمشاهدين قبل مشاهدة للفيلم. أما فيلم “فان جوخ أو الانتصار المزدوج”Van Gogh, la revanche ambigüe  (1989) وهو فيلم تسجيلي، ففيه يحاول مخرجه إبراهيم سيجال فك ألغاز تلك الأسطورة. والفيلم مكون من مشاهد متنوعة، في البداية هناك مزاد علني فى نيويورك تباع فيه إحدى لوحات فان جوخ، ثم ننتقل إلى الاحتفال بالذكرى المئوية للفنان فى المدن والقرى التي عاش فيها: أرليز، ثم سان ريمي وأوفير وأمستردام. وتتداخل هذه اللقطات مع لقطات أخرى تصور مقابلات حية مع سكان قرية أرليز، ثم مع طبيب يتحدث عن رأيه فى الأمراض الخطيرة التي يقال إن فان جوخ كان يعاني منها، ثم مقابلة مع الممثل الأمريكي كيرك دوجلاس الذي يتحدث عن فهمه لدور فان جوخ كما أداه في فيلم “اللهفة للحياة”، ثم مقابلات أخرى مع عدد من الكتاب والفنانين الذين يسيطر عليهم “هاجس” فان جوخ. وعلى شريط الصوت نستمع إلى قراءة للمقالة الشهيرة لآرتو التي يقول فيها “إن فان جوخ مات ضحية للمجتمع”.

ويستخدم المخرج سيجال طريقة معينة فى السرد حيث نرى مشهدا يعقبه جزء من مقابلة مع أحد الأشخاص، يعود إليها المخرج فيما بعد.. وهكذا تتداخل أجزاء الفيلم معا، ومع التطور في السرد، تبرز التناقضات الساخرة فى حياة الشخصية. وعلى سبيل المثال فقد عاش فان جوخ ومات مهملا في الظل، لم يجد في حياته اهتماما من نقاد الفن ولا من مؤسسات الدولة الرسمية. لقد عاش إذن حياة بائسة ومات فقيرا مجهولا لا يتمتع بأي قدر من الشهرة، بعد ذلك أصبح يتمتع بشهرة فائقة وتعرض للبيع بعشرات الملايين من الدولارات، تتنافس المؤسسات الرسمية في كل مكان في الاحتفاء به وتكريمه.

رغم تعدد الأفلام عن فان جوخ إلا أن أيّا منها لا يعكس عبقريته الحقيقية.

الترويج للأسطورة

فى المقابلة التي نراها فى الفيلم التسجيلي مع كيرك دوجلاس، يتحدث عن مشاركته فى الترويج لأسطورة فان جوخ فيقول إن لا فضل له فى جعل الفنان أسطورة وإن الفضل في هذا يعود إلى العبقرية التي كان يتمتع بها. لكننا نرى في لقطة أخرى ساخرة، لوحة ضخمة لكيرك دوجلاس بملابس وماكياج الدور، معلقة فى أحد حانات بلدة أوفير. ويبدو دوجلاس قريب الشبه كثيرا بفان جوخ، لكن المغزى الكامن وراء تلك المقارنة هو إلى أي مدى يتداخل الأصل مع التقليد أو المحاكاة، وكيف أننا حتى فى السينما يمكن أن نرتبك ونحن نشاهد بديلا عن الأصل يزعم أنه يقدم صورة طبق الأصل من الفنان، أي أنه يساهم على نحو ما، في تضليل المتفرجين. ولأن كيرك دوجلاس عند جمهور السينما أكثر شهرة من فان جوخ، فما يبقى في النهاية هو دور دوجلاس في الفيلم، أي الأسطورة بمعزل عن الفنان!

كان هذا الفيلم هو الوحيد الذي تظهر فيه لوحات فان جوخ الأصلية الموجودة فى متحف أمستردام. لكن المخرج ينهي بها الفيلم لكي نكتشف أن اللوحات الأصلية متواضعة كثيرا فى أحجامها وأقل بهرجة فى ألوانها من البطاقات البريدية والشرائح الملونة التي تباع لأعمال الفنان في كل مكان.

ورغم تميز هذا الفيلم بالذكاء في بنائه، والاكتمال فيما يقدمه من بورتريه سينمائي مدهش لفان جوخ، إلا أن عيبه الأساسي أنه يكتفي بالوصف دون التحليل، والعرض أكثر من النقد. فى الفيلم نرى مثلا مجموعة من الفنانين الذين لا يشغلهم شيء سوى التعيّش على صنع لوحات شبيهة بلوحات فان جوخ، لكنهم لا يهتمون بالتعبير عن موقف فني في أعمالهم، موقف من الإنسان والواقع. وربما لا يكون هناك بأس من تصوير هذا في الفيلم، لكن المشكلة أن المخرج يقدم هؤلاء الفنانين كما لو كان يوجه التحية لجهودهم في الإبقاء على سحر الأسطورة بدلا من توجيه النقد لهذه الظاهرة الطفيلية.

ويتوقف المخرج طويلا أمام ظاهرة الارتفاع الجنوني لأسعار لوحات فان جوخ في المزادات، لكنه يقف يعجز عن تقديم تفسير لتلك الظاهرة فى إطار البحث في ظاهرة تحول أعمال الفن التشكيلي إلى عملية تجارية كبيرة ما يفرغ القيمة الفنية لأعمال الفنانين من محتواها، ويقلص من أهميتها فى سياق تاريخ الفن. إننا نرى مثلا عشرات التجار يملؤون قاعات المزادات، ويهتفون فرحا وسعادة كلما ارتفع سعر إحدى اللوحات، لكننا لا نعرف لماذا يصبح مطلوبا منا أن نندهش أمام هذا السلوك. هنا يغفل الفيلم نقد الأسس الأخلاقية فى التعامل مع إبداعات فنان ميت بغرض الإثراء دون أدني جهد.

فيلم "حب فان جوخ" وهو أحدث الأفلام عن الفنان الشهير يستخدم التحريك أو الرسوم التي تمزج بين شخصيات الممثلين بعد تحويلها إلى رسومات.

اختلاق الأحداث

إذا كان فيلم سيجال يركز على أعمال فان جوخ وينشغل بتقدير قيمتها، فإن فيلم “فان جوخ” (1991) للمخرج الفرنسي موريس بيالات، يهمل أعمال فان جوخ تماما اكتفاء بالتركيز على فترة يراها مجهولة، أي الأشهر الثلاثة الأخيرة من حياته قبل وفاته، وهي الفترة التي قضاها الفنان فى بلدة أوفيرـ سيرـ أواز فى الريف الفرنسي التي وصل إليها في أبريل عام 1890، وظل مقيما فيها إلى حين وفاته في يوليو من العام نفسه.

يصور الفيلم كيف كان فان جوخ يقضي وقته فى غرفته بالفندق المتواضع الذي نزل به في البلدة رافضا قبول ضيافة صديقه، وكيف تطورت علاقة الحب والكراهية بينه وبين الدكتور جوشيه، ثم كيف نمت قصة حب بينه وبين مارجريت ابنة جوشيه، التي كانت تصغره بعشرين عاما، وكيف كان شقيقه ثيو يشعر بالغيرة من تفوقه فى العمل فقد كان ثيو نفسه رساما لكن محدود الموهبة، وكيف قام الاثنان معا برحلة إلى باريس لقضاء الوقت في اللهو والمرح، قبل أن يعود فان جوخ مرة أخرى إلى متاعبه وهواجسه المرضية فى عزلته الشاقة.

برع كيرك دوغلاس في أداء دور جوخ في فيلم "التلهف للحياة" بعد أن تدرب على الرسم.

يتميز هذا الفيلم بالمبالغات التي يقصد من ورائها الترويج للأسطورة الشخصية على حساب الفن نفسه والموهبة الإبداعية، فما معنى أن يخترع المخرج بيالات قصة انتحار فان جوخ بإطلاق الرصاص على بطنه، وهي قصة غير مؤكدة حتى الآن.. بل وما معنى أن يصر على تقديم تفاصيل علاقته بمارجريت رغم اعتراف بيالات نفسه أنه عندما التقى مارجريت عام 1953 سألها عن علاقتها بالفنان فأنكرت وجودها تماما!

والغريب أن بيالات يتجاهل تماما العلاقة المشحونة والشهيرة بين فان جوخ والرسام الكبير جوجان، لكي يتفادى كما صرح بذلك فيما بعد، تكرار ما صورته أفلام أخرى.

المؤكد أن كل ما ظهر من أفلام عن الرسام العظيم تتضاءل قيمته الفنية كثيرا أمام أعمال فان جوخ نفسها، وإلا فكيف نفسر أن كل تلك الأفلام لا تعتبر أفضل ما أنجزه مخرجوها، كما أنها ليست من الأعمال السينمائية التي دخلت التاريخ.