“فتح 1453”.. انتصار التاج العثماني على أسوار القسطنطينية

لتحقيق مُنجز سينمائي ينقل حدثا تاريخيا مهما من تاريخ الدولة العثمانية مثل فتح مدينة القسطنطينية؛ تُخصص الجهة المنتجة لفيلم “فتح 1453” (Fetih 1453) ميزانية ضخمة تزيد عن 16 مليون دولار أمريكي، لتضعه بذلك في قائمة أكثر الأفلام التركية تكلفة.

وبدوره يقوم المخرج فاروق أكسوي بنقل قصة دخول السلطان العثماني محمد الفاتح للقسطنطينية عام 1453 بأسلوب ملحمي يُحاكي وقائع تاريخية يتطلب نقلها إلى الشاشة جهدا كبيرا على مستوى تقريب الأجواء التاريخية التي جرت فيها، ونقل تفاصيل اللحظات الحاسمة فيها، مثل المعارك الطاحنة التي جرت بين جيوش الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر وحلفائه وبين الجيش العثماني، إلى جانب مراعاة حساسية نقل المناخ التاريخي العام بتفاصيله الدقيقة، مثل الملابس والديكورات والأمكنة الجغرافية واللغات، وغيرها من مستلزمات الفيلم التاريخي الناجح الذي لا يُهمل تفصيلا.

مدينة أدرنة.. ميلاد الأمير الذي بشر به النبي ﷺ

يُثبت الفيلم مرجعية فتح القسطنطينية دينيا بحديث شريف لرسول الله محمد ﷺ، قال فيه: لتفتحن القسطنطينية، فلنعمَ الأمير أميرها، ولنعمَ الجيش ذلك الجيش.

يكرس المشهد الافتتاحي من الفيلم لنقل الحديث الشريف كبشرى للمسلمين، انطلقت من المدينة المنورة عام 627 م، ووصل صداها إلى مدينة أدرنة التي تشهد في العام 1432م ولادة زوجة السلطان مراد الثاني ولدا يُسميه والده محمدا، وسيمنحه التاريخ فيما بعد صفة الفاتح بعد غزوه القسطنطينية التي امتنعت أسوارها من قبل أمام والده واستعصى عليه اقتحامها.

يتجاوز السيناريو مرحلة طفولة السلطان محمد الثاني، منتقلا مباشرة إلى فترة شبابه، وذلك عبر مشهد يظهر فيه عام 1451 وهو يتلقى دروسا في المبارزة وفنون القتال على يد القائد المخلص حسن الألوباطلي (الممثل إبراهيم تشيليكول) في ساحة قصر رحب من قصور ولاية ساروهان العثمانية. وفي تلك اللحظة يتلقى رسالة تخبره بموت والده السلطان.

تخلي السلطان مراد عن العرش.. ألاعيب السياسة

بعد أن سئم الصراعات الداخلية بين وزرائه وبين سادة الحرب؛ قرّر السلطان مراد التخلي عن عرشه للأمير محمد (الممثل ديفريم إيفين)، بدلا من ابنه المفضل لديه علاء الدين بسبب موته المفاجئ.

لم يقع التسليم كما أراد السلطان، لأن كبير وزرائه خليل باشا أقنعه بالرجوع عن قراره نتيجة للأخطار المحدقة بالدولة جراء هجوم محتمل للصليبيين عليها، لذا أرسلوا محمدا الثاني إلى موقع عسكري في ساروهان، وبعد موت والده عاد ثانية وتسلّم العرش وهو ابن 21 عاما.

يُكرّس السيناريو حيزا من مساحته للعلاقة بين السلطان الشاب وبين رئيس الوزراء خليل، ومن خلالها يتبيَّن اختلاف وجهات نظرهما ورؤيتهما للصراع مع الصليبيين وأساليب قيادة الدولة، وأيضا تتكشف من خلالها مواهب السلطان القيادية التي شكك بها كثيرون، لصغر سنه ولقلة خبرته في الحكم، وعلى عكس المتوقع فإن السلطان لم ينتقم منه ولم يعاقبه لنصيحته للسلطان مراد بالرجوع عن قراره، وبضرورة عودته ثانية إلى العرش، حارما بذلك ابنه من فرصة سانحة.

“إما أن أفتح القسطنطينية، أو أن تهزمني هي”

يمنح السيناريو أيضا في الطرف الآخر القادة الصليبيين مساحة لعرض مخططاتهم ومؤامراتهم ضد العثمانيين الذين وجدوا في وصول الشاب لدفة الحكم خطرا على إمبراطوريتهم، لكن يتضح للصليبيين مُبكرا طموح السلطان الشاب باقتحام أسوار مدينتهم، وذلك من خلال تعلّمه لغتهم ليتعرف على نقاط ضعفهم، والتعرف على دينهم ليفنّد عقيدتهم، ودراسته فنون الهندسة والبحرية لكسر دفاعاتهم، وسرعان ما تحولت سخريتهم من صغر سنه وقلة خبرته إلى خوف مُعلن من طموحه الكبير.

من جانب السلطان الشاب غدت فكرة غزو القسطنطينية هاجسا مُلحّا لا فكاك منه، حتى إنه كان يقول “إما أن أفتح القسطنطينية، أو أن تهزمني هي”، وقد كرّس لتحقيق حلمه كل مواهبه القيادية وما اكتسبه من معارف، وسخّر كل ما توفر لديه من ثروة وجنود لرؤية دولة العثمانيين وقد أضحت إمبراطورية إسلامية عظيمة مترامية الأطراف.

الممثلة “ديليك سيربست” التي قامت بدور إيرا، والتي جمعتها قصة حب مع القائد العثماني حسن

إيرا وحسن.. نشوب حرب الهوى بين القادة

للخروج من أسر التاريخي المجرد، يُدخل كاتب السيناريو أتيلا أنجين قصصا جانبية مُتخيّلة على النص السينمائي، لتضفي إليه بعض الحيوية وتزيد من درجة التشويق فيه، مثل قصة مهندس المدفع العملاق أوربان، وابنته بالتبني إيرا (الممثلة ديليك سيربست)، وبهدوء تتكشف قصة الشابة من خلال ارتباطها بعلاقة عاطفية مع القائد العثماني حسن.

رغم إلحاح وتهديدات القادة الصليبيين في البندقية له؛ رفض أوربان المجري صنع مدافع حربية لهم، وقدّم مقترحات مشاريع سلمية لكنهم رفضوها، ويتضح من مسار الحكاية أن ابنته إيرا هي مسلمة من منطقة البلقان ذبح الجيش الصليبي عائلتها وعرضوها للبيع في سوق العبيد، وقد اشتراها أوربان عطفا عليها وتبناها مثل ابنته، وفي غفلة أرادوا سجن والدها، لكن استطاع حسن أن ينجح في إنقاذهما وأخذهما معه إلى أدرنة.

معرفة إيرا نية السلطان العثماني فتح القسطنطينية وإقامة إمبراطورية إسلامية توافقت مع رغبتها في الانتقام من قتلة عائلتها، لذلك فإنها استطاعت أن تقنع والدها ببناء مدفع عملاق تدكّ قذائفه أسوار المدينة المُحصّنة.

على خط القصة نفسها يدخل قائد روماني شاب من جنوة اسمه جيوفاني جيوستنياني (الممثل جنكيز تشوسكون)، وهو راغب بالاقتران بإيرا لكنها ترفضه، وعندما علم بخطة والدها وبإقامتها علاقة عاطفية مع حسن؛ قبل عرض القائد قسطنطين الحادي عشر (الممثل رجب أكتوغ) له بتولي قيادة جيوشه للدفاع عن القسطنطينية. وفي مرحلة درامية لاحقة سيمثل حسن وجوفياني قطبين لصراع محتدم، والفوز بهذا الصراع يعني انتصارا أكبر للطرف الذي يمثله.

ابن السلطان محمد رفقة أمه يبدو فرحا بلقاء والده السلطان المُنشغل بأمور الحكمج

العناق الأخير.. جيوش السلطان تسرق وقت العائلة

قبل الوصول إلى اللحظة التي يُعلن السلطان فيها بدء الهجوم على القسطنطينية بعد محاصرتها طويلا، يتوقف الفيلم عند جوانب نفسية مهمة تتعلق بطبيعة القادة العثمانيين المُنهمكين في مسؤولياتهم وانشغالهم عن المقربين منهم بما فيهم أولادهم.

في مشاهد مُكرّسة لذلك الجانب، تتضح حسرة السلطان محمد على التفاتة من صغيره إليه تعبر عن حبه له واهتمامه به. حين اعتلى العرش انشغل هو أيضا بشؤون الحكم، ولم يتقرب كثيرا من ولده الذي كان يُقيم في مكان خارج القصر مع والدته. كان الاحترام يسود بين أفراد العائلة، لكن السلطان قبل الانطلاق بجيوشه انتبه إلى ولده فضمه إلى حضنه، ليقوم بما لم يقُم به والده من قبل.

على الجانب العسكري استغل بعض قادة جيوشه صغر سنه وقلة خبرته في الحرب، للإعلان عن تذمرهم منه في أول إحباط واجهه جيشه. وقد عالج السلطان الأمر بروّية، ووضع حدا للتمرد المنتظر، مما رسّخ وجوده وأَثر كثيرا في نفوس مواطنيه بأسلوب جمع فيه بين الحكمة، وترك فرصة للزمن ليثبت من خلاله شجاعته وحقيقة وضع مصلحة مملكته وشعبه فوق كل اعتبار.

سحر السينما.. تعويذة هوليودية لصناعة الحدث التاريخي

يظهر الاشتغال السينمائي فنيا بوضوح في تصميم المعارك، إذ يظهر آلاف الجنود بزيّ عسكري وتجهيزات تتوافق مع المراحل التاريخية التي تجري فيها الأحداث، وتُجسد مجرياتها بمعونة تقنيات الحاسوب وإضافات ما بعد التصوير، إلى جانب تمثيل يشترط مرونة جسدية عالية، وقوة تعبير عن حالات وانفعالات تظهر وسط المعارك، أو في مواقع التخطيط واتخاذ القرار.

لحظات الإحباط والفرح والألم كلها تُنقل إلى الشاشة بأسلوب هوليودي مُتقن، مما يجعل فيلم “فتح 1453” من بين الأفلام التركية القليلة التي اقتربت من نوع سينمائي يتطلب استعدادات إنتاجية واسعة، تتمثل بالأعداد الهائلة للجنود (كومبارس)، وبتأثيث الأمكنة.

صحيح أن أغلب التصوير قد جرى في مناطق حقيقية في إسطنبول وتفرعاتها، إلا أن مقاربة الأمكنة التاريخية وإضفاء طابع قديم عليها بالإضافة إلى فن تحريك الحشود؛ يظلّ تحديا كبيرا أمام فريق العمل وعلى كافة مستوياتهم.

السلطان محمد الفاتح يدخل القسطنطينية مع جيشه مُنتصر

رفرفة العلم العثماني على أسوار القسطنطينية.. انتصار الفاتح

تأخذ مشاهد المعارك قرابة ساعة كاملة من زمن الفيلم البالغ 130 دقيقة، تتخللها مواقف وانتقالات ميدانية حادة تُظهر قوة الطرفين المتحاربين، وتشبثهم بالهدف النهائي النصر.

على الجانب التركي يلعب المدفع العملاق دورا محوريا في لَمّ أطراف درامية مختلفة، من بينها زواج إيرا من حسن، وإصرارها مع والدها على إتمام بناء المدفع واستخدامه في المعركة الحاسمة التي ستخسر فيها زوجها الشجاع بعد رفعه علم الدولة العثمانية فوق أسوار القسطنطينية.

سقطت القسطنطينية ودخلها السلطان الفاتح منتصرا، لكنه لم ينس ما تعهّد به من حماية سكانها ومنحهم حُرية إقامة شعائرهم الدينية، واعتبارهم مواطني إمبراطورية عظيمة غيّرت وجه التاريخ، ووضعت اسمه بين أسماء قادة كبار ساهموا في توسيع الإمبراطورية الإسلامية، وثبّتوا سنة 1453 كنقطة انطلاق نحو مرحلة جديدة تتجاوز أهميتها مرحلة القسطنطينية بكثير.