“فجر الإسلام”.. أيقونة الأفلام الدينية المصرية

الفنان المصري هشام عبد الحميد

تعددت الأفلام الدينية التي تعرضت لظهور الإسلام وكفاح الرسول عليه الصلاة والسلام وبطولاته مع من آمن معه ضد قريش، وذلك كي يستطيعوا إرساء دعائم الدين الجديد، وهذا بلا شك شكّل كابوسا مزعجا لقريش، فقد هدّد دين محمد الجديد كل سلطانهم وتقاليدهم وعاداتهم وامتيازاتهم، بل وهدّد أيضا طبقتهم الاجتماعية العليا -وهي طبقة السادة- حيث توجّه الدين الجديد بتوجيه سماوي إلى طرح فكري مغاير لما كان عليه القوم في مكة، وذلك لجعل الناس سواسية، فلا فضل لسيّد على عبد، أو لعربي على أعجمي.

حقاً لقد عاشت قريش وباقي القبائل في كابوس رهيب، لذلك حاولوا بكل ما استطاعوا إيقاف تدفق الدين الجديد بكل الطرق والأساليب، سياسية كانت أم عنيفة دموية وحشية، لكن بالرغم من كل هذا انهزموا وكانت النصرة للإسلام. وبالطبع تناول الأدب القصصي الكثير من الأحداث، ناسجا منها ملاحم إسلامية كثيرة نقلتها الشاشة الصغيرة “التلفزيون” والكبيرة “السينما”.

 

عبد الحميد السحار.. بين “الرسالة” و”فجر الإسلام”

تنوعت أفلام السينما التي تناولت ظهور الإسلام، فكان أهم هذه الأفلام وأنضجها فيلم “الرسالة” للمخرج مصطفى العقاد الذي اشترك في كتابته عبد الحميد جودة السحار وتوفيق الحكيم. أما الفيلم الثاني فهو “فجر الإسلام” للمخرج صلاح أبو سيف، وهو عن قصة عبد الحميد جودة السحار، كما اشترك معه أيضا صلاح أبو سيف في كتابة السيناريو والحوار.

وبالطبع كان فيلم “فجر الإسلام” يحتل المرتبة الأولى بين الأفلام الدينية، فالفيلم أُنتج عام 1971، لكن تراجع بالطبع للترتيب الثاني أمام فيلم “الرسالة” لأسباب كثيرة، من أهمها ضخامة الإنتاج وعالمية الفيلم الذي قدّمه مصطفى العقاد بنسختين؛ الإنجليزية، حيث اضطلع بدور البطل -حمزة عم النبي عليه السلام- النجم العالمي أنتوني كوين، أما النسخة العربية فقد قام فيها بالدور نفسه النجم العربي عبد الله غيث. وبالطبع شكّل هذا عنصر إبهار وفضول لدى المشاهد العربي في كل مكان.

 

“فجر الإسلام”.. تجربة مميزة وتقييم سلبي

على أي حال سنتوقف في مقالنا هذا عند فيلم “فجر الإسلام” للمخرج صلاح أبو سيف، وهو من إنتاج مؤسسة السينما قبل أن تُغلق أبوابها وترفع الدولة يدها عن تمويل السينما بشكل مباشر، عن طريق إنتاج الأفلام وتوزيعها.

بالرغم من تميز التجربة في بعض جوانبها، وإنتاجها لمجموعة من الأفلام المهمة والكبيرة، إلا أن التقييم النهائي للتجربة كان سلبيا. لكن تلك التجربة سنتعرض لها فيما بعد، حيث بدأت مؤسسة السينما بالتحضير لفيلم “فجر الإسلام”، وكان المخرج عاطف سالم قد اختار لدور البطولة سعاد حسني ونور الشريف، وبدأ فعلا بالتصوير، إلا أنه توقّف بعد شهر لإصابة عاطف سالم في حادث أقعده عن المتابعة، وكان لزاما على مؤسسة السينما أن تختار مخرجا آخر.

وبالفعل وقع الاختيار على صلاح أبو سيف الذي صمّم أن يبدأ التحضير لذلك الفيلم مرة أخرى، وذلك ليستكمل ما بدأه عاطف سالم. فأُجريت جلسات مع عبد الحميد جودة السحار، تمخضت عن تعديلات كبيرة على السيناريو، بل واستبدل الممثلين الرئيسين سعاد حسني ونور الشريف بالوجهين الجديدين آنذاك؛ نجوى إبراهيم التي لم تظهر إلا في فيلم “الأرض” ليوسف شاهين، وعبد الرحمن علي، وهو شاب كان يتمتع بالوسامة في ذلك الوقت، ووجهه مألوف لظهوره كمقدم برامج، وأيضا كمعلق في البرامج الدينية في التلفزيون.

الممثل المخضرم محمود مرسي والفنانة البديعة نجوى إبراهيم في إحدى مشاهد الفيلم

 

ممثلون وسيناريو وموسيقى.. ثلاثية التميز

دعم صلاح أبو سيف الوجهين الجديدين الذين اختارهما لبطولة فيلمه بكوكبة من كبار الممثلين، على رأسهم المخضرم محمود مرسي، والبديعة سميحة أيوب، ويحيى شاهين وإبراهيم عبد الرازق وعايدة عبد العزيز وأحمد توفيق. وبهذا تكّون للفيلم عاملان مهمان؛ مجموعة ممثلين كبار، بالإضافة إلى موسيقى تصويرية لفؤاد الظاهري لعبت دورا مهما في تميز الفيلم.

وبالطبع هناك تميز للمناظر والملابس، لكن المكياج كان من أضعف العناصر في الفيلم، ففي الأفلام الدينية كان لزاما على الكفار أن يتميزوا عن البقية بلحى كثييفة وحواجب غليظة، إلى درجة التزمت والمبالغة، أما المؤمنون فيُطلّ من وجوههم الصفاء والنقاء، وذلك طبعا بتأثير المكياج التجميلي للوجه.

تفوّق الفيلم بفضل تميز السيناريو، فاكتسبت الأحداث دلالات كثيرة؛ فمثلا حدوتة الفيلم تدور حول شاب هو ابن لسادة أحد القبائل، حيث يقع هذا الشاب في حب شابة من الإماء، أي أننا أمام روميو وجولييت بدلالات مختلفة التفاصيل نسبيا. ويتحول هذا الحدث لحدث أكبر بظهور الإسلام، واعتناق الشاب لهذا الدين الجديد، مما يُغضب أباه حاكم القبيلة. ويدور الصراع على عدة مستويات مختلفة.

بوستر فيلم “فجر الإسلام” الذي تم إنتاجه عام 1971، واعتُبر أيقونة السينما الدينية المصرية

 

“هكذا وجدنا آباءنا”.. مستويات الصراع

تختلف مستويات الصراع، فمنها المستوى الطبقي، ومستوى التضاد بين القديم والجديد، ومستوى الفرد والمجموع. المستوى الأول هو الصراع الطبقي، فطبقة السادة من عِلية القوم من القبائل يعيشون بعنصرية شديدة ضد كل من هم أدنى رتبة منهم، فطبقة العبيد بالنسبة إليهم ليسوا سوى أدوات، فهم إما للخدمة أو للمتعة، ويتم استغلالهم في أمور شتى، ولذلك فعندما وقع الشاب بغرام فتاة ليست من طبقته، لاقت تلك العلاقة معارضة شديدة من الجميع، ما عدا أمه التي تفهمته واحترمت اختياره.

المستوى الثاني هو التناقض بين القديم والحديث، فبظهور الإسلام كدين جديد يحاول تخفيف الفوارق بين الطبقات، ويحاول تخليص العقل من الكثير من المُسلّمات الراسخة اجتماعيا كوأد البنات، وما كان من فوضى في العلاقات بين النساء والرجال؛ جاء الإسلام بثورة اجتماعية فكرية جعلت الصراع يتأجج بين الفئات المختلفة والمتضادة في ذلك الوقت، التي كانت تسير على مقولة “هكذا وجدنا آباءنا”، لذلك سارت أفكار الدين الجديد على مبدأ ضرورة نسف النسق الاجتماعي والفكري القديم، وعلى رأس ذلك عبادة الأصنام وما كانت تُمثله من خصوصية مُقدسة وقتها.

الصراع بين الفرد والمجموع -بعكس الأفلام الأخرى- كان دائما صراعا بين المجموع (أي الموروث الجمعي القديم) وبين الفرد الذي يعتنق الجديد، لكن السيناريو استطاع بحذق شديد أن يُقّدم الموروث الجمعي المؤمن بما يختلف عنه إيمان أحد أفراده الذي لا يؤمن بما يؤمن به الجميع. أي عكَس السيناريو الصراع، لكي يصبح المجموع المؤمن بالجديد وبالحداثة كلفظ يتطابق مع هذه الفترة، وبين الفرد المتمسك بالقديم. ولا شك لقد تجسّد هذا في مجموعة مشاهد لا تُنسى.

مشهد يجسد صراع الأب مع ابنه حول ماهية الدين الجديد ومبادئه

 

“إنه انتقام الآلهة”.. مشاهد لا تُنسى

من المشاهد التي لا تنسى في هذا الفيلم مشهد مواجهة الأب (الممثل محمود مرسي) مع الابن (الممثل عبد الرحمن علي) أثناء العشاء، وسؤال الأب لابنه عن ماهية الدين الجديد ومبادئه. ومنها أيضا مشهد آخر في إغواء صاحبة الرايات الحمر للابن، ومحاولة الابن مواجهتها بحقيقة، إنها مجرد سلعة للاستهلاك في مجتمع استهلاكي لا يحترم فردية الإنسان.

ولعل أطرف مشاهد الفيلم وأشهرها ذلك المشهد الذي يهم فيه المؤمنون بتكسير الأصنام، فإذا بأحدهم يصيح “لقد شُلّت يدي”. هنا يوزع المخرج اللقطات للوجوه وللموسيقى توزيعا رائعا وقتها، حيث ينطق الكاهن بصوت جهوري “أرأيتم إنه انتقام الآلهة؟”، يقصد “اللات والعزى، وفجأة إذا به بالرجل يصيح “إنها سليمة سليمة”، ويضحك وتضحك معه الجموع. هذا المشهد بالرغم من بساطته الظاهرة إلا أنه عميق الدلالة، لأنه يقدم الخرافة أمام الحقيقة بشكل غير مسبوق في هذه النوعية من الأفلام.

المخرج صلاح أبو سيف الذي قام بإخراج فيلم “فجر الإسلام” أيقونة الأفلام الدينية المصرية

 

أفكار ثورية وأسلوب غير نمطي

كان عنصر التمثيل بالتأكيد مميزا ومختلفا، حيث قدّم محمود مرسي دور الرجل الغليظ الفظّ القاسي بشكل رائع بعيد عن النمطية، وعندما تحوّل إلى الإيمان ظهر بجمال أخّاذ بعيدا عن الأداء الملائكي. وكذلك استطاعت سميحة أيوب أن تُقدّم لهفة الأم على ابنها وخوفها عليه من البطش، في طريقة مُعبّرة ومؤثرة لا تُفسد وضعها في صراعها الداخلي بين معتقداتها والدين الجديد، فقد قدمت الدور بحرفيه وحساسية شديدة.

أما عبد الرحمن علي ونجوى إبراهيم فقد استثمر المخرج طزاجتهما ووجهيهما الجديدين، لكي يظهرا مقنعين إلى درجة كبيرة في براءتهما تجاه مشاعرهما من جهة، ومن جهة أخرى تقبلهما لأفكار الدين الجديد.

نجح صلاح أبو سيف في أن يضعنا أمام فيلم يُبشر بأفكار ثورية بأسلوب غير نمطي أو تقليدي، حيث احترم كثيرا عقل ووجدان المتلقي، فاحترمه الجمهور وأحبه، لدرجة أصبح فيها فيلم “فجر الإسلام” أيقونة الأفلام الدينية المصرية.