فنسنت فان كوخ.. عندما يلج “بوابة الخلود”

كثيرة هي الأفلام التي أُنجزت عن حياة الفنان الهولندي فنسنت فان كوخ وعن موته الغامض الذي بقي لغزا مُحيّرًا يؤرّق الباحثين والدارسين ومؤرخي سيرته الذاتية والفنيّة. لكنّ هذا الفيلم الدرامي المعنون “عند بوابة الخلود” للمخرج الأميركي جوليان شنابل لا يحاول حلّ هذا اللغز، ولا يسعى إلى اتهام الرسام الفرنسي بول غوغان بقطع الأذن اليسرى لصديقه فنسنت، كما أنه لا يقدّم التاريخ الشخصي للفنان ولا يعوّل كثيرًا على الوثائق الرسمية الدامغة كما يعترف بذلك مخرجه، وإنما يسرد لنا روايته الخاصة بوصفه رسّامًا ومُخرجًا رصد المواقف التي يعتقد أنها مهمة ومثيرة للجدل، وقد حدثت في السنوات الأخيرة التي أمضاها فان كوخ في “آرل” و”سان ريمي دي بروفانس” في أقصى الجنوب الفرنسي، و”أوفير سور واز” قرب باريس، بخلاف الأفلام الأخرى التي ركزّت على الأيام والشهور الأخيرة من حياته الصاخبة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس.

ينفرد هذا الفيلم أيضًا بتقديم الفنان الفرنسي بول غوغان كشخصية فنية موازية لفان كوخ بعيدًا عن التصورات النمطية التي رسختها وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، كما يوفر لنا هذا الفيلم آراء نقدية يشكِّك بعضها بعبقرية فان كوخ، فيما يُشيد البعض الآخر بموهبته الخارقة التي تجاوزت الحدود الوطنية، وذاع صيتها في مختلف أرجاء العالم.

وفي السياق ذاته لا يغفل الفيلم علاقات فان كوخ الحميمة -على ندرتها- مع النساء اللواتي أحبّهنّ أو ارتبط بهنّ بشكل من الأشكال؛ فتسللن إلى رسوماته ولوحاته الفنية التي بلغت 2100 عمل فني؛ منها 860 لوحة زيتية أُنجزت معظمها في السنتين الأخيرتين من حياته القلقة الموتورة والمليئة بالكوابيس والرؤى العصيّة على التفسير.

وقد تقمّص الفنان وليام دافو شخصية فنسنت فان كوخ وأجاد فيها، بينما نجح الممثل أوسكار إسحق في تأدية دور بول غوغان وتألق فيه.

فان كوخ.. الفنان المنكفئ المرفوض

لم يحظَ فان كوخ بحياة عادية مثل أقرانه، فقد كان مضطربًا على الصعيد النفسي، فلا غرابة أن يميل إلى العزلة مكتفيًا بعوالمه الذاتية، والتي تقلّبت بين التديّن والانغماس في الفن بعد إخفاقه في أن يكون رجل دين يهدي الآخرين إلى سواء السبيل.

وقد أشار شنابل في العَتَبة الاستهلالية القصيرة للفيلم إلى أنّ فان كوخ كان يتوق للجلوس مع الناس في المقاهي والحانات؛ يتجاذب معهم أطراف الحديث، ويتفاعل مع قضاياهم اليومية البسيطة، لكن عزلته النفسية كانت أقوى من رغبته في الانفتاح على الآخرين.

ورغم فقره المُدقع وحاجته الدائمة للنقود كان يرسم النماذج الأولى (إسكتشات) ويقدّمها هدية لبعض الناس العابرين في حياته. لا ينكر شنابل الأمراض النفسية التي سبّبت عزلة فان كوخ وأجبرته على السقوط في خانة الوحدة والانكفاء على الذات، فلا عجب أن نرى صاحب الكافتيريا يتذمر من اللوحات الكثيرة التي علّقها فان كوخ على جدار المقهى من دون أن ينظر إليها أحد، وحين سأله عن الفنانين الآخرين الذين ينبغي أن يشاركوا في هذا المعرض؛ تهرّب من الإجابة بأنهم لا يرغبون في عرض لوحاتهم الفنية إلى جانب أعماله التي يعتقد كثيرون أنها “قبيحة وخرقاء” وتفتقر إلى المواصفات الجمالية التي يجب أن تتوفر عليها الأعمال الفنية التي تستقطب أنظار عامة الناس وخاصتهم.

لم يقتصر هذا الرأي الفظّ على صاحب المقهى، وإنما تعداه إلى “غابي” التي كانت ترى في الورود الحقيقية أجمل من الورود التي يرسمها فان كوخ، رغم أن الأولى تذبل بينما تصمد الثانية أمام تقادم الأعوام. وحتى الكاهن في مصحة “سانت ريمي” كان يشكك في موهبة فان كوخ، ويستكثر عليه أن يسمّي نفسه فنانًا أو أن يُطلق على لوحاته “البشعة” تسمية أعمال فنية، فيأتيه الردّ القاطع “بأن الله جعله رسّامًا للناس الذين لم يولدوا بعد” كي يستوعبوا نزعته الفنية التي تسبق عصرها بكثير، لذلك التجأ فان كوخ إلى العزلة مُضطرًا، وتوصل إلى قناعة ما بأنه “فنان متمكن في أقل تقدير” طالما أن شقيقه ثيو مقتنع بهذه الموهبة، وسوف يروّج لها في المستقبل القريب.

يقطع أذنه لأجل غوغان

لم يستطع فان كوخ أن ينسجم مع المجتمع الذي يعيش فيه أينما حلّ أو ارتحل، ومع ذلك فقد كانت علاقاته مع بعض الفنانين متناغمة إلى حدٍ ما، وذلك كما هو الحال مع صديقه الفرنسي بول غوغان الذي وجد فيه ضالته المنشودة. لكن هذا الأخير كان مزاجيًا وشديد الانتقاد للفنانين “الطُغاة” الذين يتصرفون كالبيروقراطيين، لذلك كان يعلن بين آونة وأخرى أنه يريد الذهاب إلى مدغشقر والابتعاد عن باريس ومدارسها الفنية وصخبها الاجتماعي؛ كي ينعم بالسكينة والسلام، ويستغرق في رسم أعماله الفنية التي تضجّ بوجوه جديدة وطبيعة مغايرة لم يألفها من قبل.

لقد أحبّ فان كوخ غوغان وتعلّق به كثيرًا لأنّ كليهما فنان أصيل، ولا يشغلهما في الحياة سوى الرسم كهاجس أبدي. وعلى الرغم من اختلاف رؤاهما الفنية في طرائق الرسم وأساليبه المتعددة فإنهما كانا يتواصلان في النقاش ويتقاطعان عند نقاط فنية محددة، لكنهما لا يفترقان، إذ كانا يخرجان معًا، ويرسمان المناظر الطبيعية التي تسكن في عقليهما معًا، من دون أن يستنسخا أي وردة أو غصن أو شجرة حقيقية، فكانت المخيلة هي التي ترسم، والذاكرة البصرية هي التي تغذّي أعمالهما الفنية.

بكلمات أخرى، كان كل واحد منهما منهمكًا برسم الأشكال الخاصة به، وأشجاره الثاوية في أعماق مخيلته المتقدة على الدوام، فكيف لا ينهار فان كوخ حينما يقرّر غوغان الرحيل إلى باريس والاستقرار فيها بعيدًا عن هذه البلدة الريفية النائية التي يُحيط به فيها “أناس جهلة وأغبياء وأشرار”؟ لكن غوغان لم يكن يعرف بأن صديقه فان كوخ سيدفع الثمن غاليًا ويقطع أذنه اليسرى بموسى حلاقة ويرسلها عبر “غابي” إليه، علّه يثنيه عن فكرة الرحيل إلى باريس وتركه نهبًا للهلوسات والرؤى والكوابيس المزعجة التي تؤرّقه في أحلام اليقظة والمنام.

الفنان غوغان صديق فان كوخ يرسم السيدة جينو في مرسمه

غوغان وفان كوخ.. في ظلال السيدة جينو

لا نعرف فيلمًا مُنجزًا عن فان كوخ ينطوي على هذا الكمّ النوعي الكبير من الآراء النقدية عن تجربته الفنية المتفردة التي سبقت عصرها بكثير، ولو استثنينا الآراء السلبية التي أطلقها الكاهن وصاحب المقهى وبعض الشخصيات البسيطة التي لا تتوفر على خبرات بصرية عميقة تؤهلها للحُكم على جودة العمل الفني من عدمه؛ فإن هناك العديد من الآراء الإيجابية التي تمجّد فان كوخ كفنان أصيل لا يُجارى.

وبما أنّ غوغان يحضر في الفيلم كشخصية موازية لفان كوخ، ولعلها أشهر منه في تلك الحقبة الزمنية التي انتعشت فيها حركة ما بعد الانطباعية التي قادها سيزان وانتمى إليها غوغان وكوخ وجورج سورا، فإننا نرى كيف ركز المخرج شنابل على انتقاد غوغان للانطباعيين الذين اكتفوا برسم الأطفال في الحدائق، بينما كان يدعوهم للخروج إلى الطبيعة وتدريب العين على النظر إلى الأشياء دون التورط في استنساخها كما تفعل الكاميرا الفوتوغرافية، فهو موقن تمامًا بأن الرسم له علاقة وطيدة باستنطاق المشاعر الداخلية للفنان، وهذا ما يفعله فان كوخ أيضا وإن اختلفت الصياغات والتعابير اللغوية.

وبما أنّ الآراء النقدية كثيرة ومن الصعب حصرها جميعًا في فيلم طويل مدته 110 دقائق، فإننا سنكتفي بتسليط الضوء على أبرز هذه الآراء وأهمها في عملية الإبداع والخلق الفنيين. فعندما يرسمان السيدة جينو في المرسم فإنهما يدخلان في نقاش فني شديد الأهمية يبدؤه غوغان مستفسرًا “لِمَ العجلة يا فنسنت؟ يجب أن تخطط للوحتك ببطء، أنت في داخل المرسم ولست خارجه حيث تضايقك الريح والضوضاء. أرسم بهدوء ورويّة”، فيأتيه الردّ ذكيًا ومُقتضبًا “اللوحة يجب أن تُنجز بسرعة خاطفة مثل لمح البصر”. وفي موضع آخر من هذا النقاش المعمق يؤكد فان كوخ أن “اللوحة يجب أن تُنجَز بضربة عبقرية واحدة”، ثم تتبعها التفاصيل التي تؤثث السطح التصويري.

لم تكن الآراء الفنية لغوغان عابرة، فهو رسّام مبدع له بصمة خاصة في عالم الفن التشكيلي، وربما تكون ملاحظته الأساسية صحيحة جدًا بأن لوحة فنسنت هي أقرب إلى النحت منها إلى الرسم، ذلك لأنه يستعمل العجائن اللونية بكثافة شديدة بحيث تبدو اللوحة وكأنها عمل نحتي، ناهيك عن عنف الفرشاة التي تكشف عن انفعالاته وتوتراته الداخلية التي لا نلمسها عند الناس الأسوياء أو العاديين في أقل تقدير.

فان كوخ.. الجنون فنون

لم يكن فان كوخ إنسانًا سويًا، فغالبية تصرفاته تشير إلى مرضه النفسي الناجم عن الوحدة والكآبة والعزلة الفردية، بل يعتبره بعض الأطباء مجنونًا، لذلك أُرسل إلى أكثر من مستشفى إلى أن قرر الدكتور فيليكس راي تحويله إلى مصحّ “سانت ريمي”، وذلك بعد أن وعده بإمكانية مزاولة الرسم لكن بشرط أن يخضع لعلاجات المصحّ واشتراطات الأطباء. وقد مكث هناك 22 شهرًا ثم أخلي سبيله، لأنهم فعلوا كل ما بوسعهم من أجل إعادة تأهيله للحياة الاجتماعية من جديد.

ولو تتبعنا أحاديثه المتواصلة مع الدكتور راي والكاهن مادس ميكلسون وشقيقه الأصغر ثيو؛ لوجدناه مُصابًا بالهلوسة والهذيان وفقدان الوعي، إضافة إلى رؤية الأحلام والكوابيس الثقيلة المرعبة. فقد قال لأخيه ثيو “الناس يقولون عني إنني أصرخ في الشوارع وأبكي، وأضع طلاءً أسود على وجهي لإخافة الأطفال وترويعهم، لكنني لا أتذكر شيئًا من هذا القبيل، وكل ما أتذكره هو الظلام والقلق”. ثم يعترف لثيو بأن هناك رؤى تراوده لكنه لا يميّزها على وجه الدقة، فهي تأخذ شكل الأشباح والملائكة تارة، وتلوذ بهيئة البشر والورود تارة أخرى، وهم يتحدثون إليه لكنه لا يفهم لغتهم، كما أنهم ليسوا لطفاء معه.

ولعل أخطر ما في هذه الهلوسات أنه لا يعرف ماذا يفعل، وربما ينتحر أو يرمي بنفسه من مكان شاهق، وهو ما يوحي لنا بأنّ فكرة الانتحار واردة جدًا، رغم أنّ السياق السردي والبصري للفيلم قد أظهر شابين يهاجمانه ويدفنان لوحته بعد أن أطلق أحدهما النار عليه وأصابه برصاصة في معدته، لكنه التمس منه أن لا يتهم أو يدين أحدًا، وسُجلت القضية ضد مجهول لأنه لم يبح باسم أحد منهما أو مواصفاتهما.

فان كوخ عُرف بفلسفته في الفن التشكيلي مركزا على ثنائية الجمال والقبح

بين الفن والفلسفة والدين والثقافة

يتوفر الفيلم على عناصر فنية متعددة تسلّط الضوء على فلسفة فان كوخ، وتقدّمهُ لنا كنسيج متشابك يجمع بين الفن والفلسفة والدين والثقافة. ففي حديثه مع غوغان يعترف له بأنه يكره الضباب، وهو متعب من الضوء الرمادي، ويتلهف لأن يجد ضوءا جديدا، لهذا ينصحه غوغان بالذهاب إلى جنوب فرنسا حيث الشمس الذهبية وحقول الزيتون والحنطة، ومزارع دوّار الشمس التي تقلب حياته الفنية رأسًا على عقب، حتى يغدو اللون الأصفر مقترنًا بفان كوخ، وتلتصق به التنقيطية (مدرسة فنية) التي تُحيل إليه، مع أن آخرين يشتركون هذا الأسلوب ويتبنونه في أعمالهم الفنية مثل تشارلز أنغراند وبول سينياك وريسلبيرغ.

أما على الصعيد الثقافي فقد كان فان كوخ قارئًا جيدًا، ويمكن أن نكتشف ذلك من خلال لقائه مع السيدة جينو التي تحدث لها عن وليام شكسبير الذي يكتب عن الآلهة والملوك، والرجال والنساء، والحب والكراهية، وركز في حديثه على مسرحية “ريتشارد الثالث” التي يعشق فيها بعض الأبيات الشعرية المبهمة لأنه بطبيعته يحب الأشياء الغامضة، وشكسبير بالنسبة إليه هو أكثر غموضًا من أي كاتب آخر، ثم أهدته السيدة جينو في نهاية اللقاء دفترًا كبيرًا سوف يملأه بـ65 رسما أوليا (إسكيتش) وتم العثور عليه سنة 2016، أي بعد 126 عامًا.

أما الفلسفة والدين فهما يتجليان عند فان كوخ حينما يتحدث عن الأبدية والخلود مع غوغان، وعن الموهبة الإلهية مع الكاهن، ويتعمق في حديثه عن طبيعة الفن التشكيلي مُركزًا على ثنائية القبح والجمال، فهو رسام أولا وأخيرًا ولا يتقن في حياته سوى مهنة الرسم.

احتشاد الضوء الأصفر رغم كآبة البيوت المتآكلة

لم تكشف الأفلام السابقة عن تأثر فان كوخ برسّامين آخرين، لكن شنابل الرسّام والمخرج في آنٍ معًا يعرف أهمية هذا التأثير، فأحاطنا علمًا بخمسة فنانين كبار وهم على التوالي فرانس هالز وغويا وفيلاسكيز وباولو فينوريزي وديلاكروا، وكلهم ملوِّنون من الطراز الرفيع الذي أفاد منه فان كوخ، وطوّع تقنياتهم في تجربته الفنية القصيرة زمنيًا، لأن حياته لم تمتد أكثر من 37 سنة.

يختتم شنابل فيلمه بلقاء فان كوخ مع الدكتور غاشية الذي رسمه أكثر من مرة وأحبّ صداقته، وكان هذا الطبيب شاهدًا على إصابته بطلق ناري، لكنه لم يعترف له كيف تلقّى هذه الرصاصة في معدته، فهو لا يملك مسدسًا كي ينتحر، ولا بد أن يكون مطلق الرصاصة شخصًا آخر لم يكشف المخرج النقاب عنه، لأنه يقدّم للمشاهدين روايته الشخصية التي يأمل أن يتماهى معها الجمهور وتجعلهم قريبين جدًا من شخصية الراحل فان كوخ الذي غادرنا بجسده، لكن أعماله الفنية الكثيرة تستعيد لنا حياته المحتشدة بالضوء الأصفر رغم كآبة البيوت القديمة المتآكلة، والتي سكنها في سنواته الأخيرة التي ملئت بالنبذ والمعاناة والجنون.

ثمة عناصر فنية أخرى تكمن خارج إطار القصة السينمائية وأداء الشخصيات، حيث تألق في تصوير اللقطات والمشاهد المصور بينوا دلهوم، ولعبت الموسيقى التي أبدعتها الفنانة تاتيانيا ليسوفسكايا دورًا مهما في إثراء النص البصري وتصعيده دراميًا إلى الدرجة التي تماهت فيها مع أحداث القصة السينمائية التي تدفقت بانسياب مبهر لدقة المونتاج ورهافته العذبة التي شذّبت الفيلم من أي خطأ سردي أو تقني.

جدير بالذكر أن شنابل أخرج ستة أفلام، ونال عنها العديد من الجوائز المحلية والعالمية أبرزها “باسكيا” و”ميرال” و”قبل حلول المساء”، إضافة إلى فيلمه الأخير الذي أوصل فيه فنسنت فان كوخ إلى “بوابة الخلود”.