“فورد ضد فيراري”.. ليس مجرد سباق يحبس الأنفاس

رشا حسني

عادة ما يُفضّل صُنّاع الأفلام تقديم القيم الحياتية والإنسانية المؤثرة من خلال أفلام درامية أو ميلودرامية، ظنا منهم أنها الأنواع الفيلمية المناسبة لتقديم مثل هذه الموضوعات، وهنا تكمن أولى نقاط تميز رؤية المخرج “جيمس مانجولد” في أحدث أفلامه “فورد ضد فيراري”، الذي قرّر أن يطرح به أفكارا تتعلق ببعض القيم والمعاني الإنسانية الراقية والصعبة والمعقدة، كالسعي للكمال والبحث عن التحقق، من خلال فيلم دراما رياضية عن سباقات السيارات الأشهر على مستوى العالم.

فقد قام مانجولد بمتابعة مقتطفات من السيرة الذاتية لشخصيتين بارزتين في مجال سباقات السيارات، وهما “كارول شيلبي” أول أمريكي يفوز بأهم وأكبر وأشهر سباق سيارات في العالم “لومان” عام 1959، والذي قام بأداء دوره الممثل “مات ديمون”، وصديقه ومساعده السائق المعجزة “كين مايلز” الذي أدى دوره ببراعة الممثل “كريستيان بيل”.

ويتطرق المخرج “مانجولد” بهذا الفيلم لنوع فيلمي جديد عليه هو شخصيا، وهو نوع أفلام الدراما الرياضية وأفلام سباقات السيارات، وذلك بعد أن اعتاد صناعة أفلام الحركة والجريمة والإثارة، مثل “السير على الخط” (2005) بطولة “خواكين فينيكس” و”3:10  إلى يوما” (2007)، وهو من بطولة “راسل كرو” و”كريستيان بيل”، و”لوجان” (2017) من بطولة “هيو جاكمان”.

واشترك في كتابة سيناريو هذا الفيلم ثلاثة كُتّاب هم “جيز بترورث” و”جون هنري بترورث” و”جيسون كيلر”، ورشح الفيلم لأكثر من 63 جائزة دولية نال منها 23 جائزة فقط، من بينها جائزتي أوسكار لأفضل مونتاج وأفضل مونتاج صوتي.

 

“شيلبي” العنيد.. من أنت؟

المشهد الأول في الفيلم هو عبارة عن تغطية حيّة لسباق السيارات الأشهر على مستوى العالم “لومان”، وهو سباق الـ24 ساعة لعام 1959، والذي نعلم في المشهد التالي له مباشرة أنه كان آخر سباق يُشارك به “كارول شيلبي” كأول أمريكي يُحقق الإنجاز التاريخي ويفوز بهذا السباق الشهير.

ومن خلال هذا المشهد تظهر بوضوح شديد ملامح شخصية “كارول شيلبي” العنيدة، وذلك عندما يُصرّ على استكمال السباق على الرغم من اندلاع النيران بسيارته، لكنه يُفاجِئ فريقه بأنه سيستكمل السباق ما دامت النيران لم تَطله هو شخصيا ولم يحترق. ثم يظهر شيلبي في المشهد التالي وهو في عيادة طبيبه الخاص الذي يخبره بأن حالة قلبه الصحية خطيرة جدا، وتمنعه من المشاركة في سباقات السيارات، وأن سباق “لومان” 1959 آخر عهده بسباقات السيارات.

يستمع “شيلبي” في البداية لحديث الطبيب مُستنكرا، ثم يتقبّل الأمر الواقع بمنتهى الحزن والألم والأسى والتحدي أيضا، حيث يستقلّ سيارته، وفي طريق عودته يُعيد التفكير فيما مضى من حياته وما هو قادم في مستقبله، حيث يطرح على نفسه تساؤلا يمكن أن نُطلق عليه أنه تساؤل وجودي، وهو “من أنت؟”، وربما محاولة “شيلبي” إجابة نفسه على هذا التساؤل هي ما هداه إلى استكمال مسيرته في نفس مجال شغفه وهو مجال السيارات، لكن ليس كسائق سباقات، بل كمُصنّع لسيارات السباقات.

“كين مايلز” الذي يرى أن الطريقة المثلى لقيادة السيارة هي أن تقودها وفقا لإمكانياتها ولمواصفاتها، لا لقدرة سائقها

 

فلسفة التعامل مع السيارات.. ملامح شخصية مايلز

كان أول ظهور لشخصية “كين مايلز” في ورشته الخاصة بتصليح السيارات، حيث يتجادل مع عميل غير راضٍ تماما عن أسلوب “كين مايلز” في التعامل معه، وفي الطريقة التي يُصلح بها سيارته، كما تظهر من خلال هذا المشهد طبيعة شخصية “مايلز”، والأهم فلسفته في التعامل مع السيارات وقيادتها.

حيث يرى “مايلز” أن الطريقة المثلى لقيادة السيارة هي أن تقود كل سيارة وفقا لإمكانياتها ولمواصفاتها التي طُرحت بها، لا وفقا لقدرة السائق، وهو الأمر الذي يتميز به، والذي أهّله للفوز بكل سباقات السيارات التي اشترك بها تقريبا.

مشكلة فورد التسويقية.. تسلل إلى صراع الشخصيات

نرى في المشهد الثاني للفيلم الظهور الأول لثالث أطراف الحكاية والصراع في الفيلم، وهي شخصية “هنري فورد” حفيد مؤسس مصانع سيارات فورد الأمريكية الشهيرة، والذي يعرض مشكلته بشكل مباشر على عمّال مصنعه، وهي تراجع مكانة سيارات فورد على مستوى العالم، وتراجع نسب مبيعاتها، بينما يحث عمال مصنعه على التفكير في حلول مبتكرة لحل مشكلات مصانع وسيارات فورد.

من خلال المشاهد الثلاثة السابق ذكرها، يدخل سيناريو الفيلم مباشرة وبمنتهى الوضوح والذكاء إلى صُلب حكاية الفيلم، وصراع كل شخصية من الشخصيات الثلاث الرئيسية، وصراعها الداخلي والخارجي أيضا، حيث أزمة “كارول شيلبي” وعدم قدرته على المشاركة في السباقات، ومشكلة شركة فورد التسويقية، ورغبة “هنري فورد” في حلول مبتكرة، ثم صراع “كين مايلز” مع ظروف حياته المعيشية الصعبة جدا واضطراره للعمل كأجير بعد حجز الضرائب على ورشته الخاصة، نتيجة لفلسفته الخاصة في التعامل مع السيارات وقيادتها وتصنيعها، وهو الأمر الذي يوضح طبيعة سيناريو الفيلم المشابه للعبة “الميكانو”، حيث يضيف كل مشهد جزءا من الصورة العامة والكبيرة للفيلم.

مايلز يسخر من شيلبي عندما يخبره بنية شركة فورد تصميم سيارات سباقات تنافس فيراري

 

رحلة البحث عن الذات.. الضياع في حلبة السباق الصناعي

من خلال المشاهد الثلاثة الأولى التي سبق ذكرها، والتي تعتبر مداخل جيدة وواضحة لفهم طبيعة شخصيات الفيلم وصراعاتها، يمكن اعتبار فيلم “فورد ضد فيراري” ليس فقط مجرد فيلم رياضي عن سباقات السيارات، لكنه أيضا فيلم درامي يحمل عددا من الرحلات الحياتية، كرحلة “شيلبي” للبحث عن ذاته ومجال تحققه، وسبل أخرى لتحقيق ذاته في مجال شغفه، ورحلة مايلز لإثبات ذاته أيضا، وذلك عندما سأل نفسه وهو في ترتيب متأخر لا يمكنه من الفوز بالسباق “لماذا أنا هنا.. لماذا جئت هنا ولكي أحقق ماذا؟”.

وإجابة هذا السؤال هي ما كان يجعله دائما يعود ويكمل الطريق الذي بدأه، بل وكانت تجعله يعود ويستجيب لطلبات “شيلبي” المجحفة، وتخطّي أي مواقف أو ردود فعل سلبية يُغلب فيها “شيلبي” مصلحته ومصلحة شركته على صداقتهما، مثل استجابته لرغبة المدير التنفيذي لشركة فورد بعدم إشراك “مايلز” في سباق لومان الأول، مما أدى لخسارتهم السباق.

أما على صعيد التحدي، فالفيلم مليء بالتحديات الذاتية الداخلية التي تخوضها الشخصيات لتحقيق ذواتها، والخارجية أيضا لإثبات أحقيتها أو وجهة نظرها، بداية من قبول “شيلبي” مهمة تصميم وتصنيع سيارة سباق لصالح شركة “فورد” تُنافس بها الشركة الإيطالية “فيراري” الرائدة في الفوز بسباق لومان الفرنسي في مدة 90 يوم فقط، ثم قبول مايلز هذا التحدي المستحيل ومساعدته لشيلبي في تصميم وتطوير السيارة، وصولا إلى تحدي هنري فورد لإنزو فيراري مالك شركة فيراري حتى بعد خسارته السباق الأول، وتصميمه على استمرار التعاون مع “شيلبي” وفريقه للفوز بالدورة التالية من سباق لومان.

شيلبي يعرض على مايلز أن يساعده في تصميم سيارة فورد لمنافسة فيراري في سباق لومان

 

كاميرا السباق.. حين يعتلي المُشاهد مقعد القيادة

تُعتبر تجربة مشاهدة هذه النوعية من الأفلام تجربة خاصة جدا، فإذا لم يكن المُشاهد من المهتمين بموضوع الفيلم، فإنه قد ينصرف عن الفيلم ولا يُكمله، لكن يكمن الرهان هنا على جودة العناصر الفنية للفيلم، وهي التي من الممكن أن تأسر المشاهد لمتابعة الفيلم، بل والانخراط معه حتى وإن لم يكن مهتما بالموضوع، أو لم يكن على دراية كافية به وبخلفياته.

وهو ما استطاع صُنّاع فيلم “فورد ضد فيراري” تحقيقه، فتضافرت كل عناصر الفيلم الفنية في ضبط إيقاعه بما يتناسب مع موضوعه، وفي التوغل في تفاصيل الفيلم وسباقات السيارات بطريقة تجذب المشاهد العادي، أو المشاهد غير المهتم أو غير المتخصص، وذلك عن طريق الاهتمام الشديد بعنصر التصوير على سبيل المثال، الذي اتخذت من خلاله الكاميرا زوايا جعلت المشاهد يشعر وكأنه داخل السباق، حيث يرى ويتابع كل شيء من كل جانب، من أسفل السيارة ومن أعلاها ومن جانبها، ويرى وضعها بجوار السيارات الأخرى، ومتابعة أشدّ الحركات خطورة، فيشعر أنه أحد أفراد السباق، بل وبدون مبالغة قد يشعر أحيانا أنه هو الذي يعتلي مقعد القيادة.

المونيتر “مايكل مكوسكر” و”أندرو بوكلاند” حصلا على جائزة أفضل مونتاج عن فيلم “فورد ضد فيراري” في حفل الأوسكار 2020

 

جائزة الأوسكار.. فعالية الموسيقى والمونتاج

تُعتبر الموسيقى المصاحبة لأحداث فيلم “فورد ضد فيراري” بدون شك أحد أهم عوامل تميزه، فهي نموذج جيد على التأثير الدرامي الفاعل للموسيقى التصويرية باعتبارها فاعلا دراميا، وليس فقط خلفية للتعبير عن مشاعر أو مزاج الشخصيات. ويمكن التدليل على هذا من خلال توظيفها في المشهد الخاص باتخاذ هنري فورد القرار بتصنيع سيارة سباق تُنافس فيراري في سباق لومان مهما كلفه الأمر من أموال، وكيفية تصاعد الموسيقى في المشهد وتعبيرها عن لحظات الترقب ثم التوتر، ثم أخيرا الوصول للقرار الحاسم.

لكن لم تكن الموسيقى التصويرية فقط هي ما ميّز الفيلم من الناحية الصوتية، بل إن تصميم شريط الصوت كله ومزج عناصره كان أحد أهم مميزات الفيلم، مثل توظيف صوت مُحرّك السيارات في مشاهد للدلالة على اتخاذ قرار حاسم، أو لإنهاء مناقشة، أو لبدأ مرحلة جديدة في حياة أحد الشخصيات.

أما عنصر المونتاج وهو العنصر الذي تُوّج بجائزة أوسكار مُستحقة، فهو بالفعل أكثر عناصر الفيلم تميزا، وهو العنصر الذي ضبط إيقاع الفيلم اللاهث المتوافق مع طبيعة سباقات السيارات خاصة سباق لومان، وذلك من خلال الانتقال المدروس للقطات داخل السيارة لخارجها، والانتقال ما بين اللقطات الواسعة واللقطات المقربة، والانتقال ما بين لقطات متابعة السباق من الخارج واللقطات التي تجمع السيارات المتسابقة على نفس السرعة، ثم تقدم إحداها وضبط كل هذه اللقطات وتركيبها بحسّ دقيق ومحسوب.

 

مزارع طيار.. قصة نجاح ومثابرة

من بين العوامل التي تؤكد على أن “فورد ضد فيراري” ليس فيلما رياضيا عن سباقات السيارات فقط؛ هو وجود أبعاد أخرى لحكايات الأبطال، كحكاية “شيلبي” باعتباره بطلا أمريكيا بامتياز، وقصته هي قصة نجاح أمريكية، حيث بدأ حياته كمزارع، ثم اشترك بسلاح الطيران في الحرب العالمية الثانية، ثم بعد انتهاء الحرب عاد للعمل كمزارع، لكنه بدأ في الوقت نفسه الاهتمام بالسيارات، والاشتراك بسباقات السيارات في بداية الخمسينيات.

وبعد عدم قدرته على المشاركة في السباقات قرّر أن يؤسس مصنعا لتصنيع سيارات السباقات سنة 1962، حيث أطلق عليه اسم “شيلبي أمريكان”، أي أنه قصة نجاح ومثابرة مثلها مثل آلاف قصص النجاح التي قدمتها وتقدمها السينما الأمريكية، وذلك للدلالة على معدن المواطن الأمريكي وأصالته.

مخرج فيلم “فورد ضد فيراري” جيمس مانجولد في حدث لفورد ضد فيراري عام 2019

 

جزء من العائلة.. علاقة السائق بسيارته

بداية من المشاهد الأولى للفيلم ينطبع في ذهن المشاهد الشعور بمدى أهمية السيارات في هذا الفيلم، ليس فقط من ناحية مشاركتها في السباقات، لكن من ناحية علاقة أصحابها بها، وهي لفتة ذكية ومهمة في مثل هذه النوعية من الأفلام.

واستطاع “مانجولد” التعبير عن تلك العلاقة على سبيل المثال بين “شيلبي” وسيارته عندما ظهر في بداية الفيلم، وبعد أن ترك عيادة الطبيب وتأكد من عدم قدرته على خوض السباقات مرة ثانية، فاستقلّ سيارته وأدار المُحرّك وبدأ يتنفس ويهدأ، كما لو أنه هدأ على صوت محرك السيارة، وكما لو أن محرك السيارة قد حلّ في هذا المشهد محل صديق وفيّ لشيلبي طمأنه وهدّأ من روعه.

وهو الأمر نفسه الذي تكرّر معه أيضا في آخر مشاهد الفيلم، وذلك بعد الحوار الذي دار بينه وبين ابن “مايلز” بعد وفاته، حيث تأثر “شيلبي” تأثرا شديدا فركب سيارته وقام بالاستماع إلى صوت المحرك ليهدأ ويطمئن، محاولا أن يتجاوز حزنه على وفاة صديقه، وربما للدلالة على أنه لن يتوقف عن عشقه وشغفه في الحياة، وتمسكه بعمله بمجال السيارات، وكل ما له علاقة بالسيارات.