بين فورست الغبيّ النقيّ.. وفيكتور الذكيّ الشجاع

ثمة ملهمون سينمائيون مثاليون يحسبهم المُتأمل ملائكة، ليس بهم من شيم البشر خصلة، فهم كالبدر مكتملون تماما لدرجة قد تزعجك أحيانا، أو تخلق منك مُتَشككا لا يأبى أن يغادره السؤال: هل هؤلاء المُنمَقون في جمالهم وصدقهم وحقيقتهم قد يكون لهم وجود خارج شاشة السينما؟

والحقيقة أنني لست بصدد الإجابة عن هذا السؤال من أجلك الآن عزيزي القارئ، لكنني فقط سأكتفي بالتطرق إلى شخصيتين من هذا القبيل، الذي يأخذ قلبك رغما عنك إلى عالم وردي زاده الحب والصدق على الرغم من أنه لا يمنح عقلك السلام الكافي. وبين هذا التناقض المُلتَبِس ما بين الراحة والأرق، النوم واليقظة، الخيال والواقع، سنتأمل ونُحلِل ونشعر وكفى.

فورست.. الغبي الذي لا يتصرف كالأغبياء

في فيلم “فورست غامب” (FORREST GUMP 1994)، تظل “سالي فيلد” البطلة التي قامت بدور والدة فورست غامب تؤكد على طفلها محدود الذكاء: “تذكر دوما يا فورست أنت لست مختلفا، وأنت لست غبيا، الغبي هو وحده من يتصرف كالأغبياء”.

والحقيقة أن فورست كان مستمعا جيدا لوالدته، وفيما بعد ظلّ يردد كلماتها، لكن الأهم أنه لم يكتفِ بترديدها بل قام بغير قصد بتحويلها إلى حقائق، فتجلّت قيمتها من خلال مسيرة حياته، ولأن الحياة اختيارات فإن اختيارات فورست وحدها هي ما قادته كي يكون أفضل نموذج للتعبير عن شعارات والدته التي قد تظل مثيلاتها في الكتب.

فورست يشب منذ صباه متيما بحب “جيني”، لا يتراجع قيد أنملة عن غرامه بها على الرغم من تصرفاتها القاسية معه، وكان فورست نموذجا يُحتذى به للعاشق كما وصفه التراث العربي وكما تتناقله الأجيال الكلاسيكية على مستوى العالم، فهو لم يمانع أبدا في أي مرة تخلت عنه فيها جيني، وكلما تذهب كان ينتظرها دون أن يقطع نفسه عنها، يراسلها حتى وإن لم يتلق ردا ويُفكر فيها ولا يشغل باله إذا كانت هي أيضا تفعل المثل.

كان فورست المحب الذي لم يجد علّة للحب بالغا فيه الكمال كغاية من دون أن يستخدمه كوسيلة، وحتى عندما تغيرت أحواله وطمع في طلب الزواج من جيني لم يأبه حينما أتاه رفضها بيّنًا حتى وإن تكدر، ففي النهاية حينما ندهته واحتاجت إلى أن تحتضر في حضنه بعد هروب طويل غير مفهوم لبّى وأخلص في رعايتها والعناية بها. صبَر فورست كما ينبغي للمحب الحق أن يصبر، ولهذا فإن القدر بشكل أو بآخر نَوّله، وحبيبته الموعودة ماتت وهي تحمل اسمه وتركت له منها ابنا.

فورست.. طموحي أن أبقى كما أنا

في مرة من المرات التي التقى فيها كل من فورست وجيني، سألت الأخيرة الأول “هل فكرت يوما فيما ستكونه لاحقا؟”، فأجابها فورست وهو مندهش “ألن أكون أنا؟”.

ثمة من سيضحك على إجابة فورست متفكرا “انظر إلى هذا الغبي، إنه لا يفهم مقصدها عن الطموح”، والحقيقة أن الغبي ليس إلا هذا الشخص الذي سيفكر بهذه المنهجية المتوقعة، والذي هو متجسد في معظمنا.. نعم، والفَطن وحده بيننا هو فورست.

فورست أجاب الإجابة الأفضل في تاريخ إجابات هذا السؤال منذ خُلقَت البشرية، ووضعت تصوراتها عن التطلعات والأمنيات ومعنى تحقيق الذات. الكل يتهافت إلى النجاح بما هو مشروع ومعترف به بين الناس سواء على مستوى المناصب والشهرة والمال والوجاهة، لكن النادرين هم من يقصرون رجاءهم في النجاح على أن يظلوا أنفسهم حتى الممات.

وفورست فعلها، ظل نفسه غير متطلع لغيرها يحقق رغباته كما اتفق له، ويسمع صوت ذاته لا يعلو عليها شيء، أحب لعب “البينغ بونغ”، وتماهى معها فانهالت عليه العروض الإعلانية للمضارب التي أغدقت عليه الأموال كي يُروّج لمضربها، ثم أنفق كل دولار كسبه من هذه الحملات في مقابل شراء مركب لصيد “الجمبري”، وعلى الرغم من أنه لا يفقه شيئا في هذا الشأن، لكنه قام بذلك حفاظا على وعد قدمه لصديقه المفضل الذي مات على يده في حرب فيتنام وهو يتمنى شراء مركب صيد للجمبري.

فورست يقضي وقتا طويلا مع ابنه الصغير في الصيد

الكل وبّخ فورست واتهمه بالغباء، لكنه كان يرد بعفوية وثقة “الغبي هو وحده من يتصرف كالأغبياء”. وبعد عدد من المنغصات التي لا بد وأن تفرضها الحياة علينا غصبا، تحدث المفارقة ويتحول فورست إلى مليونير بفضل إصراره على الوفاء بوعده وعدم التراجع عن مبدئه في ألا يحيد عن ذلك التصرف.

وبعدها يفعلها مجددا، ويتخلى عن جزء كبير من ثروته تلك ببساطة لصالح عدد من المؤسسات الاجتماعية والخيرية، ويعمل في جزّ العشب مجانا، فقط لأنه يرغب في ذلك.

ثم وبعد أن تهجره جيني في مرة من أفدح مرات هجرانها له يطلق ساقيه للجري، يغادر منزله ويركض في الأفق، يظل يركض ويركض لمدة ثلاث سنوات، يتحول إلى بطل ومُلهِم تحيط به وسائل الإعلام، تسأله السؤال المعتاد “لماذا تقوم بالركض، هل تركض من أجل السلام، من أجل فكرة بعينها؟ هل، هل..؟ لماذا، لماذا..؟”، فيجيب ببساطة “شعرت فقط أنني أرغب في الركض”

. ثم وفي منتصف طريق قاحل وعلى الرغم من تبجيل التابعين الذين انسلوا وراءه وكأنه الوحي يقف ويتفوه بحسم “لقد تعبت، أشعر برغبة في العودة إلى المنزل”. نعم، لم يتمادَ الشيخ في أن يسترضي مريديه، ولهذا لن يظل شيخا لوقت طويل، ولكن فورست آخر همه أن يُصبح أيقونة لأحدهم، فهو يتصرف كما يروق لنفسه ويُحاكي بصدق ما يعتمل في داخله.

فورست.. مارس السعادة ولم ينتظرها كالأغبياء

أنقذ فورست الملازم أول “دان” ملازمه في حرب فيتنام، ولم ينصع لصرخاته وهو يتوسل إليه “اتركني أيها الغبي، أريد أن أموت بين جنود فصيلتي الذين هلكوا”، لكن فورست لم يدعه للموت، وبناءً عليه عاش الملازم أوّل دان كسيحا إثر إصابته الخطيرة في ساقيه ما استدعى بترهما.

الملازم أول دان لم يغفر لـفورست فعلته، وظلّ ينهره كلما يراه مغلولا محتقنا ناقما، ففي مشهد نراه يصرخ في فورست “لماذا أنقذتني أيها الأحمق؟ لقد كنت الملازم أول دان، وانظر إلي الآن”، ينظر فورست إليه بغرابة ثم يقول “أظن أنك ما زلت الملازم أول دان”.

فورست ينقذ صديقه “دان” بعد إصابته بقذيفة في حرب فيتنام

بالطبع جميعنا يتفهم أزمة الملازم أول دان ونعذر فورست على قلة استيعابه لمأساة ملازمه العاجز، لكننا كالعادة حفنة من الأغبياء، والفارق أن فورست لا يتصرف دوما مثلنا، لأن الملازم أول دان بالفعل ظل نفسه، ففقدان أي عضو من أعضاء الجسم مؤلم بالتأكيد لكنه لا يغير ما بداخلنا. والحقيقة أن هذا الملازم شديد الغباء لأنه ومنذ فقد ساقيه لم تهدأ حنجرته عن الصياح والزعيق، ولم يكفّ عن تقيؤ أوجاعه في وجه فورست، ويحمله مسؤولية عجزه وألمه.

لكن الواقع يقول إن الملازم أول دان بقي على قيد الحياة وتصرف في مرة من المرات بذكاء، وقرر أن يشارك فورست مركب صيد الجمبري إياه، فإذا به يصبح مليونيرا ويتصالح فجأة مع الحياة، وحينها يعي أن بقاءه كان حتميا، وأن ليس ثمة شيء قد يعيق أحدهم عن العيش سوى نفسه، ومن ثم يتذكر أن يشكر فورست على إنقاذ حياته.

في مرة من المرات جيني سألت فورست “هل كنت خائفا في فيتنام؟”، فأجابها “نعم لكنني لا أعرف، فالمطر أحيانا كان يتوقف لمدة كافية تمكنني من رؤية النجوم، وهذا الأمر بدا لطيفا”. نعم، فـفورست لم يتذكر من دماء وفزع وقهر حرب فيتنام سوى رؤية النجوم في السماء. فورست ليس غبيا، بينما نحن كذلك.

فيكتور.. نقاء فورست لكن بعقل متقد

يصل “فيكتور نافورسكي” لتوّه إلى نيويورك ثم يكتشف حقيقة أن بلاده “قراقوزيا” في موقف حَرِج سياسيا بعدما حدث فيها انقلاب عسكري، فباتت بين عشية وضحاها دولة غير معترف بها رسميا، ولهذا فإن نافورسكي هو الآخر أصبح مواطنا هائما لا يحق له العودة إلى بلاده ولا أن يطأ بقدمه أرض نيويورك، لذا فعليه أن يعتاد الإقامة لأجل غير مسمّى في صالة من صالات مطار نيويورك. من خلال هذا المأزق المُرَوّع تتكشف الشخصية المذهلة لهذا المواطن القراقوزي الذي قد لا تتعرض لمثل شفافية ونقاء وقوة روحه مرة ثانية في حياتك على الإطلاق.

إن كمالية شخصية فورست يمكنك الجزم بأنك قد تصادفها واقعيا في يوم ما لأن فورست نموذجي رغما عنه وبغير إرادة منه، فهو يملك عقل طفل وروح بريء غير واعٍ بالقبح الذي يملأ هذا العالم، لكن المخرج “ستيفن سبيلبيرغ” يقدم لنا شخصية “نافورسكي” في فيلم “المحطة” ( 2004 The Terminal) باعتباره رجلاً في كامل إدراكه، واعيًا تماما لشرور ما حوله، فـنافورسكي”هو المعادل الفعلي لفكرة الراهب الحقيقية، الراهب الذي يمكنك أن ترى أنه يستحق هذا اللقب دون أية شكوك لأنه لم يختر الصحراء ليعيش فيها معتزلا الحياة وزاعمًا أنه يحيا باسم الرب، لكنه وافق على تحدي وجوده في قلب المدينة دون أن تزعزعه الملذات، بينما ظل يحمل اسم الله في قلبه وأيامه وأفعاله.

فيكتور.. تجاوز الحزن وفكر بحلول بديلة

“نافورسكي” لا يبدد طاقته في الزعل، يتجاوز الحزن على أي شيء، ويَدّخِر كل قدراته في التفكير وضرورة العمل على إيجاد حلول بديلة، فمنذ اللحظة الأولى له في المطار يفقد الكوبونات المجانية للطعام، والتي وفرتها له الإدارة رأفة بوضعه المُبهَم، تتطاير الكوبونات على الأرض فيلتقطها عامل النظافة ليضعها في صندوق القمامة، يهرع إليه نافورسكي طالبا منه الكوبونات، فيمانع الرجل الهندي غريب الأطوار طالبا منه أن يأتي بإذن إن كان يود تَفحُّص صندوق قمامته في تمام يوم الثلاثاء.

في المقابل نجد نافورسكي مُتقَبلا شرط الرجل ببساطة وتفَهُم دون أن يهلع من كونه سيظل بلا طعام حتى يوم الثلاثاء القادم. ثم تراه يحاول التصرف في طعامه بطريقته الخاصة فيصنع شطيرة بائسة من البسكويت والمسطردة والكاتشب المتوفر مجانًا في المطاعم.

“توم هانكس” هو الممثل الذي لعب كلًّا من شخصية فورست غامب وفيكتور نافورسكي

نافورسكي لا ييأس، يقدم يوميًا أوراقه إلى الموظفة المختصة على أمل أن تطبع الختم الأخضر بكلمة “مقبول” على الورق الخاص به ليتم اعتباره مواطنًا صالحا لدخول نيويورك، لا يكِلّ من فعل ذلك على الرغم من تأكده أن ورقه ما زال مرفوضا، وأن أزمته وأزمة بلاده ما زالت مستمرة. فهو أيضا لم يستسلم لكونه غريبًا وسط أناس لا يتحدثون إلا لغة ليس ملمًّا بها على الإطلاق، فنراه يتطلع إلى تعلم الإنجليزية بمجهوده الشخصي لكي يجيد التواصل مع كل من حوله في حيلة لتحسين وضعه المعقد وغير المفهوم، يقوم بشراء كتب بلغة بلاده وكتب مطابقة لها باللغة الإنجليزية، ويبدأ المقارنة والملاحظة والتقاط الكلمات وتمييزها.

“نافورسكي” مع عامل النظافة الهندي.. صداقة تمتد حتى نهاية الفيلم

“نافورسكي” أيضا شخص ذكي لأن تعلم لغة بمثل هذه المنهجية البدائية ليس أمرا هيّنا، بل يتطلب شخصا يقظ الذهن وسريع البديهة، وهو ما يتوافر في نافورسكي الذي حينما يحاول استمالة “ديكسين” مدير المطار لصفّه حينما تسوء الأمور بينهما، نراه يحاول إهداءه سمكة مُحنَّطة كبيرة الحجم لأنه فطن جيدا لغرامه بمثل هذه التذكارات البحرية التي يزخر بها حائط مكتبه منذ بداية الفيلم.

نافورسكي يجد من الطاقة والقوة والقدرة أن يهب حبًا حقيقيا لـ”إيميليا” الفتاة الجميلة التي تعمل مضيفة، وتفني نفسها في علاقة باهتة مع رجل متزوج، حتى وهو يعاني من تلك الظروف المُعقدة والكفيلة بأن تستنفد روح أحدهم ولا تمكنه حتى من حكّ رأسه.

فيكتور.. الانحياز للمبادئ والأصدقاء

لكن نافورسكي نقي لا يُعكر صفو نفسه شيء، لهذا نراه يكذب لإنقاذ الآخرين على حساب مصالحه الخاصة، فيُضيع آخر عرض مساعدة قدمه له ديكسين مدير المطار في مقابل اختيار إنساني دعّم فيه مُسافرا كان يحتاج بشدة إلى الذهاب لأبيه بالأدوية التي كان المطار سيصادرها منه.

وحينما خرجت بلاده من الأزمة وكان له كل الحق في مغادرة المطار إلى نيويورك، وحينما راح يواجه د”يكسين” مدير المطار بحقه القانوني في ذلك، نرى الأخير يُهدده بشكل صريح إما أن يخضع لرغبته -كما استحلف له من قبل بأنه لن يطأ بقدمه أرض نيويورك طالما كان هو مديرا لهذا المطار- أو يتجرأ في فعلها واعدا إياه أنه سيؤذي أصدقاءه من العمال البسطاء الذين تعرف عليهم وعاشرهم خلال فترة وجوده بينهم في المطار، فيختار “نافورسكي” ورغم صبره المديد وردات فعله الشجاعة في كل المواقف الماضية ألا يقف في وجه “ديكسين” حتى لا يُلحِق الضرر بأي فرد ممن يعرف.

نافورسكي رجل مبادئ من الطراز الأول، فعندما حرضه “ديكسين” على إجابة سؤال “ما إذا كان خائفا من بلاده” بـ”نعم”، حتى يستطيع أن يخرجه من مأزقه الذي لا يُحسَد عليه، يصر نافورسكي على الإجابة بـ”لا”، فهو لا يخاف من بلاده أبدا حتى وإن كانت على هذه الحالة من الفوضى والدمار، حتى وإن كانت هذه الإجابة لا مفرّ منها، حتى وإن كانت الكلمة السحرية التي ستنقله على البساط في غمضة عين من قاعات المطار إلى شوارع وأزقة نيويورك.

وهو أيضا الرجل الذي ظل متشبثًا بضرورة تحقيق وعده لوالده، الوعد الذي اقتضى أن يذهب إلى نيويورك لإحضار الإمضاء الأخيرة المفقودة والتي ستُتَمم مجموعة الإمضاءات التي حرص والده على تجميعها على مدار عشرات الأعوام لفرقة جاز شهيرة.. نعم، “نافورسكي” اختبر كل هذه الصعاب من أجل الوفاء لوعد والده بخصوص فرقة موسيقية.

فيكتور نافورسكي” خرج من مطار نيويورك رغما عن أنف مدير المطار “ديكسين” بمظاهرة حب”

فيكتور نافورسكي خرج من مطار نيويورك رغما عن أنف ديكسين بمظاهرة حب، اشترك فيها الكل مُتخذين قرارًا بحماية ظهره، ولسان حالهم يقول في شجاعة وتجمهر “فيكتور في حمايتنا يا ديكسين”. الكل تصرف هكذا لأن فيكتور ألهم كلًا منهم وجعلهم يتمتعون من خلاله بصفات قد لا يستطيعون بلوغها بأنفسهم. كان ملاكهم الذي يحمل نفس جيناتهم البشرية فأحبوه وحققوا معه نوعًا من السمو قد لا يوجد فيهم داخل الظروف العادية.

آخر كلمتين:

“توم هانكس” هو الممثل الذي لعب كلًّا من شخصية فورست غامب وفيكتور نافورسكي.