“فوضى”.. أرواح سورية بين المنفى والاغتراب

قيس قاسم

 

ماذا فعلت الحرب بأرواح النساء السوريات، وأيّ مرارات عشن خلالها لدرجة لم تتخلص منها حتى الهاربات من جحيمها؟

تلك الأسئلة الملتاعة المشحونة بأسى مُضمَر يحملها معه فيلم “فوضى” في كل مكان يذهب إليه بحثا عن أشد الحالات التي تعكس دمار بلد ونهاية حيوات، وعذاب أرواح هائمة لا مُستقرّ لها، أرواح تلاحقها الذكريات بعناد، ولا تنفكّ عن إيلامها أينما حلّت.

لم يرصدها فحسب، بل اشتغل على عرضها بأسلوب سينمائي شديد التميّز، ولفرادته استقبل إنجاز السورية سارة فتاحي بترحاب نقدي، ونال العديد من الجوائز في أولى عروضه الدولية، وهو ما يطرح بدوره سؤالا عمّا إذا كانت الفرادة وحدها سببا كافيا في إقناع أعضاء لجنة مسابقة الفهد الذهبي لمهرجان لوكارنو السينمائي الدولي بمنحه جائزة “صنّاع سينما الحاضر”، أو أنها كانت المبرر القويّ الوحيد لحصوله على جائزة “إكسترا فالو” في مهرجان فيينا؟

المؤكد أن ثمة ما هو أكثر من فرادة زاوية التناول السينمائي للحرب، فهناك عدد لا بأس به من المخرجين السوريين حاولوا تجاوز النقل التقليدي للحدث المدوّي ورصد تبعاته على مستويات مختلفة.

لكن ما يميز إنجاز فتاحي أكثر من غيره هو محاولتها الاشتغال على الجانب النفسي والروحي، والتقاط جزئيات الفراغ الهائل الذي يحيط بالنساء السوريات الهاربات من نار الحرب، أو المكويات مباشرة بها، وربما اللافت أكثر فيه هو استغلالها ثراء المكان/المنفى ثقافيا، والبحث في كنزه المعرفي عن المشترك القادر على نقل حالة العذاب البشري في كل مكان

 

نساء على حافة الجنون

لا يخلو الوثائقي نفسه من فوضى سردٍ منبعثة في الأساس من فوضى شخصياته المقتربة من حافة الجنون، والمشحونة بروح غاضبة، وعدم يقين من قدرتها على التآلف مع المكان الذي تعيش فيه، ولا على طرد أشباح ذكريات الحرب والرحيل.

حتى المخرجة نفسها أرادت مشاركتهن الوضع المضطرب والفراغ المدوخ، وذلك من خلال قبولها الظهور في مشاهد قصيرة وسريعة، فقد اختارت الظهور للتعبير عن مشاركتها لهن، لكنها لم ترغب قطعا في مزاحمتهن في التعبير عن الاضطراب الداخلي الذي يعانين منه، مكتفية بالملازمة الصبورة لهن.

رافقت سارة فتاحي طويلا الرسامة هبة في السويد، وعرفت منها تفاصيل حالتها النفسية التي يُشخصها الأطباء بـ”اضطراب وجداني ثنائي القطب بنوبات حادة”، ومردها الظروف القاسية التي عاشتها أثناء هروبها من سوريا، ومقتل أخيها الذي ترك موته فراغا كبيرا في حياتها.

وعلى نفس الخط الدرامي؛ سجلت مخرجته بتأنٍ يوميات الأم السورية التي ذُبح ابنها في الحرب الأهلية، ولم تُرد تصديق موته، فظلت تعتني بغرفته وتنظف ملابسه وترتب فراشه كما لو كان حيا.

وإلى جانب السوريات أشركت معهن الممثلة النمساوية ياشكا ليمرت، وتركتها تهيم وحيدة مثل مجنونة في أرجاء مدينتها، وتدخل إلى متاحفها وتستمع إلى قصائد وأحاديث شعرائها، وتزور المقابر وحدها مثل شبح يريد الاطمئنان على سكون مدينته.

مناخ الفيلم يسوده الصمت ويُغلفه الفراغ

 

صمت وفراغ.. وهروب من الذكريات

مناخ فيلم سارة فتاحي يسوده الصمت ويُغلفه الفراغ، لدرجة تبدو الأحاديث الموجزة والمقابلات القصيرة مع بطلاته وكأنها تخدش حُرمة الفراغ المُتسيّد، والمهيمن على أرواح شخصياته وأجسادهم المتعبة من التفكير، ومحاولة الهروب من الذكريات.

حالة هبة التي تعيد تجسيد ذكرياتها عبر رسمها لوحات (بطريقة الكولاج) خاماتها الألوان الزيتية والقماش والصمغ، حيث تقطع وتلصق مكوناتها كما تفعل مع ذكرياتها. ورغم حالتها النفسية ودخولها المستشفى لفترات طويلة ومتقطعة، فإن هبة كانت الأكثر قدرة بين النساء على البوح بدواخلها، وباستسلام يشبه استسلام المريض النفسي أمام طبيبه أثناء جلسات العلاج.

موت أخيها صدمها بقوة، وأغرقها في دوامة حزن تصفها بحالة غرق وهمي أقرب إلى الحقيقة، وأقرب إلى تجربة غرقها في بحيرة، والذي اشتغلت فتاحي على نقله إلى الشاشة بعناية لافتة. فلا تُشخّص الرسامة المريضة بدقة قاتل أخيها، لكنها تصف قَتلته بأنهم هم أنفسهم الذين اغتصبوا كل شيء في البلاد، وانتزعوا كل الأحلام الجميلة من رؤوس السوريين.

الأم السورية تكسر طول صمتها بإعلان رجل السلطة قاتلا لولدها (جلال) بيديه

 

الأم المذبوحة ورجل السلطة القاتل

الأم السورية تكسر طول صمتها بإعلان رجل السلطة قاتلا لولدها (جلال) بيديه البشعتين، والتي رفضت مصافحتهما يوم جاء كذبا لتقديم تعازيه إليها.

وصفُ الأم لليد الكريهة ولمشاعر الغضب التي اجتاحتها لحظتها لا يمكن تحديد شدته إلا عبر سماع جوابها على سؤال أكثر تعقيداً طرحته عليها فتاحي: هل تريدين قتله (الجاني)؟ كان جوابها بالإيجاب، مبررة فعلها المرتجى بأنها أم فقدت أعز ما تملك؛ ابنها فلذة كبدها، والذي غُدر به وطعن بسكين في صدره وبها نحرت رقبته، ولإخفاء جريمتهم رمى الجناة جثته في النهر، وربما في نفس المياه التي كادت الرسامة هبة أن تغرق فيها.

حالات نفسية شديدة التعقيد حرص “فوضى” على نقلها بكل تفاصيلها، وكانت كاميرا فتاحي يقظة طيلة الوقت؛ تلتقط كل التفاصيل الداخلية لحالات نسائها، وتسجل مقدار تفاعلها مع الخارج المعتم الكئيب. مناخات فيلمها تُسرِّب إلى متلقيها غضب وألم النساء السوريات اللواتي خسرن الماضي والحاضر.

صانعة “فوضى” تُعطي لنفسها حرية تجريب طرق تعبير بصرية غير مقيدة بقوانين تقنية صارمة

 

صانعة فوضى“.. جرأة في سدّ الثغرات

تُعطي صانعة “فوضى” لنفسها حرية تجريب طرق تعبير بصرية غير مقيدة بقوانين تقنية صارمة، فهي لأنها المصورة والمخرجة وكاتبة السيناريو؛ قادرة على معالجة الإشكالات المحتمل ظهورها أثناء التطبيق، وتسدّ ثغرة جانب ما بمعونة جانب آخر.

لهذا جاء نصها مشبعا بجماليات تصوير وتجريب يخاف كثير من صناع الأفلام الوثائقية العربية الإقدام عليه. كما أنها أضفت عناصر روائية تمثلت بإدخال الممثلة النمساوية ياشكا ليمرت إلى متن فيلمها دون خوف من تشتت محتمل، خاصة عند المتلقي السوري والعربي الذي ربما يحتاج إلى مراجعة إضافية للتقرب من المعاني الكامنة في تنقلاتها وزيارتها المكانية المتفرقة، فكل كلام لها أو وقفة أمام لوحة في متحف؛ تفتح مجالا واسعا للتأويل، ولقراءات أخرى يمكن بها تعزيز الجانب “السوري” من السرد.

وباستماع صانعة “فوضى” إلى مقابلة إذاعية مع الشاعرة النمساوية الكبيرة إنغبورغ باخمان وهي تتطرق فيها إلى معاني الكتابة الخارجة عن نطاق السرد الشعبي اليومي؛ نتمكن ضمناً من تفسير جرأة صانعته في اختيار لغتها التعبيرية الخاصة.

كما لا يمكن فصل قصيدة “منفى” المصاحبة للمشهد الختامي عن حيوات النساء المنفيات داخل أوطانهن وخارجها، ويمكن التعرف على مدلولات وقوفها أمام لوحة “ديفيد مع رأس جوليات” للرسام الإيطالي كارافاجيو والمشحونة بمظاهر العنف، وسهولة إسقاط مضامينها التاريخية على اللحظة الآنية، وتحديداً على الصراع المسلح الدموي الجاري في سوريا.

تنقلات الممثلة النمساوية أغنت روح النص المنفتح على كل ما من شأنه توسيع أفقه، وإعلاء معماره السردي.

الاغتراب الداخلي؛ عبارة يضيفها الوثائقي إلى قاموس المنفى السوري ويشتغل على تجسيدها

 

العزلة والاغتراب.. قاموس المنفى السوري

عن المنفى قيل الكثير؛ جسّدها سينمائيون في أفلام لا حصر لها، ورسمها تشكيليون من كل بقاع الأرض في لوحاتهم، لكن أكثر نصوصها وجعا هي تلك التي كتبها مُعايشوها.

هبة كتبتها رسماً وشفاهاً، ونقلتها بلغة عفوية غير مقيدة بخوف من زلاّت اللسان، ولم تُحمِّل المكان الجديد مسؤولية ما أصابها من مرض وعزلة، وأحالت معاناتها واغترابها إلى الحرب الأهلية الجارية في بلادها، وكانت سببا رئيسا لهربها من هناك.

لقد وجدت في المكان الجديد عونا لها للتشافي من تمزقات وعذابات روحها، فربما أعانها الرسم قليلاً على كسر عزلتها الداخلية، لكن الأهم هو بروز ظلال شفيفة من أمل منبعث من داخلها ينشد الخلاص، وذلك عبر الاعتراف أولاً بمرضها، وثانياً العمل على التخلص منه.

مشكلة هبة الأكبر هي الذاكرة المُلحة دون رحمة في استعادة الماضي، وإحضاره إلى غرفتها القريبة من غابة سويدية لا تسمع فيها إلا أصوات الريح والطيور التي طالما أحبتها وظلت ترسمها.

الاغتراب الداخلي؛ عبارة يضيفها الوثائقي إلى قاموس المنفى السوري ويشتغل على تجسيدها، فوالدة الشاب المذبوح لا تعيش في مكانها مثل بقية الناس، بل تتنازعها فيه فكرة مشاركة ولدها الغائب لنفس المكان، أو لِنَقل لنفس البلاد التي لم تعد تشعر بوجودها فيها.

عزلتها لا تختلف عن عزلة هبة الداخلية، ولا عن وحدة الممثلة النمساوية الهائمة في اللامكان، الفرق بينها وبين النساء السوريات المنفيات أنها مستقرة في موطنها، ولا تعيش قطعاً نفس ظروفهن، عزلتها سلمية مختلفة لكنها تشبه في بعض معانيها عزلة المنفيين في البلدان البعيدة الباردة.

إنجاز سارة فتاحي منفتح على عالم سينمائي واسع يقبل أشد القراءات تطرفاً لنصه، ويسمح دون خوف بالنظر إليه كتجريب سينمائي يستحق من مُشاهِده تأمل جمالياته، وبذل جهد أكبر لتفكيك رموزه.