في أستوديو مصر.. كثير من الفن قليل من اليأس

رحمة الحداد

الصورة والأصل وأستوديو مصر وكل تلك الإشارات ما هي إلا إحالة لصناعة السينما ذاتها

“تماثيل إسكندرية، تماثيل أستوديو مصر، صورة ولا أصل، التماثيل ما بتتحركش.. إذا عشت في مصر في أي حقبة قريبة أو بعيدة، تسعينيات أو ستينيات أو حتى في الألفية، فإنك لا بدّ وأنك استمعت لتلك العبارة مغناةً، أو حتى غنيتها بنفسك مع الأصدقاء في الشارع أو في بيت العائلة، تلك كلمات لعبة اعتاد الأطفال في مصر التغني بها، فعندما تُقال كلمة صورة يقفون مثل التماثيل، وعندما تقال كلمة أصل يسارعون في الركض.

الصورة والأصل وأستوديو مصر وكل تلك الإشارات ما هي إلا إحالة لصناعة السينما ذاتها، حيث يصعب تتبع أثر اللعبة أو كيف تم اختلاق كلماتها وماذا تعني، فعلى الرغم من كونها مجرد لعبة مسلية فإنها تبدو مثل فكرة الواقع وتصويره، سواء أكان ذلك بوعي ممن يلعبونها أم من دون وعي. لطالما كان اسم أستوديو مصر مجازا للسينما والترفيه والغناء، وخلفية للتغيرات الثقافية والسياسية التي تعاقبت على مصر، يزدهر وينهار ثم يزدهر مرة أخرى، لكن لا يغيب اسمه حتى وإن غابت وظيفته.

في فيلمها “في أستوديو مصر” المعروض ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، تسرد منى أسعد مخرجته وكاتبته قصة الأستوديو، ليس بشكل متسلسل، لكنها تسير إلى الأمام والخلف، مُحْدِثة قطاعات طولية وعرضية في تاريخه كي ترتب قطع الأحجية التي لا تنتهي، تنظم وترتب ذلك السرد بعناوين داخلية مثل “حدوتة تكنولوجية”، وتعرض فيها كيف تم تطوير أجهزة لدمج المونتاج القديم للفيلم الخام بالمونتاج الرقمي الحديث، إضافة إلى “حدوتة تاريخية” حيث تسرد بدايات الأستوديو وتأسيسه، أو “حدوتة تطوير” عن كيفية إعادة بناء الأستوديو بعدما أوشك على الانهيار والضياع، و”السينما والدولة” وهو موضوع متشابك وشائك وغير منتهٍ، ربما نلمس تجلياته في الفترة الأخيرة من سيطرة على الإعلام وصناعة التلفزيون والسينما.

لا يأخذ الفيلم أستوديو مصر كنقطة انطلاق لقصّ قصته، بل يبدأ بمن هم على قيد الحياة عاملين ونشطين، متحدين للصعوبات اللانهائية التي تواجه صناعة السينما في مصر مثل شركة الإكسير لصناعة السينما، وهي شركة أخذت من أستوديو مصر مقرا لها وخرّجت منها أهم الأفلام المصرية، وأوقفت الصناعة الهشة على قدميها لعدة سنوات.

فأول فيلم خرج من معاملها كان “المصير” ليوسف شاهين، ملحمته الأندلسية العصرية التي نافست في مهرجان كان، حرصوا حتى وقت قريب على إخراج نيغاتيف (الصورة المعكوسة) الأفلام بأفضل صورة، فكما قال أحد المسؤولين عن الشركة إن مصر كانت تملك العديد من الأفلام المهمة والعظيمة في الثمانينيات، لكن سفرها للمهرجانات وعرضها على قطاعات واسعة من العالم وتنافسها على الجوائز كان يتوقف عند رداءة الجودة وعدم مطابقة المعايير.

شركة الإكسير لصناعة السينما أول فيلم خرج من معاملها كان "المصير" ليوسف شاهين

صناعة السينما.. الحنين لأصل الأفلام

تتسم الأستوديوهات دائما والعاملون بالسينما بنوع محدد من النوستالجيا (الحنين للماضي)، نوستالجيا للفيلم الخام، حنين لأصل الصورة المتحركة، فمن الصعب على من عاش ينظم شرائط الأفلام الممتدة، ويقطعها ويعدلها ويحفظها في خزانات في درجات حرارة معينة، أن يتخلى عن كل ذلك ويستبدل به مجموعة من الحواسيب والأقراص الصلبة التي يتم تحميل المقاطع المصورة عليها.

السينما أكثر من أي فن آخر صناعة تتطور بسرعة مرعبة، الخفيف يحل محل الثقيل والرقمي يحل محل الكيميائي. وعلى الرغم من أن كل تلك التطورات ذات كلفة أقل فإن دولة مثل مصر -ليست غنية بشكل خاص- اعتمدت على التقنيات القديمة لسنوات وسنوات بعدما أصبحت ثانوية في بلدان أخرى.

في فترة تطوير أستوديو مصر وحسب فيلم منى أسعد، امتلك المكان معمل تحميض وإظهار للأفلام على مستوى عال جدا من الجودة، حينما كان ذلك نادرا في العالم، والمعامل لا تشتغل إلا لصالح المخرجين الكبار المتمسكين بالتصوير الفيلمي.

يرتبط “الفيلم” بصناعة الفيلم بشكل عام حتى لو لم يكن مفعّلا. إذا نظرت لأي ملصق إعلاني لمهرجان سينمائي ستجد شريط فيلم ملتف أو مجموعة لقطات مثقوبة من الجوانب وغيرها، فهو جزء من تاريخ السينما يجاهد دائما في البقاء وغالبا ما ينجح. في فيلم “في أستوديو مصر” يوجد جزء مخصص لتاريخ إنشاء الأستوديو كجزء من الحكاية، ونقطة مهمة لفهم مآلاتها وتطوراتها السلبية أو الإيجابية.

 

أستوديو مصر.. البدايات والنهايات

يسميها سعد الدين توفيق في كتابه “قصة السينما في مصر” أهم مرحلة من مراحل تطور الفيلم المصري، مرحلة أستوديو مصر من 1936 وإلى 1944.

كان الأستوديو بمثابة مدرسة جديدة في السينما المصرية، وأول أستوديو مصري برأس مال مصري مجهز تجهيزا كاملا. صُور أول فيلم داخل الأستوديو “وداد” من بطولة أم كلثوم، وهو ما أسس لسطوة الغناء والاستعراض على السينما المصرية، فوجدت في شهرة وجماهيرية مطربيها شكلا سينمائيا متميزا، يتأرجح بين الفيلم الغنائي الخالص والكوميديا الرومانسية، نسميه فيلم غنائي لكثرة الأغاني داخله، لكنه لا يملك حواراً مغنىً، ولهذا هو نوع ذو خصوصية مصرية، وكأنه صُنع خصيصا لأصواتها، أم كلثوم وعبد الوهاب ولاحقا عبد الحليم وغيرهم.

تنسج منى أسعد في فيلمها خيطا دقيقا بين الماضي والحاضر بشكل فني ومميز، تأخذ لقطة لمكان في الأستوديو بشكله الحالي وتدمجها بلقطة أرشيفية لأحد الأفلام التي تم تصويرها في نفس المكان، فتثير شيئا من الحنين والروابط الذكية الساخرة أحيانا بين ما كان وما صار إليه الوضع. لا تستخدم اللقطات الأرشيفية فقط لصنع روابط سينمائية مكانية، بل تضعها أيضا موازية لحركة العاملين الحاليين بالأستوديو، حيث يتحركون ويتسامرون في سعادة ودفء فتلحقهما بمشهد من فيلم يوم من عمري. لكن هذا الدفء وتلك الطمأنينة دائما ما كانت تصطدم بسطوة الدولة، فللدول ميراث قديم من السيطرة على صناعة السينما لأنهم يرون فيها أداة لترسيخ سلطتهم، أو خطرا داهما يجب أن يواجه.

 

الدولة.. اكتشاف سلاح السينما

في عام 1919 قرر لينين تأميم صناعة السينما بالاتحاد السوفياتي، فالدولة المعاد تأسيسها اكتشفت في السينما سلاحا لتنفيذ برامجها أو الترويج لها، وجدت تلك الحكومة ضالتها خصوصا في الأفلام الصامتة لانعدام حاجز اللغة وسهولة وصول الصور للناس بكل فئاتهم وخلفياتهم الثقافية، منتشين بفكرة إضاءة السينما لعقول العامة وتأثيرها السحري عليهم، وتحولت محطات القطار لدور عرض وتم تدريب آلاف العاملين بالسياسة على تقنيات صناعة الأفلام.

أنجبت السينما السوفياتية بعضا من أعظم السينمائيين وأكثرهم تطويرا وإلهاما حتى الآن، لكنها كانت ذات هدف واحد، البروباغاندا (الدعاية) السياسية الخالصة.(2)

يجلس أحد مؤسسي شركة الإكسير لصناعة السينما متحدثا عن التأميم وكيف أن جمال عبد الناصر أراد نسخ النموذج السوفياتي للتعامل مع السينما والتعامل مع غيرها من مرفقات، وفي تلك الفترة أُنتجت الأفلام، لكنها كانت ذات صبغة مسيّسة، أهملت المعامل والغرف، كانت تلك واحدة من أولى محطات الانحدار، لكنها لم تكن الأخيرة، فثنائية السينما والدولة لا تنتهي. نرى بالفيلم لقطات لمخازن إلى جانب الأستوديو؛ أستوديو مصر الشهير ذي الشعار الأحمر، مخازن لوزارة التربية والتعليم دون سياق أو سبب، يتم التعامل مع مؤسسة فنية صناعية مثل أرض خراب للفضلات الزائدة.

تتناوب على مصر حكومات وثورات، تغيرات صغيرة متتابعة أو تغيرات كبيرة متفجرة. يتأثر الأستوديو بكل هذا ولكنه يجد وسلة للبقاء ولو في الذاكرة، ولكن.. حتى الذاكرة يمكن إهمالها والتسبب بتلاشيها.

“ربما كان هذا الفيلم سيبدو مختلفا لو امتلكنا أرشيفا حقيقيا”.. قريبا من نهاية الفيلم تنطلق تلك الجملة من منى أسعد كتعليق خارجي على حالة الحفظ والتخزين في مصر، وتعليق داخلي على مصير الفيلم نفسه وكيف كان ليتغير لو امتلكنا مقاطع مصورة أكثر، أجود وأكثر وضوحا.

تم إنتاج أكثر من 4000 فيلم تقريبا في مصر، وعندما يتلفظ المرء بكلمة فيلم عربي فإنها تعني في الضمير الجمعي فيلما مصريا، فهي السينما الأكثر غزارة إنتاجيا، لكن لا تُحمِّل أي جهة نفسها مسؤولية الحفاظ على ذلك التراث، وهو ليس تراثا تاريخيا مصمتا، إنه جزء حي وحيوي من الذاكرة، شذرات من وعي الشعوب بذاتها ومن اللغة التي يستخدمونها والطريقة التي يقدمون بها أنفسهم إلى العالم.

الوثائقي “في أستوديو مصر” نفسه يعتبر محاولة للإمساك بتلابيب تلك الذاكرة، وصنع وثيقة عن الفن والحياة وسوق العمل وكسب العيش، والأكثر من كل هذا عن الشغف والأمل واليأس أحيانا.

المصادر:
1-قصة السينما في مصر، سعد الدين توفيق، 1969
2-State and Cinema in Revolutionary Soviet: A Centenary
Perspective
http://mcphfilmclub.org/state-and-cinema-in-revolutionary-soviet-a-centenary-perspective/