“في الممرات”.. بصمة في المشهد السينمائي الألماني

يُغرينا المخرج الألماني توماس ستوبر بمعطيات متعددة تجعلنا نتلهف لمشاهدة فيلمه الروائي الطويل “في الممرات”، لكن هذا اللُغز الخاطف سرعان ما ينحلّ حين نجد أنفسنا كمُشاهدين نتجول مع شخصيات الفيلم، ونستكشف تباعًا ممرات سوبر ماركت ضخم مجهول الهُوية، وكأنه يقع في متاهة مكانية تحفّز المتلقي أن يحاول التعرف -في الأقل- على أقرب مدينة إلى هذا الموقع الذي تدور فيه غالبية أحداث الفيلم.

والفيلم بأحداثه مستوحى من قصة تحمل العنوان ذاته للكاتب كليمنس ماير، وحوّلها المخرج ستوبر -بالاشتراك مع ماير- إلى سيناريو متقن يخدم تقنياته ورؤيته الإخراجية التي جعلت منه فيلمًا شاعريًا مليئًا بالتأمل والرومانسية، وذلك على الرغم من أن خلفية بطل القصة كريستيان كانت جنائية، لكن الأخطاء العابرة التي تُرتَكب هنا وهناك لا تمنع من الكشف عن إنسانية الكائن البشري، وتفرك الصدأ عن معدنه الأصيل. فقد كان سجينًا وهو دون سن الثامنة عشرة، وعندما أُخلي سبيله لم يجد صعوبة في الحصول على عمل مؤقت في قسم المشروبات الروحية في هذا السوبر ماركت الكبير كي يساعد برونو، ثم يتعرّف إلى ماريون من خلال حوار متناثر لكنه قوي ومعبّر، ويذهب في العلاقة العاطفية إلى أبعد مدياتها.

ينطوي هذا الفيلم الدرامي على أسئلة عاطفية واجتماعية ووجودية شائكة، لكن ستوبر طوّعها بخبرته الفنية والفكرية، وجعلنا نستشعر سؤال الحُب الذي يتقد مصباحه الوجداني من دون سابق إنذار، كما يحرّضنا الفيلم على تقصّي الجوانب الاجتماعية والنفسية للشخصيات الثلاث الرئيسية التي تشكل عُقدة القصة، وكأننا نشاهد فيلمًا نفسيًا بامتياز يفحص أذهان الناس، ويدرس مشاعرهم الإنسانية المتضاربة التي تفضي بهم إلى الحُب أو الانفصال أو الموت.

وعلى الرغم من حضور كريستيان على مَدار القصة السينمائية فإنه ليس البطل الأوحد في الفيلم، فقد شاء المُخرج أن يوزّع البطولة الجماعية على ثلاث شخصيات رئيسية، وهي كريستيان وماريون وبرونو الذين يشكّلون مثلّثًا متساوي الأضلاع لا يكتمل ما لم نتوقف عندهم جميعًا، لأنهم مثل الأواني المستطرقة التي ترفد بعضها بعضًا، وتغذّي الحدث الرئيسي الذي تجري وقائعه في ممرات السوبر ماركت وأروقته الضيّقة.

البوح.. تقنية استرجاع الأحداث

لا بدّ لمخرج من طراز توماس ستوبر أن يُعنى بالأداء المبهر لشخصياته الرئيسية وأولها شخصية كريستيان، والذي جسّد دوره بشكلٍ مُتقن الممثل “فرانز روغوفسكي”، وجعلنا نتابع سيرته الذاتية والحياتية رغم حداثة سنه.

وقد تعمّد المخرج أن يستعمل تقنية البوح لتذكّر الأحداث واسترجاعها، فمن الطبيعي أن تسأله ماريون (ساندرا هُولر) عن ماضيه وطبيعة عمله السابق قبل مجيئه إلى هذا السوبر ماركت، فيخبرها بأنه كان يعمل في موقع بناء، ولديه مِهدّة كبيرة يقوّض فيها الأبنية القديمة الآيلة للسقوط.

وذات يوم رأى حمامة تلوذ بعشها فرفض أن يقوّض السقف، لأنّ الحمامة ستموت عندها، واستعان بأحد العمّال البرتغاليين الثمانية الذين يعملون معه فتخلصوا منها، لكنه في المقابل خسر عمله بعد أن ضرب المدير، لأن هذا الأخير وصفه بـ”الخنزير الكسول”.

وبما أنه قريب إلى برونو أيضًا فقد روى له المداهمات التي كان يقوم بها لبعض السيارات، لكنها لم تُدوّن في سجله الشخصي، لأنه كان دون سن البلوغ؛ الأمر الذي ترك صحيفة أعماله بيضاء وخالية من التُهم والجنايات.

وبما أنّ كريستيان موظّف تحت التدريب فعليه أن يجتاز الاختبار كي يُصبح سائق رافعة شوكيّة، ومن حسن حظه أنه يعمل تحت إشراف برونو (بيتر كورت) الذي وجد فيه كريستيان أبًا مثلما وجد فيه برونو الابن الذي لم ينجبه أبدًا، فقد صبر عليه وعلّمه قيادة الرافعة الشوكية بطريقة احترافية كانت السبب وراء نجاحه في الامتحان، رغم أنّ تفكيره كان مشغولاً بماريون التي أحبّها بصدق وتعاطف معها كثيرًا بعد أن لمّح له برونو بأنها كانت تتعرّض للتعنيف من قِبل زوجها ماتياس الذي سمعنا به ولم نرَه على الشاشة.

لا نعرف كمُشاهدين شيئًا عن شخصية ماريون سوى أنها امرأة جميلة متزوجة من ماتياس الذي يعنّفها بين آونة وأخرى

ماريون وكريستيان.. تحية الأسكيمو

لا نعرف كمُشاهدين شيئًا عن شخصية ماريون سوى أنها امرأة جميلة متزوجة من ماتياس الذي يعنّفها بين آونة وأخرى، لكن هذا لا يعني أنها ستظل أسيرة لتلك العلاقة الزوجية المرتبكة، إذ انفتحت على كريستيان بعد أكثر من لقاء في ممرات السوبر ماركت أو عند ماكينة صنع القهوة المخصصة للموظفين.

ونظرًا لتعلّقه بماريون فإنه فاجأها في يوم عيد ميلادها وأوقد لها شمعة ثبّتها على “كيكة” صغيرة ليحتفلا معًا بعيدًا عن أعين الآخرين، وذلك في إشارة واضحة إلى خصوصية هذه العلاقة التي أخذت تنمو وتتطور يومًا بعد يوم، وقد بلغت ذروتها في ليلة عيد الميلاد، حيث اجتمع الموظفون في زاوية ما من السوبر ماركت واحتفلوا بقدوم السنة الجديدة. أما كريستيان فقد وضع يدها بين يديه، فيما اتكأت هي برأسها على كتفه، وذلك في إشارة صريحة إلى أن العلاقة قد بلغت حدًا لا يمكن التراجع عنه، لكنها كسرت توقعاتنا حين جاءت بعد الاحتفال وأشاحت بوجهها عن كريستيان، وعاملتْهُ بفظاظة غير معقولة حين سألها إن كانت تريد أن تتناول معه القهوة كما دأبت على ذلك في الأيام السابقة.

لا شكّ في أنّ التوترات المنزلية تنتقل معها إلى مكان عملها وتؤثر في علاقاتها الاجتماعية المحدودة أصلاً، لكن ذلك لم يمنع من عودة المياه إلى مجاريها، وتكرار اللقاءات الحميمة، وخاصة حين طلبت منه مرافقتها إلى قسم الأطعمة المجمّدة، حيث يعلّمها وسط الجو البارد تحية الأسكيمو بملامسة الأنوف التي تفضي إلى استنشاق الأنفاس في لحظات توحّد صوفية منحت الفيلم طابعًا رومانسيًا ساهم في انتشال المتلقين من المشكلات النفسية والاجتماعية التي يعاني منها معظم شخصيات الفيلم، وهي تدور في متاهة الممرات الطويلة.

برونو.. الوحدة حين تورد المهالك

ربما يكون برونو (بيتر كورت) أكثر الشخصيات غموضًا على الرغم من علاقاته الاجتماعية الواسعة، وقد لاحظنا الطريقة الحميمة التي استقبل فيها الموظف الجديد كريستيان وانفتاحه عليه، بل ذهب أبعدَ من ذلك حين دعاه إلى منزله القريب من مقرّ عمله، وأخذا يبوحان لبعضهما بعضًا، فعرفنا أنه متزوج وليس لديه أطفال، وقد طلب من ضيفه ألا يُحدث أي جَلَبة أو ضوضاء، لأن زوجته تنام مبكرًا كي تذهب في صباح اليوم التالي إلى العمل، وكالعادة لم نرَ هذه الزوجه على الشاشة، وذلك في إشارة إلى القطيعة العاطفية بينهما، بل إن برونو يحن إلى الأيام السابقة التي كان يعمل فيها سائقًا لإحدى الشاحنات ويشتاق إلى الطرق الخارجية المفتوحة، ولا يحبذ العمل في هذا المكان المغلق الذي يكتم الأنفاس.

بكلمات مختصرة إنه يعاني من أقصى درجات الوحدة التي لم يفتّتها سلوكه الاجتماعي الدمث، وعلاقاته الطيبة مع بعض الموظفين، ومع ذلك فقد أقدمَ على الانتحار، إذ شنق نفسه ووضع كل الأصدقاء في دائرة الحيرة والذهول، حتى دفع أحد أصدقائه إلى التساؤل قائلاً “أنا وحيد أيضًا، هل أذهب وأشنق نفسي؟”.

يحلّ كريستيان محلّ معلّمه وصديقه برونو لأن الحياة يجب أن تستمر، ولأن العمل لا يتوقف على غياب أو موت أحدهم مهما كان وجوده ضروريًا، لذلك يحضرون مراسيم الدفن ويقفلون عائدين لمزاولة حياتهم اليومية.

ماريون تطلب من كريستيان الذي أصبح سائق رافعة شوكية أن يستمع إلى الصوت الذي تُحدثه الرافعة وهو يُنزلها من عُلو

“في الممرات”.. نهاية مجازية

اختار المخرج توماس ستوبر أن يُنهي فيلمه الدرامي نهاية مجازية معبّرة، حيث طلبت ماريون من كريستيان الذي نجح في الاختبار وأصبح سائق رافعة شوكية؛ أن يستمع إلى الصوت الذي تُحدثه الرافعة وهو يُنزلها من عُلوّها الشاهق بهدوء وسكينة، حيث سمع أمواج البحر وهي تتكسّر على الشاطئ، لتأخذهما هناك بعيدًا عن دوّامة العمل ورتابته اليومية الخانقة.

ما يميز هذا الفيلم أشياء كثيرة أبرزها أن المخرج اختار مكانًا غير مألوف في الأفلام السينمائية؛ السوبر ماركت بممراته الطويلة المتداخلة، لكنه جعلنا نكتشف أشياء سحرية في هذا الموقع (اللوكيشن) الروتيني الذي نصادفه كثيرًا في حياتنا اليومية من دون أن نلتفت إليه.

استعمل المخرج تقنية التعليق الصوتي (الفويس أوفر) التي نلاحظها كثيرًا في الأفلام الوثائقية، وكأنه يوحي للمشاهدين بأن هذه القصة قد رُويت من قبل، وأنها لا تحدث الآن فقط وإنما حدثت من قبل أيضًا.

لا بدّ من الإشارة إلى أن توماس ستوبر قد تعالَق مع المُخرج الفنلندي آكي كاوريسماكي، واستعار منه الأسلوب التقليلي (Minimalistic Style) الذي عرفناه في الفن التشكيلي تحديدًا، وخلاصته تقليل الأشكال والألوان إلى الحدّ الأقصى على السطح التصويري، والإبقاء على ما هو ضروري جدًا في تأسيس العمل الفني الذي يكتفي بعناصره الأوليّة، من دون الحاجة إلى الزوائد والترهلات التي تُثقِل كاهله وتحيله إلى ثرثرة بصرية تُعيق فهم المتلقي، وتحدّ من قدرته على الاستمتاع باللوحة، والتنقّل بين فضاءاتها المُريحة للبصر.

وفي المقابل لا بدّ من التنويه إلى أهمية الصوت والموسيقى في هذا الفيلم، ولولاهما لما حصل المخرج على هذه النتيجة البارعة التي تقرّبه من الاكتمال، كما لا ننسى أهمية التصوير وجمالياته الفنية التي أضفاها المصور بيتر ماتياسكو الذي انهمك في غالبية أفلام ستوبر، وأبرزها فيلم “مراهق خائف” الذي صدر عام 2008، وفيلم “عن الكلاب والخيول” الذي أنجزه عام 2012، وسواه من الأفلام الأخرى ذات السويّة الفنية العالية التي نال عليها العديد من الجوائز.

ونظرًا لأهمية فيلم “في الممرات” من الناحيتين الشكلية والمضمونية، فقد أُسندت إليه جائزة النقاد في مهرجان برلين السينمائي لعام 2018، معترفة بهذا الصوت المتفرّد والبصمة الخاصة في المشهد السينمائي الألماني المعاصر. فالمخرج ستوبر يُدرك جيدًا أنه متناغم مع ثلاثة مخرجين آخرين يبذلون قُصارى جهدهم لضخ دماء جديدة في السينما الألمانية الحديثة، وهم أولريش كُولر ومارين آدي وفاليسكا غريزباخ، كما يعرف عن كثب أنه استوحى بعض تقنياته وآرائه الفنية من المخرج الفنلندي آكي كوريسماكي والمخرج النرويجي بينت هامر، وخاصة فيما يتعلّق ببطولة أفلامه التي يسندها إلى العمّال والموظفين من ذوي الياقات الزرق غير المنشأة.

 ولو توخينا الدقة لوجدنا أن هناك تشابهًا كبيرًا في الأسلوب الذي يراهن على الصورة البصرية ولا يعوّل كثيرًا على الحوار، وأكثر من ذلك فإن صفات البطل عند ستوبر وكوريسماكي تكاد تكون متطابقة في بعض الأحيان، فكلاهما صامت وحزين ومتأمل، وإذا تكلّم فإنّ عبارته وجيزة وجُمَلَه مُقتَضَبة، ولعل هذا الاقتصاد والتقشّف الكلامي هو الذي أتاح للصورة أن تتسيّد وتأخذ حقها الطبيعي في الخطاب السينمائي المعاصر؛ الذي يحاول جهد الإمكان أن يوازن بين المضمون العميق والشكل الفني المتفرّد، والذي يراهن على الصورة البصرية دون أن يغافل التقنيات الحديثة التي تجعل الفيلم سلسًا ومتدفقًا وهو يمرّ أمام أعين المُشاهدين، ويلامس شغافهم في الوقت ذاته.