“في انتظار البرابرة”.. خدعة المستعمر الخالدة للهيمنة على الشعوب

ينقل المخرج الكولومبي “سيرو غويرا” رواية الكاتب الجنوب أفريقي “ج. م. كوتزي” الشهيرة “في انتظار البرابرة” (Waiting for the Barbarians) إلى الشاشة، ويُكلف مؤلفها بكتابة سيناريو الفيلم الذي سيحمل نفس العنوان.

كانت المُحصلة نصا سينمائيا عميقا مشغولا بأدوات سينمائية كلاسيكية تُحيل التفكير إلى الموروث الإمبريالي وخلفياته السياسية التي اعتمدت على نظرية مطبقة منطوقها: لا بد من وجود عدو نُخيف به الناس ونبرر به هيمنتنا، وإذا لم يكن موجودا بالفعل فعلينا أن نخلقه بالأكاذيب.

هذا ما انتبه إليه الشاعر اليوناني “كونستانتين كفافي” قبل عقود حين كتب قصيدته الشهيرة “في انتظار البرابرة”، فبوجود فكرة العدو -وأفضل إذا كان “بربريا”- يمكن تحقيق الأهداف وتبرير الوحشية التي يمارسها المحتل ضد أبناء سكان الأرض التي جاء إليها دون إرادة أهلها، ذلك ما سيأتي في سياق السرد السينمائي الذي لم يحدد المكان الذي تجري فيه الأحداث ولا هوية البرابرة.

طمس هوية المستعمر.. حديث عن الجناية لا عن الجاني

من هم هؤلاء “البرابرة” وأين يُقيمون؟ يعمد كاتب السيناريو إلى تجهيل المكان وهوية البشر، فيترك للمتفرج حرية إسقاط ما في ذهنه من تجارب مماثلة على النص السينمائي المفتوح، وحتى أنه لا يحدد هوية الإمبراطورية المسيطرة بالقوة، وإن كانت لغة ممثليها في الأقاليم البعيدة توحي بعض الشيء بهويتها الإنجليزية، لكنها لا تحسم الأمر.

المهم بالنسبة إلى الكاتب هو ما نراه على الشاشة من فظاعات يرتكبها محتلون وأكاذيب يسوقها قادتهم لتبرير وجودهم المكروه فيها.

وصول الجنرال “جول”.. نهاية تراجيدية لحاكم المدينة

لا يميل فيلم “في انتظار البرابرة” إلى الفصل الحاد الجاهز بين الشر والخير، ويعمد بدلا من ذلك إلى الغور أعمق في الفكرة التي تبرر تدمير كل من يعيق مخططات الإمبراطورية التوسعية، حتى لو كان منهم ومن صلب أقوامهم.

مشهد يجمع الممثل “مارك رايلانس” الذي أدى دور القاضي مع الممثل “جوني ديب” الذي أدى دور الجنرال الذي يضع نظارة شمسية

واجه قاضي (حاكم) الولاية المجهولة -الواقعة على أطراف صحراوية شاسعة ويقطنها بدو رحل- مصيرا تراجيديا لأنه اختلف مع ما يريدون، ورفض تصديق أكاذيبهم وسخر من نعتهم لسكان الأطراف بالبرابرة وهي تسمية تعني الأقوام المتوحشين الغازين في ذهن مُطلقيها.

كان القاضي (الممثل “مارك رايلانس”) شاهدا على أحداث وانقلابات في المواقف تزامن حدوثها مع وصول ممثل الإمبراطورية الجديد الجنرال “جول” (الممثل “جوني ديب”) بسيارة جيب واضعا على عينيه نظارات شمسية لم يعرفها سكان القلعة من قبل، ولغرابتها سيشيرون بشيء من الخوف المصحوب بالاشمئزاز إلى شخصه مستقبلا.

تهمة التعاون مع العدو.. حرب الجنرال ضد أهل المدينة

لم يرضَ الجنرال “جول” بحالة السكينة التي كانت تعم بالقلعة، ولا بسلوك القاضي السلس وتعامله الودود مع سكانها والمحيطين بها. كان حاكمهم الغريب يعرف-رغم وجوده الملتبس بينهم- ما تختزنه ثقافتهم من معارف يريد فك رموزها وتعلم لغتهم ليقرأ نصوص مخطوطاتهم القديمة، فكان يُدوّن بها يومياته وانطباعاته وكأنها مفاتيح رموز سرية لا يعرفها إلا من عاشر وتفاعل مع ثقافة كُتابها.

لم يرق هذا للجنرال، فجاء بفكرة وجود مؤامرة ضد الإمبراطورية يخطط لها البرابرة الذين ينتظرون اللحظة المناسبة للهجوم على البلدة وسلبها وقتل كل من فيها، وبناء على ذلك قرر شن حملة استباقية ينهي بها تمردهم المزعوم.

الجنرال “جول” يأمر بشن حملات عسكرية لأَسر الأبرياء وقتل الكثير من الرجال في القلعة بعد أن شعر بخطر يتهدده بسببهم

أتى الجنرال بوثائق وتقارير سرية موثوقة تؤكد وجود الخطر المحيط بهم، وبتعاون سكان البلدة مع البرابرة في الخارج، ليشن حملات عسكرية أَسر فيها أبرياء وقتل الكثير من الرجال، وقد صُورت مشاهد ما يتعرض له الأسرى من انتهاك بكاميرا حساسة في التقاطها للأوجاع والآلام.

ظل القاضي يتألم لما يراه، لكنه لرفضه ممارسات الجنرال البشعة بدأ يفقد سلطته وتأثيره شيئا فشيئا، فأصبح هامشا بعد أن كان حاكما، وازدادت عزلته مع رسوخ مواقع الجنرالات الجدد، وغدا بعزله واحدا من أبناء المكان يصيبه ما يصيبهم.

“إنك باقترابك منها تجعلها أشد حزنا”.. حب في مهب الألم

يحيل نص “ج. م. كوتزي” مضمون علاقة القاضي العاطفية بأسيرة شابة (الممثلة “جانا بيارسايخان”) إلى كناية عن علاقات مُلتبسة بين الغريب وابن البلد المجروح في أعماقه، وقد أدى ضعف استجابتها له إلى جعله يطرح عليها خيارين؛ البقاء أو الرحيل إلى الديار.

لم يفهم تماما رفضها له رغم طيب معاملته لها، لكن جملة نطقت بها صاحبة نزل وطاهية مقصف جعلته يعيد التفكير بعلاقته بها. قالت له “إنك باقترابك منها تجعلها أشد حزنا”، وسيتكشف بعد حين أن والدها قُتل على يد أحد جنود الجنرال “جول”.

الممثلة “جانا بيارسايخان” الأسيرة الشابة التي ربطتها علاقة عاطفية مع القاضي، لكنها سرعان ما انفكت بسبب علاقة الغريب بابن بالبلد المُلتبسة

كيف يمكنها في تلك الحالة قبول الاقتران برجل قتل جيش إمبراطورته والدها؟ ذلك السؤال الإشكالي -الذي يتسرب بأشكال وأساليب مختلفة عبر النص السينمائي طيلة زمن سرده- يُحيل النص إلى سجال معرفي يظهر مرة خِفية ومرات أخرى بوضوح، فكاتب النص يعرف كيف يسربه بسلاسة بين ثنايا الحكاية المركزية من دون الإخلال بها.

سفر في الزمان والمكان.. حرية تشكيل المشاهد

يسير فيلم “في انتظار البرارة” بذكاء وحذق بين الأزمنة ويداخل بين الأحداث، فخلال رحلة القاضي في الصحراء لتوصيل الفتاة إلى ديارها ستشهد تحولات في المواقف وتأكيدا على ما يولده العنف عند الآخر من ردود فعل عنيفة أيضا، فقد أدرك أن انقلابا دمويا قد حدث ولا مفر من مواجهة قادمة.

لا يستعجل المخرج “سيرو غويرا” في وضع نهاية تقليدية لفيلمه، بل يتركه يمضي بتفاصيله الصغيرة، فهي التي تعطيه طابعه الخاص، وتميز أسلوبه الكلاسيكي المعتني بكل تفاصيل العمل السينمائي الفاعلة.

يترك المخرج لمصور الفيلم “ريس مينجيز” حرية كافية لتشكيل المشاهد بكاميرته، وبشكل خاص المشاهد الواسعة، فعلى مستوى الحدث -المخلص كثيرا للنص الروائي والمنتبه لمستلزمات الصنعة السينمائية- يعرف كيف ينتقل من الحدث العادي إلى الأعمق، ذلك ما يوضحه وصول دفعات جديدة من الضباط لا يقلون وحشية عن جنرالاتهم.

إذلال الحاكم أمام الناس.. كأس الجنرال التي شرب منها أخيرا

تؤسس آليات سيطرة الإمبراطوريات بعناية وتُغذى على الدوام بأوهام امتلاك الحقيقة، وبأفضالهم الكبيرة في تحضر أقوام متوحشين لم يعرفوا التطور إلا على أيديهم، وظهور الضابط “ماندل” (الممثل “روبرت باتنسون”) وقسوة معاملته للقاضي حين يطرده من منصبه ويدخله السجن ويعرضه لتعذيب بشع في أسواق القلعة أمام الأنظار؛ هو مؤشر على ذلك، وقد وجه له الضابط المتهجم تهمة التعامل مع العدو (البرابرة) والتفاوض معهم يوم رافق الأسيرة إلى ديارها.

الممثل “روبرت باتنسون” الذي أدى دور الضابط المُتعجرف “ماندل” الذي يُعرف بقسوة معاملته مع القاضي

يراكم سرد الفظاعات والانتهاكات الكراهية في نفوس المظلومين، وفي لحظة ما لا يتحملون المزيد منها فيعلنون رفضهم واحتجاجهم، لكن إعلان غضبهم المفاجئ للطغاة غالبا ما يصيبهم بالصدمة والعجز عن التدبير، فينهارون ويقررون أن يرحلوا وهم يجرون وراءهم أذيال الخيبة.

كُتب هذا المصير للجنرال “جول” خلال حملته العسكرية ضد “البرابرة” في عمق الصحراء، فقد أخطأ في الولوج إلى عمقها من دون دراية ومعرفة بأسرارها ولا معرفة جيدة بمواطن قوة ساكنيها.

في مشهد متكرر تاريخيا يعرضه الفيلم بأسلوبه السينمائي الخاص يظهر الجنرال الطاغية وهو ذليل مخذول يمر أمام نفس الجمهور الذي ذاق على يديه أشد العذاب، لقد تقرر طرده وعودة الحياة العادية للبلدة التي كانت تعيش بأمان قبل وصوله إليها وتخريب حياتها.

“وقالوا ليس ثمة برابرة”.. من هم البرابرة حقا؟

هناك سؤال ضمني يطرحه النص السينمائي -إلى جانب الاشتغال البصري المتزن والمحكم التفاصيل- من هم البرابرة حقا، هل هم أصحاب الأرض من بدو رحل وغيرهم، أم الطغاة القادمون إليهم بأسلحتهم الفتاكة وقناعاتهم الخاطئة؟

هذا سؤال تاريخي لازم بداية قيام وصيرورة إمبراطوريات توسعية كثيرة، وأعاد المخرج الكولومبي صياغته سينمائيا والكاتب “كوتزي” طرحه روائيا، وقبلهما كتبه الشاعر “كونستانتين كفافي” عبر قصيدة طويلة قال فيها -حسب مقطع ترجمه الشاعر سعدي يوسف-:

لِمَ تخلو الشوارع والساحات سريعا؟

والكل يعود إلى داره غارقا في الفكر؟

لأن الليل قد هبط ولم يأت البرابرة

ولأن أناسا قدموا من الحدود

وقالوا إنه ليس ثمة برابرة

والآن.. ماذا نفعل بدون برابرة؟

لقد كان هؤلاء نوعا من الحل.

وصل “البرابرة” في النص السينمائي، ولكن بهيئاتهم الحقيقية كبشر مسالمين دفعهم سلوك الغازي الوحشي للعنف والخروج عليه، ليضعوا حدا لاستهتاره وجبروته، فطرد أهل الأرض جنرالا غريبا موهوما رسم في مخيلته أعداء “برابرة” لا وجود لهم في الواقع.