في رثاء الوالد اللبناني وزمنه

محمد موسى  

تجول كاميرا المشاهد الافتتاحية لباكورة المخرجة اللبنانية رنا عيد التسجيلية الطويلة “بانوبتيك” في ليل مدينة بيروت، مركزة على هوامش المدينة، ومبرزة العادي غير المبهرج من إيقاع الحياة هناك. تبدو الكاميرا في المشاهد تلك وكأنها كانت تبحث عن مدخل لمقاربتها الناقدة وغير التقليدية وبحثها في المجهول والمسكوت عنه في واقع وماضي المدينة المتعدد الطبقات، في حين ستشَّكل شهادة المخرجة الطويلة عن حياة والدها الضابط اللبناني الذي رَحلَ عن هذا العالم قبل عقد من الزمان، رثاءً حزيناً مُرَّاً لجيل الاستقلال اللبناني الذي ينتمي إليه الأب، والذي كان يحمل الأحلام الكبيرة لبلده، بيد أنه عاش حياة طويلة يتجرع الانتكاسات والخسارات.

المخرجة اللبنانية رنا عيد

تبحث المخرجة عن سرديات المدينة المخفيّة وغير الشائعة، والتي ستروى ضمن أسلوب فني حميمي يُعاين الماضي عبر مرآة الآني المُعقد والمكدر ويربط الأحداث العامة المفصلية بمشهديات غير محسوسة ومهملة. ستكون أُولى محطات الفيلم سجنا للأجانب من غير اللبنانيين والذين يقضون عقوبات أو قرارات ترحيل إلى بلدانهم. يقع السجن تحت جسر دارت من حوله معارك شرسة في سنوات الحرب اللبنانية الأهلية. تتنقل الكاميرا – وكما فعلت في المشاهد الافتتاحية – بين وجوه المساجين وسجانيهم، باحثة في عتمة المكان وضيقه وفي السحنات الذكورية المأزومة لساكنيه عن أصداء الحرب والعنف الماضيين.  

لا يتوقف الفيلم ليسجل شهادات أو حوارات، بل يكتفي بشهادة المخرجة الطويلة التي ستتواصل عبر زمن الفيلم، والتي ستستعيد في قسمها الأكبر سيرة والدها الراحل، كما ستكون الشهادة ذاتها ما يشبه الدليل في الرحلة التي يأخذها الفيلم بين معالم ومناطق يحمل بعضها أهمية نفسية خاصة للمخرجة. تدخل كاميرا الفيلم إلى هيكل بناية لم تكتمل بسبب الحرب الأهلية التي داهمت البلد، ومازالت على حالها بسبب مالك مجهول ربما مات في الحرب ذاتها. تحولت البناية تلك إلى واحد من الرموز العديدة لحياة متوقفة وسَّلم لم يبدأ بعد. تصور الكاميرا بلقطات سوداوية بتركيبتها قلب البناية التي تحولت إلى مكب للنفايات، فيما تماهي حركات الكاميرا العمودية السقوط الجماعي الذي مثلته الحرب.

مشهد للبناية من الفيلم

ينتقل الفيلم عدة انتقالات مفاجئة لجهة البيئات الاجتماعية التي يختارها، فيقدم مثلاً سلسلة من المشاهد لركام حديدي يقبع تحت مياه البحر القريب من لبنان. تركب المخرجة مشاهد أرشيفية من الحرب اللبنانية على الحطام الحديدي الذي ضاعت ملامحه، في استعادة صورية وحيدة للفيلم لتلك الحرب. يخفف الدمج التقني من قسوة مشاهد الحرب، محولة الشخصيات والمقاتلين الذين ظهروا في تلك المشاهد الأرشيفية إلى أطياف وأشباح. في سلسلة مشاهد أخرى، تسجل المخرجة احتفالاً لبنانياً شعبياً صغيراً بالجيش اللبناني، جيش الأب الراحل. هناك أيضاً مشاهد لناد ليلي في بيروت تظهر تطرف وتناقضات الحياة العامة في البلد، ومسبحاً عاماً قريباً من البحر يرتبط بذكريات خاصة للمخرجة مع والدها. 

يحجز العمال الأجانب في لبنان حصة في فيلم “بانوبتيك”، فيصور الأخير كنيسة يقصدها بعضهم في أيام الأحد، ويرافق عاملات أجنبيات في أجازتهن الأسبوعية. تختلف طبيعة هذه المشاهد عن مشاهد الفيلم الآخرى لجهة تعاطفها الظاهر وحساسيتها لإنسانية الشخصيات التي تعبر أمام الكاميرا. يُكمّل حضور هؤلاء العمال صورة البلد الجديدة، حيث تحولوا إلى معيار جديد وملح لقياس أخلاقيات المجتمع المضيف وسويته. تنفض المخرجة الصور النمطية الشائعة عن هؤلاء العمال، وتظهر في مشاهد متمكنة كثيراً، العالم الموازي الذي يعيشون فيه، وحصتهم الهشة في المدينة التي يعرقون فيها كل يوم.

صورة من الفيلم لبيروت فجرا

تسرد عيد بلغتها اللبنانية العامية قصة الوالد الراحل، والتي أصبح العودة إليها ممكنة بعد انقضاء عدة سنوات على وفاته. لن تعرض المخرجة أي صورة فوتغرافية للأب، لكن نصها الطويل المعبر عنه يُعين على تشكيل صورة ما له. رفض الأب الهجرة إلى الولايات المتحدة في خمسينيات القرن الماضي التي قصدها أصدقاء وأقرباء له، مفضلاً البقاء في لبنان الذي حصل على استقلاله للتو. ما يحدث بعد الاستقلال هو طريق حياة طويل مضن، بمحطات كابوسية غير متوقعة، كاحتلال الجيش الإسرائيلي لمدينة بيروت في عام 1982، ووصول المعارك حينذاك لبيت العائلة والذكريات وتدميره، ولينسحب الوالد بعدها في عزلة المرض والهموم والتي انتهت بوفاته.

تربط المخرجة بين سيرة والدها الراحل التي عصفت بها الأحداث العامة العنيفة والواقع اللبناني الحالي، من حيث إن الأخير لازال يشكل أحد امتدادات الماضي العنيف وبالخصوص الحرب الأهلية. تختار المخرجة المقاربة الذاتية وتقليب المواجع الشخصية في عملها التسجيلي المتمكن، وتتوقف في محطات غير متوقعة في فيلمها، كما أنها تتجنب العقد الأساسية المعروفة في الحياة الاجتماعية والسياسية لبلدها، وتركز على الهوامش والحسيّ والرموز، وتنبه أن عنف الماضي الذي جرى دفنه دون مُحاسبة يظهر اليوم بصور مختلفة، حيناً عبر سلوكيات مشينة، وأحياناً أخرى عبر صدف ومفارقات تُذكر بالحرب الطويلة التي كسرت روح البلد. 

هذا هو العمل التسجيلي الأول لرنا عيد التي تعمل منذ سنوات في مجال هندسة الصوت، وتملك استديو في العاصمة اللبنانية بيروت. عُرض الفيلم لأول مرة في الدورة الأخيرة لمهرجان لوكارنو السينمائي، كما جرى اختياره أخيراً ضمن برنامج الأفلام التسجيلية في الدورة القادمة لمهرجان دبي السينمائي. ينضم الفيلم إلى عدد متزايد من الأفلام التسجيلية من السنوات الأخيرة والتي تقف وراءها مخرجات عربيات، واللواتي يعبرن بحساسيات نسوية ومعالجات أصيلة عن القضايا والهموم التي تشغل بلدانهن.