“في عينيَّ”.. سينما إنسانية تعالج التوحّد

صالح محمد سويسي

المخرج نجيب بلقاضي صاحب الفكرة تحدث عن بعض الصعوبات التي تعرض لها العمل قبل أن يستقيم كفيلم سينمائي بدأ يجني الإعجاب والجوائز

خرج علينا عام 2006 مخرج تونسي بشريط سينمائي يحمل عنوانا غريبا وهو “كحلوشة VHS“، وقد لقي اهتماما واسعا وقتها.

“كحلوشة” هو مواطن تونسي اسمه المنصف كحلوشة، يعيش في أحد الأحياء العشوائية ويعمل في دهن المنازل، لكنه مهووس بالسينما على طريقته الخاصة، وكان يصنع أفلاما بإمكانياته الشخصية، فهو المؤلف والممثل والمخرج والمصوّر أيضا، كما كان “كحلوشة” ينجز أفلاما على أشرطة الفيديو التقليدية وبطريقة بسيطة جدا تصل حدّ السذاجة، ثم يقوم بعرضها على أبناء حيّه في احتفالية كبرى كإنجاز غير مسبوق.

التقط المخرج نجيب بلقاضي تلك الشخصية الطريفة ليدخل من خلالها إلى أحد أكبر الأحياء الشعبية في الساحل التونسي، ويصوّر معه شريطا على شاكلة أفلام “طَرَزَان”، ومن خلال ذلك يسلّط الضوء على واقع آخر قد لا يعرفه كثير من التونسيين؛ واقع الأحياء العشوائية والفئات الشعبية المهمّشة التي لا تنتبه لها الحكومة عادة، نظرا لبعدها عن مراكز المدن.

“كحلوشة” مجرّد نموذج لفئة من المهمّشين الذين يعيشون بيننا ومعنا لكنّنا لا نعرف عنهم وعن حياتهم الكثير، حتى يأتي مخرج سينمائي لينفض الغبار عن الصورة، لنرى الملامح كما هي دون مكياج أو رتوش. وفي فيلمه الجديد يواصل بلقاضي النبش والحفر عميقا في الفئات المهمشة أو المقصيّة أو المنسية.

 

أب عدواني مع الجميع.. إلا زوجته الفرنسية

ليس من السهل أن تنشأ علاقة واضحة بين أب وابنه من مجرد لقاء واحد، خاصة إذا كان أوّلَ لقاء بينهما بسبب افتراق نهائي ومغادرة الأب نحو دولة أخرى، وحينها يغدو الحديث عن علاقة مرتبكة غير واضحة المعالم والأهداف.

أب أربعينيّ يعود من فرنسا إلى تونس بعد مكالمة من شقيقه يخبره فيها أن زوجته السابقة في العناية المركزة، وأنّها تنتظر الموت في أية لحظة، وابنه مع خالته التي تعيش مع صديقها الأجنبي، ويزيد في سرعة استجابة الأب لطلب العودة إلحاح والدته التي ترى أنّ الابن يجب أن يكون مع أبيه لا مع “غرباء”، وهو ما يجعل الأب يترك زوجته الفرنسية الحامل وأعماله ويعود مسرعا إلى تونس.

وقبل ذلك يكشف لنا المخرج الوجه القاسي لهذا الأب الذي يتعامل مع الجميع بعدوانية مبالغ فيها، وباندفاع غير مُبرّر أحيانا في استعمال القوة مع الجميع إلاّ مع زوجته الفرنسية، ولعلّه أراد أن يعطي المشاهد إشارة ولو بسيطة لما سوف يكون عليه الوضع في بقية ردهات الفيلم.

المخرج يكشف لنا الوجه القاسي للأب الذي يتعامل مع الجميع بعدوانية مبالغ فيها، وباندفاع غير مُبرّر أحيانا في استعمال القوة مع الجميع إلاّ مع زوجته الفرنسية

لماذا لا تنظر في عينيّ؟

يعود الأب إلى تونس ويعتمد على شقيقه وأحد أقاربه الذي يعمل في الشرطة لأخذ “يوسف” بالقوة من منزل خالته “خديجة” وصديقها، يعود به لمنزل والدته لتنطلق رحلة المعاناة المتبادلة بين أب لم يُدرك طبيعة مرض ابنه، وابنٍ لم يقبل بوجود أب في حياته لم يعرفه سابقا.

وفي مرحلة قادمة، وبعد عجز شقيقه ووالدته عن التعامل مع الطفل، يقرر الأب “لطفي” فتح منزل زوجته السابقة والعيش فيه مع “يوسف”، وذلك في محاولات متكررة للاقتراب منه والبحث عن سبل لعلاجه، وهو غير واعٍ إلى أنه إزاء حالة خاصة جدا. يتّصل بمراكز تهتم بالأطفال المتوحدين ويسعى لإيواء ابنه، لكنه يفاجأ بعدم إمكانية تركه كامل الوقت هناك، وأن عمل تلك المراكز نهاريّ فقط ودون إقامة.

في الأثناء تزيد ضغوط زوجته الفرنسية ليعود، بينما لا تحسّن في علاقته مع ابنه الذي يرفض حتى النظر في عينيه. وتزيد الأزمات النفسية التي يمرّ بها “يوسف” الطفل ذي التسع سنين، ويحاول الأب جاهدا فعل أي شي يجعله يرى ابنه طفلا طبيعيا دون جدوى، وفي الأثناء بدأ يوثق علاقتهما بالصور ومقاطع الفيديو.

يتحدث المخرج نجيب بلقاضي صاحب الفكرة عن بعض الصعوبات التي تعرض لها العمل قبل أن يستقيم كفيلم سينمائي بدأ يجني الإعجاب والجوائز، مؤكدا أنه قضى ما يقرب العامين بحثا وتنقيبا عن مرض التوحّد، زار خلالها مراكز علاج ورعاية، والتقى مُربّين ومختصّين وآباء وأمهات، وصَور أطفالا متوحّدين ليقف فيما بعد أمام مشكلة أخرى اعتبرها هامة جدا وهي تجارب الأداء (الكاستينغ)، إذ كيف سيجد طفلا سَويًّا يجسّد دور طفل متوحّد ويقنع المشاهد؟

الممثل الصغير استطاع من خلال تدريب أسبوع واحد أن يجسّد دور طفل متوحد بكل تفاصيله وانفعالاته

إدريس.. الصغير حين يقدّم درسا في التمثيل

طفل في التاسعة من عمره لم يمثّل من قبل، ولم يقف أمام كاميرا أيضا، لكنه في المقابل يُقدّم درسا في التمثيل لكثير من الممثّلين المتمرّسين. لقد كان إدريس هدية لفريق العمل، وكان إحدى نقاط قوة الفيلم من خلال أدائه الرائع والتمكُّن غير العادي، وذلك بالشخصية التي جسّدها في كل حركاته وتصرّفاته، خاصة على مستوى نظراته “الهاربة” من عينيْ والده الذي ثابر واجتهد ليجعله ينظر في عينيه مباشرة كأيّ طفل يرمق وجه أبيه، مُقْدِما على فعل كثير من المواقف لتحقيق حلمه.

الممثل الصغير استطاع من خلال تدريب أسبوع واحد أن يجسّد دور طفل متوحد بكل تفاصيله وانفعالاته ومناوراته لواقع يرفض الاختلاف، واستطاع إقناع المشاهد أيضا بأنه يعيش حالة التوحّد ولا يمثّلها، وبلغ الأمر ذروته في بعض المشاهد التي تبرز تلك التصرفات وردود الفعل غير المنتظرة أو غير المبرّرة أحيانا، والعنيفة أحيانا أخرى. ولم يُخفِ مخرج الفيلم أنّ الأمر لم يكن بسيطا، بل تطلّب وقتا وصبرا كي يقدّم إدريس شخصية “يوسف” بكل تلك العفوية الممزوجة بحرفيّة عالية رغم صغر سنّه وقلّة تجربته، لكنه أكد أنّه تفاجأ بالتقبّل السريع لدى إدريس.

في المقابل كان للممثل نضال السعدي نصيب هام من نجاح الفيلم بأداء متمكّن راوح فيه بين العنف والطيبة وبين القوة والضعف، شخصية مُركّبة تَمكّن السعدي من ترويضها وتطويعها لتكون عنصرا فاعلا في تفاصيل الحكاية، خاصة على مستوى تواتر الحركة أمام الكاميرا، وملامح الوجه مع قليل من الكلام أو انعدامه في بعض المواقف، حيث كانت تعابير الوجه كافية لصناعة المشهد، وخاصة في المشاهد التي جمعته مع يوسف في لحظات فارقة، سواء في علاقته المباشرة به أو في علاقة يوسف مع المحيط الذي يعيش فيه. كما كان الأداء المميّز لدى بقية الممثلين أيضا مثل سوسن معالج وعزيز الجبالي.

طفل في التاسعة من عمره لم يمثّل من قبل، ولم يقف أمام كاميرا أيضا، لكنه في المقابل يُقدّم درسا في التمثيل

في عينيَّ.. سينما إنسانية بامتياز

فيما يتعلّق بفكرة الفيلم فإن المخرج نجح في تناول موضوع حسّاس ودقيق جدّا، وهو التوحّد لدى الأطفال وكيفية التعامل معه، موضوع مقلق ومحرج لم يَخُض فيه مخرج تونسي أو عربي سابقا -على حدّ علمنا- وهذا في حدّ ذاته يُحسب لنجيب بلقاضي.

في اعتقادنا جاء التناول من الجانب الإنساني التربوي البحت، ولم يبحث في مسألة العلاج أو وضعية مراكز الرعاية التي يطول الحديث فيها وعنها، بل سعى المخرج للتوغّل في الإنساني والنبش في أعماق الشخصيات، وذلك لاقتناص لحظات فارقة من خلال علاقة أب بابنه، وما جاورها من علاقات مترابطة بالعائلات والمحيط، فضلا عن التركيز على المشاعر التي ستُفرزها تلك العلاقة المرتبكة وغير الطبيعية، بعيدا عن العلاقات العادية التي تعوّدها الناس فيما بينهم.

علاقة جعلت تواتر الأحداث يبدو رتيبا -دون ملل- في بعض مراحل الفيلم، نظرا لإصرار المخرج على بيان تلك الأحاسيس التي لا يمكن قولها، بل تبرز من خلال نظرةٍ أو حركة أو حتى لحظة شرود وانزواء.

ليس أصعب من إعادة تشكيل علاقة غير موجودة أصلا، هنا تبدو المسألة أقرب للخيال، لكن شريط “في عينيَّ” قدّم رؤية أخرى لما يمكن اعتباره سينما إنسانيّة بامتياز، ذلك أنّ بعض المواقف تفرض على المتلقي إعادة تشخيص نظرته لذلك الطفل الذي تُقدمه الفكرة الشعبية الفلكلورية على أنه قد يكون مُصابا بمسٍّ من الجنّ، لتحيله على أول خطوة في سياق تحديد نوعية العلاقة التي يجب أن تكون.

الفيلم ينتهي بمشهد يجمع لطفي (الأب) ويوسف (ابنه) على متن الباخرة في رحلة نحو مرسيليا الفرنسية

الحب المتبادل.. علاج التوحد

ينتهي الفيلم بمشهد يجمع لطفي (الأب) ويوسف (ابنه) على متن الباخرة في رحلة نحو مرسيليا الفرنسية، وذلك بعد أن قرّر الأب أن مكان ابنه الطبيعي معه، وأن علاجه ليس بالأدوية أو مراكز رعاية المتوحّدين، بل بكثير من الحب المتبادل.

وفي تقاطع مع مشهد آخر يُظهر الخالة خديجة وهي تتصفّح عددا من مقاطع الفيديو التي تركها لطفي، وبينها مقطع صوّره يوسف لأبيه وهو نائم، مستعملا ذات الكاميرا وذات الأسلوب لتبتسم خديجة، ويترك المخرج مساحات التأويل مفتوحة أمام المتلقّي.

يُذكر أن نجيب بلقاضي أشار سابقا أن ما حفزه لإنجاز هذا الفيلم كان مجموعة من الصور التي نشرها المصور الأمريكي “تيومني أرشيبالد” على شبكة الإنترنت، وتُبرز علاقته بابنه الذي يعاني التوحّد، وهي صور جعلت المخرج يُقْدم على إنجاز فيلم يمكن اعتباره نقلة في مشوار السينما التونسية، وذلك من حيث تناول الموضوع والأداء والإخراج.