في مديح الخيال

المخرج الابن والممثل الأب
 
قيس قاسم
 
لم يحظَ مسلسل خيال علمي بشهرة عالمية واسعة كما حظي بها “ستار تريك”، بخاصة في فترة الستينات والسبعينات وحتى الثمانينات وما بعدها من القرن الماضي، هذا الحكم تم التصديق عليه عبر سنوات عرضه وخلالها قوبل كما تشير الإحصائيات والدراسات بترحيب جماهيري لافت، حتى في منطقتنا العربية، لدرجة أن صارت شخصياته مألوفة للناس في كل مكان لكثرة ما تابعوها على الشاشة الصغيرة وفيما بعد على الكبيرة حين تم نقلها إلى السينما بأكثر من نسخة.
 
“سبوك”؛ مُسَيّر السفينة الفضائية كانت أكثر شخصياته قرباً إلى قلوب الناس وإثارة لفضولهم لغرابة مظهرها ولازدواجية تكوينها بين كوكبي الأرض و”فولكان” وإلى جانبه كان حاضراً على الدوام قائد السفينة “كيرك” الكائن الأرضي المتمتع بكل مواصفات “البطل” المطلوبة؛ وسامة وشجاعة وغيرها من صفات لم تكن عند “سبوك” لكن الأخير كان يمتاز بالذكاء والحكمة والسيطرة على مشاعره لهذا اعتبره الناس الشخصية الرئيسية خارج العرف المتبَّع في ترتيب الأوليات الدرامية وفي هذا استثناء رفعه إلى مصاف الشخصيات المثيرة للإهتمام لخصوصيتها لا لوسامتها، وعلى المستوى الشخصي رفعت مستوى مؤدِّيها الممثل “ليونارد نيموي” إلى مصاف كبار الممثلين على الأقل من الناحية الشعبية إلى درجة نسي فيها الناس اسمه الحقيقي لكثرة ما كانوا ينادونه بـ”سبوك” حتى آخر يوم في حياته حين غادر عالمنا عام 2015 مخلفاً أثراً درامياً وسينمائياً فكر ولده البكر المخرج “آدم نيموي” بتوثيقه بعمل قريب من السيرة الذاتية وفيه مثل “سبوك” اختلاف!
 
اختلافه الخلّاق يكمن في تحليل شخصيات المسلسل الخيالي وربط علاقاتها وأفكارها بمفاهيم شديدة الصلة بالإنسان “الواقعي” مثل؛ العنصرية، الفقر، الحروب، التسامح وغيرها، ما أوحى بقراءة بصرية طموحة تتجاوز السيرة التقليدية وحتى هذه أدخل عليها عنصراً مشوقاً آخر تمثل في وضع نفسه موضع (السائل) لشخصيات رافقت مسيرة والده و(المجيب) على الجزء الخاص المتعلق بعلاقة والده به وببقية أفراد أسرته. بجمعه المختلف على مستوى الأسلوب والمتماسك من عناصر السرد البصري تمكن من تحقيق منجز وثائقي باهر استوفى شروط “السيرة” وتجاوزها إلى مستوى القراءة التحليلية لمنجز شارك والده فيه بقوة، ولهذا يمكن القول إن For the Love of Spock هو أكثر من سيرة ممثل وبطل مسلسل تلفزيوني وأفلام سينمائية وأقرب إلى سيرة “مرحلة” لعب فيها المسلسل التلفزيوني عموماً دوراً في تكوين الذائقة الجمالية وربما جزءاً من الوعي الجمعي الأمريكي، الذي ترك بعض بصماته على بقية العالم وفي الأحوال كافة جاء كتحية للذكرى اليوبيلية الخمسين لميلاد المسلسل.
 
قوة الممثل “ليونارد نيموي” تكمن في عفويته وبساطته فهو لم يأتِ إلى التلفزيون من معاهد دراسية مختصة، بل قَدِم إليه من الحياة وبدوافع ولعه بالفن. في أكثر من مقابلة مسجلّة أعلن فيها؛ أن ميزته الشخصية الأهم هي حفاظه على نفسه كما هو، وكان هذا سر نجاحه في مسلسل “ستار تريك” وقد انتبه إليها مبدعه “جين رودنبيري”.
 
 
 يُقلب  الأمريكي “في حب سبوك” عند مفتتحه صوراً فوتوغرافية تلخص مسيرته الطويلة ثم يبدأ العمل بعدها على كاميرته الخاصة ليكمل رسم “بورتريه” عن رجل عصامي شغوف قرر الإبحار في عالم لم يلقِِ ترحيباً من والديه للمضي فيه فقرر السير فيه وحيداً. امتهن حِرفاً كثيرة. باع المكانس الكهربائية والثلاجات المنزلية وهو في سن المراهقة ومن ربحها القليل اشترى بطاقة قطار نقله إلى ولاية كاليفورنيا وهو في سن السابعة عشر من العمر ومن هناك انتقل إلى ولايات صناعة السينما والتلفزيون. كثيراً من تلك الحكايات وغيرها عن والده وجدها المخرج الابن في كتاب “أنا سبوك” واعتمد عليها في بناء أساسات هيكله السردي، وبإضافة كلام من التقى بهم أكمل عنصراً ضرورياً لكتابة السيرة.
 
جرب والده في بداية مشواره المسرح وأبدع فيه وفي السينما حصل على أدوار ثانوية كشف خلالها عن موهبة كامنة اتضحّت بعض ملامحها في فيلم Kid Monk Baroni عام 1952 وقتها كان عمره بالكاد قد تجاوز العشرين ثم بعد سنوات حصل على دور أهم في فيلمي Gunsmoke و”الملازم” لكن الفرصة الحقيقة جاءت إليه لحظة اتصال المخرج “جين رودنبيري” به وعرضه عليه فكرة المشاركة في مسلسل خيال علمي. يعترف “نيموي” بعدم حصوله على أدوار مهمة قبل “ستار تريك” فكل دور لعبه لم يتجاوز فترة الاشتغال عليه داخل الأستوديو أكثر من أسبوعين. في تجربته التلفزيونية الأولى ما يلفت الانتباه بخاصة شخصيته الغريبة مظهراً وتكويناً وبشكل خاص أذنيه الكبيرتين المدببتين وحاجبيه المرتفعين! والأكثر من ذلك غرابة كانت فكرة تجربة العرض “البروفة” أو التجريبي للمسلسل والذي لم يعتدّ عليها الناس بداية السيتينات. الكيفية التي تم تنفيذ المكياج وتركيب الأذنين بها كانت من بين أظرف ما مرّ في الفيلم وفيها إشارات على تطور فن الـ”ميك آب” وكيف نجح أحد مشاهيره من صنع أذن مطاطية يمكن تثبيتها قبل تصوير كل حلقة من المسلسل، الجانب الآخر هو “العرض البروفة” ومخاطره، التي تكمن في احتمال عدم قبول النقاد له وبالتالي قد يعرض المشروع كله للفشل ويواجه صداً من الجمهور وهذا تقريباً ما حدث بالفعل.
 
لقد طالبت صحيفة “فارايتي” المختصة بطرد كل فريق عمل  The Cage  وقد استجاب مخرجه لها إلا “سبوك” فقد أصرّ على الأحتفاظ به وقام بإسناد دور البطولة (كابتن كيرك) للممثل “ويليام شاتنر”. سيشكل الإثنان مع “ديفورست كيللي” ثلاثياً رائعاً سيمضي بسفينة “ستار تريك” إلى مجاهيل الفضاء الخارجي ويقابل ربابنتها خلال رحلاتهم على متنها أصناف الكائنات الغريبة الأخرى وينجحوا في الكثير من المرات في حسم الصراعات لصالحهم وإحلال السلم والعدالة أينما حلوا. لقد خدم ظهور التلفزيون الملَّون المسلسل وساعد على نجاحه، وسيستمر “نيموي” بالعمل لسنوات ودون انقطاع مجسداً بقوة شخصية “المختلف”، المختلط العرق، حسب وصف نفس الصحيفة المنتقدة فدوره مثل نقلة على المستوى الفكري وطرح فكرة الاختلاف بأسلوب مشوق من خلالها أتاح فرصة مناقشة إمكانية قبولها. شخصيته المتعددة الوجوه كانت تجتمع فيها الحكمة والقوة وفيها من العاطفة غير المنفلتة، المسيطر عليها بوعي الكثير وستُكوّن مع  شخصية الكابتن “كيرك” “السوية” ثنائية قبَلها الناس وتعاطفوا مع القادم من كوكب “فولكان” رغم اختلافه عنهم!
 
 
أفضت طبيعة الشخصية إلى التفكير بضرورة احترام بقية الثقافات حتى تلك التي تتعامل مع الجماد بوصفه روحاً حية كما كان يفعل “سبوك” وهو يخاطب بأحاسيسه لا بلغته، الحجر وحتى “الروبوتات” الفضائية الصماء. شهادة مخرج الجزء الثاني من المسلسل “نيكولاس مير” فيها إحاطة وإشارة ضمنية لفكرة الاختلاف والتنوع العرقي “يمثل “سبوك” الرجل القادر على كبح مشاعره ويحمل التعدد في داخله والتعامل مع الآخر بأحاسيسه لا بلغته وهي صفات قد تعبر عن مضمون شعار “نيموي” نفسه في الحياة؛ “عش طويلاً وهانئاً” وفي تحليل آخر تقدمه إحدى المشاركات معه في المسلسل “لقد كان محبوباً بعمق ثقافته ومعرفته وأن اختلافه كان مساهمة مهمة في إنجاح مسيرة سفينة الفضاء”. 
 
مثل كل المنغمرين بالعمل الفني سيطر عالم التلفزيون والسينما على عالمه الحقيقي. شهادات أخوته وأولاده تؤكد حقيقة تفرّغه للعمل ونسيانهم وأيضاً انسحاب نتائجه عليهم ومن طرائف ما قدّموه من شهادات متباينة المستوى أنهم تحولوا فجأة إلى موظفين عند والدهم، انحصرت مهمتهم في الردّ على رسائل المعجبين التي ما انفكت تصل إلى بيتهم يومياً وبالآلاف. سيفضي العمل الطويل ودون انقطاع إلى زعزعة أواصر العلاقة الأسرية وفي مراحل معينة ستصل حد القطيعة مع الإبن “آدم” وستتوج بانفصاله عن زوجته الأولى وزواجه بامرأة ثانية، لكن الأَمَر كان إدمانه الكحول وبسببه تدهورت الكثير من علاقاته وأثرت سلباً على صداقاته. إلا أن ميزته الأهم كانت تتجلى في حرصه على عدم تبذير كل أمواله التي كان يجنيها من عمله المضني ليل نهار. حافظ على ما يضمن عيش عائلته وعدم تكرار تجربة من سبقوه من ممثلين في الانتقال من الثراء إلى الفقر وحتى التشرد في الشوارع. تجنب “نيموي” ذلك لكنه خسر بالمقابل عائلته أو كاد كما تشير سيرته السينمائية ويتفق معها أهله والكثير من أصدقائه. 
 
يسرد الوثائقي تجاربه السينمائية والمسرحية بعد إعلان قناة (إن.بي.سي) توقفها عن تقديم جزءه الرابع. كممثل مسرحي حقّق نجاحات كبيرة لكنه تعرّض لهجمة عنيفة من قبل الحكومة والمؤسسات الإعلامية الإسرائيلية لأداءه دور يهودي نيويوركي تعاون مع النازية خلال الحرب العالمية الثانية. الحملة وبالرغم من شدتها لم تمنعه من الاستمرار في تقديم أعمال مهمة كـ “فان جوغ” الذي قام بتقدميه بمفرده إلى جانب دوره في مسرحية “سبيلمان على السطح” وفي السينما كان عمله موفقاً لدرجة اعتبر فيها بعض النقاد فترة السبيعينات هي فترته الذهبية، توجت بأدائه الصوتي في فيلم “ستار تريك” وله موقف مشهود فيه عندما رفض توقيع عقد العمل دون بقية زملائه القدامى في المسلسل ونتيجة لإصراره كان له ما أراد.  لا يُخفي “نيموي” خيبة أمله في نقل السينما لمسلسله وعدّها تشويها تجارياً لها واستغلالاً قبيحاً من قبل شركة “برامونت” لنجاحها. لقد صرح وكله مرارة أن ما يشاهده على الشاشة الكبيرة لا صلة له بالأصل، وما هي إلا “مؤثرات خارجية” باستثناء أعمال “جي جي أبرهامز” المستوحاة منها وفي آخرها أعطى البطولة لشاب آخر قام بنفس دوره السابق كمُسيّر للسفينة فيما قَبِل هو لعب دور “ثانوي” يظهر فيه كأب يُعين ولده على إنجاز مهمته المُشِرفة!
 
 
من مظاهر شعبية المسلسل وحب الناس لبطله “سبوك” أن شركاته المنتجة اعتادت تنظيم معرضاً سنوياً له تقدم فيها مختلف المنتجات التجارية المجسدة لها. معرض يحضره آلاف من المعجبين يرتدون خلاله نفس أزياء شخصيات المسلسل وتعرض فيه للبيع ملصقات وكتب وألعاب وغيرها الكثير. يسجل ولده حجم الإعجاب الجماهيري بـ”سبوك” وتحولها إلى ظاهرة اعتنى بها مؤلفون ونقاد وقدّموها في أعمال مكتوبة في الغالب إلا أن العمل الأهم على المستوى البصري يبقى هو عمل “في حب سبوك” ودون منازع، لعمقه وتناوله جوانب وتفاصيل صغيرة بعضها كان مجهولاً عن الممثل ودوره. ولأنه انفتح ولم يثقل فيلمه بالحديث عن الممثل فحسب، بل تعدّاه إلى البطل المتخيل وما تمثله شخصيته من معاني وأبعاد فلسفية ليشكل كل منهما؛ سوية صورة متكاملة الأبعاد تسمح بقراءة مرحلة مهمة من تطور المسلسل التلفزيوني وبها ينفتح المجال واسعاً لمزيد من البحث فيها، فعمل “آدم نيموي” يصلح، رغم طوله غير المبرر، أن يكون نموذجاً جيداً لكتابة السيرة الشخصية بالصورة، والتنويع من داخلها على عناصر تحليلية تمنحها عمقاً مطلوباً وفي الأحوال كلها هي سيرة محبة لرجل كرس حياته واقترنت ببطل متخيل ذاع صيته في كل الدنيا وبعد خمسة عقود جاءت السينما لتذكرنا بـ”سبوك” وسفينته الفضائية!