فيلم “أين ذهبتِ يا بيرناديت؟”.. دخان بلا نار في رحلة مهندسة عبقرية

رشا حسني

“أين ذهبتِ يا بيرناديت” هو أحدث أفلام المخرج والسيناريست والمنتج “ريتشارد لينكليتر” المعروف بإخراجه للكثير من التجارب السينمائية المميزة، منها فيلم “صَبا” (2014)، وثلاثية “قبل”، أولها “قبل شروق الشمس” (1995)، وثانيها “قبل غروب الشمس” (2004)، وثالثها “قبل منتصف الليل” (2013)، والفيلم هو المعالجة السينمائية للرواية الأكثر مبيعا، والتي تحمل الاسم نفسه لكاتبة السيناريو والروائية الأمريكية “ماريا سيمبل” الصادرة عام 2012.

تدور أحداث الفيلم حول المهندسة المعمارية العبقرية “بيرناديت فوكس” التي تتعرض لأزمة مهنية تترك على إثرها عملها بمجال الهندسة المعمارية، والمستقبل الواعد الذي كان ينتظرها، خاصة بعد فوزها بجائزة “ماك آرثر” في مجال الهندسة المعمارية.

تترك “بيرناديت” خلفها كل تلك النجاحات والإنجازات التي حققتها في وقت قياسي، وتعيش في مدينة سياتل حياة روتينية مُملة خالية من أي إنجاز، أو أي نوع من أنواع تحقيق الذات على المستوى الشخصي أو المهني، إلا فيما يتعلق بعلاقتها بابنتها المراهقة التي تُعتبر الشخص الوحيد الذي تُجيد “بيرناديت” التواصل معه.

 

“بيرناديت”.. ملامح أزمة لم تتشكل

يُعتبر الفيلم من نوعية الأفلام التي ترتكز بشكل أساسي على شخصية رئيسية تكون هي محور الفيلم ونقطة الارتكاز الأساسية للسيناريو، لكن في هذه النوعية من الأفلام لا بد أن تكون ملامح هذه الشخصية الرئيسية واضحة، كما يجب أن تكون أزماتها ومراحل تطورها أيضا على درجة عالية من الوضوح، وهو الأمر الذي يُجيده عادة المخرج “لينكليتر” في معظم أفلامه، فدائما ما يكون بارعا في صياغة وتقديم شخصيات إنسانية مؤثرة وواضحة يسهل التعاطي معها، سواء على نحو سلبي أو إيجابي.

لكن ما يبدو جليا في هذا الفيلم هو عدم قدرته على تحقيق هذا الأمر، إذ لم يستطع “لينكليتر” ولا معاوناه في كتابة السيناريو “هولي جينت” و”فينيسينت بالمو” صياغة شخصية واضحة ومؤثرة، على الرغم من أن الشخصية تتمتع بالكثير من المقومات التي كانت تؤهلها لأن تصبح شخصية أخاذة، وليست فقط شخصية مميزة، ويرجع ذلك لسبب جوهري، وهو عدم وضوح أزمة الشخصية.

فمع مرور أحداث الفيلم لم يستطع سيناريو الفيلم إبراز أزمة “بيرناديت” الرئيسية أو الحقيقية، فهي مهندسة نعرف في الفصل الثاني أنها كانت مهندسة معمارية ناجحة جدا، حيث يمكن وصفها بالعبقرية في مجال الهندسة المعمارية، ولديها ابنة محبة وزوج داعم ومتفهم يعمل بوظيفة مربحة مع واحدة من أهم الشركات على مستوى العالم هي شركة “مايكروسوفت”. كما أن لها جيرانا يتعاملون معها بمنتهى اللطف، ويحاولون طوال الوقت التقرب منها وكسب ثقتها وإدماجها معهم في أحداث حياتهم الرتيبة في سياتل، على الرغم من معاملتها لهم طوال الوقت بمنتهى الصلف والجمود والتعالي.

إذن أين المشكلة؟ هل أزمتها الحقيقية تكمن في السقطة أو الفشل المهني الذي تعرضت له، وهل من الطبيعي لأي إنسان يتعرض لمشكلة أو حتى كارثة مهنية أن ينزوي ويهجر مجال عمله الذي هو مجال شغفه لمدة تزيد عن عشرين عاما؟

“بيرناديت” تخبر زوجها وابنتها بأنها ستذهب في رحلة عمل طويلة

 

تساؤلات بلا إجابات.. تَهرُّب السيناريو من نفسه

كان من الممكن تقبل هذه الأسئلة لو أن السيناريو أعطى لها إجابات واضحة، لكن هذا لم يحدث بل العكس، فقد تجاهل سيناريو الفيلم كل هذه التساؤلات وغيرها، ومنها على سبيل المثال: ماذا كانت تفعل “بيرناديت” في حياتها خلال كل تلك السنوات؟ هل اقتصرت كل أنشطة حياتها على مرافقتها لابنتها يوميا من وإلى مدرستها؟ هل هذا كل ما فعلته بيرناديت في العشرين عاما التي تركت فيهم عملها بالهندسة المعمارية؟

إلى جانب تساؤل آخر مهم وهو كيف لم يلحظ زوجها كل تلك السنوات ما طرأ على شخصيتها من تغييرات؟ كيف لم يلحظ تحوّل زوجته المهندسة الشابة العبقرية والناجحة إلى امرأة مُصابة بمرض الرهاب الاجتماعي، لا تجيد تكوين علاقات اجتماعية سليمة، أو حتى ما يمكن وصفها بالعلاقات الاجتماعية العادية مع أي شخص بخلاف ابنتها، واكتفى سيناريو الفيلم فقط بتقديم حجة واهية جدا للهروب من الإجابة على هذا التساؤل، وهي أنه كان منشغلا بعمله في شركة “مايكروسوفت” إلى الحد الذي جعله لا يستطيع تقوية علاقته بابنته كعلاقتها بوالدتها، ولا يستطيع أن يلحظ ما تمر به الأم.

حتى إن تساؤل عنوان الفيلم لم يوضح الفيلم إجابته، ما المقصود بـ”أين ذهبتِ يا بيرناديت؟”، هل المقصود هو أين ذهبت أو اختفت أول مرة بعد فشلها المهني؟ أم أن التساؤل هنا عن اختفائها الثاني بعد هروبها من منزلها ومن محاولات زوجها بإقناعها للخضوع للعلاج النفسي، وهروبها إلى القارة القطبية الجنوبية؟

“بيرناديت” في القارة القطبية الجنوبية

 

فقدان الشغف.. فرضيات بلا ترجيح

لم تكن أزمة شخصية “بيرناديت” هي الشيء الوحيد غير الواضح في الفيلم، لكن الأهم والذي يعتبر عدم وضوحه أحد أهم عوامل ضعف السيناريو وإخفاقه؛ هو عدم وضوح فكرة الفيلم أو موضوعه الرئيسي، فهل هذا الفيلم عن علاقة “بيرناديت” بابنتها؟ وهو ما يفسره حضور الابنة كمحرك أساسي لأحداث الفيلم، فهي التي تفتتح الفيلم بالحديث عن والدتها وأزمتها، وهي التي تجدها في نهاية الفيلم. أم أن الفيلم عن فكرة علاقة الإنسان بشغفه، وكيف أن فقدان الإنسان لشغفه في الحياة يعتبر بمثابة نهاية له حتى لو بقي على قيد الحياة فإن حياته تكون أشبه بالموت منها للحياة؟ وهو الأمر الذي دفع “بيرناديت” إلى السعي وراء شغفها مرة أخرى، حتى وإن حدث هذا في أبعد بقاع الأرض في القارة القطبية الجنوبية.

هل فكرة الفيلم تتمحور حول الرحلة التي خاضتها “بيرناديت” حتى وجدت نفسها واستعادت شغفها مرة أخرى؟ وهل الرحلة التي اقترحتها ابنتها إلى القارة القطبية الجنوبية هي المجاز المادي لتلك الرحلة المعنوية التي خاضتها “بيرناديت”؟ فالرحلة التي كانت تعتبرها في البداية رحلة إلى الجحيم كانت هي خلاصها من أزمتها الوجودية وأمراضها النفسية، وكانت أولى عتبات تواصلها مع ابنتها وزوجها وجيرانها مرة أخرى، لكن في النهاية تبقى كل ذلك فرضيات لم يرجح الفيلم كفّة أي منها.

ابنة بيرناديت تقترح رحلة القارة القطبية الجنوبية

 

السيناريو المتجمد.. إخفاق وثغرات

أسوأ ما يمكن أن يقع فيه سيناريو فيلم سينمائي قائم على شخصية رئيسية؛ هو وقوف هذا السيناريو على الحياد من شخصيته الرئيسية، بمعنى ألا يقدم هذا السيناريو للمشاهد ما يحتاجه للتعاطي مع هذه الشخصية وتكوين وجهة نظر عنها، وهو تحديدا مع حدث مع سيناريو فيلم “أين ذهبتِ يا بيرناديت؟”.

لم يقدم سيناريو الفيلم للمشاهد أي مواقف أو مشاهد يستطيع من خلالها تكوين علاقة مع شخصية “بيرناديت” لا بالتعاطف ولا بالتوحد ولا حتى بالرفض، فكل شيء يحدث للشخصية يحدث لها دون تورّط شعوري، فكل شيء يحدث لها من الخارج هي فقط من تشعر به، ولم يستطع السيناريو أو حتى تميُّز الأداء التمثيلي للنجمة “كيت بلانشيت” أن يورطا المشاهد معها، وجاء ذلك نتيجة لعدة أسباب، منها تركيز السيناريو على وجهة “بيرناديت” الأخيرة على النحو الذي تغافل عن كيفية وصولها إلى تلك الوجهة، وأيضا غياب الكثير من المعلومات الخاصة بالشخصية في مواقف تستلزم عرض هذه المعلومات، أو عرض تلك المعلومات متأخرة، أو عرض تلك المعلومات بطرق سردية فقيرة ومباشرة ومدرسية، مثل الطريقة التي استعرض بها السيناريو خلفية “بيرناديت” كمهندسة معمارية عن طريق فيلم وثائقي يحتوي على العديد من اللقاءات التلفزيونية الفقيرة مع زملائها وأصدقائها وهم يتحدثون عنها وعن إنجازاتها المهنية.

“بيرناديت” تطلب المساعدة من جارتها

 

الحوار المباشر.. ضعف النص السينمائي

على غير عادة معظم النصوص السينمائية التي يقدمها المخرج “ريتشارد لينكليتر”، التي تعتمد بشكل أساسي على الحوار الدال الذي يتميز بتوظيفه في تطّور السيناريو والشخصيات والعلاقات بين الشخصيات، كما هو الحال في ثلاثية “قبل” على سبيل المثال؛ جاء الحوار في هذا الفيلم على درجة عالية من المباشرة الخالية من أية دلالات فنية قد تُعطي للنص السينمائي أبعادا أو مستويات أخرى للتلقي. حوار ينمّ عن شخصيات تشرح نفسها وتقول ما تشعر به بشكل مباشر، كما حدث على سبيل المثال في مشهد المواجهة بين “بيرناديت” وبين جارتها “أودري”، أو في معظم المشاهد التي جمعت بين الأب وابنته، أو كل المشاهد التي تتحدث فيها “بيرناديت” إلى مساعدتها الافتراضية في الهند “مانجولا”.

لكن لم يكن حوار الفيلم هو العنصر الوحيد الذي يتسم بالمباشرة، بل رسائل الفيلم الضمنية أيضا كانت على درجة عالية من المباشرة، حيث التأكيد على أهمية العلاقات الاجتماعية والتواصل البشري الذي كان بمثابة طوق النجاة لـ”بيرناديت”، فلم تخرج إلى الحياة مرة أخرى، ولم تجد نفسها وتستعد شغفها إلا من خلال تواصلها مع من حولها، مثل جارتها التي استضافتها في منزلها بعد هروبها من زوجها، ثم السيدة التي قابلتها أثناء رحلتها في القارة القطبية الجنوبية، والتي ساعدتها كي تجد عملا تُعيد من خلاله علاقتها بالهندسة المعمارية.

اختفاء “بيرناديت” وهروبها من المنزل بعد ضغط زوجها عليها للجوء إلى الطب النفسي

 

الفن.. أفضل مُتنفَّس للفنان

بالإضافة إلى الفكرة التي تتعلق بأنه من الممكن للفن أن يكون أفضل علاج لمشاكل الفنان النفسية والذهنية والعصبية، ومن الممكن أن يكون هو مُتنفّسه للتخلص من كافة أمراضه المزمنة المتعلقة بالقلق والخوف من المستقبل والتوتر العصبي، حيث أن الفن هو أفضل طرق التعبير عن الذات بالنسبة للفنان، وعندما تحدث حالة انفصال بين الفنان وفنه، فإنه يتعرض لأقسى أنواع المشاعر، وهو المفهوم الأقرب للفن والعلاج بالفن عند المخرج “ريتشارد ليتكليتر” نفسه، ودائما ما يُصرح به في الحوارات التي تُجرى معه.

“بيرناديت” تختفي خلف نظارتها الشمسية

 

إشادة بالرؤية البصرية

تبقى أخيرا ضرورة الإشادة بالرؤية البصرية التي قدّمها “لينكليتر” للتعبير عن شخصية “بيرناديت” المريضة بأمراض القلق والتوتر وحُبّ العزلة، حيث كانت تختفي طوال الوقت خلف نظارتها الشمسية التي تُخفي وجهها وتُخفيها عن العالم، وتقلل احتكاكها بمن حولها، وترتدي ألوانا باهتة مُحايدة مائلة إلى الزرقة والرمادية كألوان حوائط منزلها المنهار والمُتهدم، تماما كحياتها المنهارة والخربة والخالية من أي إنجاز، وصولا إلى طريقة كلامها بشكل سريع وعنيف ومتوتر، وذلك للتعبير عن كونها شخصية جافة في جميع تعاملاتها، فيما عدا تعاملها أو علاقتها مع ابنتها.