“قابل للكسر”.. أثقال الواقع تقصم أحلام الشباب في مصر

عدنان حسين أحمد

وَدعني من غير ما تسلِّم

وكفاية قلبي أنا مسلِّم

دي عنيّه دموعها بتتكلَّم

يحلّق المخرج المصري المستقل أحمد رشوان في فيلمه الجديد “قابل للكسر” في مدارات واقعية مقصودة، مثل الهجرة والحُب والصداقة، لكنه يعالجها من زاوية نظر حسّاسة ومختلفة، فهو يقول إن الأقداح والأطباق الخزفية والزجاجيات قابلة للكسر، لكنه يتجاوزها جميعا ليخبرنا بأن البيت والحي والوطن والإنسان والعلاقات العاطفية كلها قابلة للكسر أيضا.

 

أحلام الحب المجهضة.. مشاهد من ألوان الواقع المصري

ثمة أمثلة عدة في هذا الفيلم تعالج الأحلام المُجهضة وعلاقات الحب القابلة للكسر، مثل علاقة كريم ونانسي، فهو مسلم وهي مسيحية، وهو مرتبط بعلاقة حُب مع ليلى، ويدّعي بأن علاقته بنانسي لا تتعدى حدود الصداقة، بينما هو يخرج معها لقضاء بعض المشاوير، ويجلب لها أدوات الزينة والحلي من محل الفضة، ويطلب منها أن تُحضِر له رخصة قيادة الدراجة النارية التي نسيها في البيت إلى “قسم المَطَرية”، ويصبغ لها المنزل، ويحتفل بعيد ميلاده في بيتها، وليس مع حبيبته المُفترضة ليلى.

وعلى الرغم من تظاهر الطرفين بمبدأ الصداقة، فإنّ مشاعرهما وبوحهما يقولان العكس تماما، كما أن علاقة لبنى وحازم قد تحطّمت كليا حين أقدمت على إجهاض الجنين الذي تحمله في أحشائها رغم أنها تقف على حافة سن اليأس.

يحاول المخرج أحمد رشوان أن يلتقط مقاطع عرضية من الواقع المصري الذي يُحبب المُشاهدين فيه، ففي مستهل الفيلم نرى كريم (الممثل عمرو جمال) ونانسي (الممثلة حنان مطاوع) يتناولان وجبة خفيفة في مطعم شعبي، ويؤكد لها بأنها ستفتقد هذا النوع من الأكلات الشهية والنادرة، لكنها تخالفه الرأي وتقول إن المصريين يوجدون الآن في مختلف بقاع العالم، ولا تجد صعوبة في الحصول على أي أكلة مصرية شعبية، سواء في تورنتو أو أي مدينة غربية أخرى. تتوالى اللقاءات بينهما على مدى الأيام الثلاثة الباقية قبل الرحيل.

ليلى تتخلى عن كريم وتقوم بعملية إجهاض للجنين الذي تحمله من طليقها حازم

 

علاقات المجتمع الهش.. مساحات ضبابية بين الصداقة والحُب

يتتبّع المخرج والسينارست أحمد رشوان في النسق السردي للقصة السينمائية التي كتبها بنفسه أربع علاقات عاطفية لم يصل أصحابها إلى بر الأمان، فنانسي تهاجر إلى كندا وتترك كريم في منزلها، وليلى تقطع علاقتها بكريم، ولبنى تقوم بعملية إجهاض للجنين الذي تحمله من طليقها حازم، ونانسي التي سبق لها أن فسخت خطوبتها من مايكل.

وكأنّ لسان حال المخرج يقول إن غالبية العلاقات العاطفية في مجتمع غير مستقر مآلها الفشل، من دون أن يتفادى الاختلافات الدينية والتفاوت الطبقي والحاجة الروحية للعلاقات الإنسانية التي تتمثل بالحُب والصداقة، والمساحة الضبابية الغامضة التي تفصل بين المفهومين اللذين ينتميان إلى جذر واحد باشتراطات مختلفة.

وعلى الرغم من الدعوات المتواصلة لترسيخ فكرة التعايش بين المسلمين والأقباط في المجتمع المصري، فإنّ الشريحة القبطية لا تجد حرجا في الهجرة إلى المنافي الأوروبية والغرب الأمريكي الذي يوفر لهم الحرية والأمان والعيش الكريم.

لقاء لبنى ونانسي، والتي تحب كل منهما كريم، وهو ما يشعل فتيل القتال بينهما

 

“أنتَ اللي حظك مايل يا مايكل”.. انكسار العواطف المتأرجحة

لا يُقدّم الكاتب أحمد رشوان قصة سينمائية تقليدية، وإنما يعطينا نُتفا متفرقة، وعلينا أن نجمعها ونُعيد ترتيبها من جديد، إذ سبق لنانسي أن ارتبطت بمايكل (الممثل أحمد رشوان)، لكنها سرعان ما فسخت هذه الخطوبة، ولم نعرف السبب إلا من خلال كلمات والده التي قال فيها عن نانسي “آه، دي كانت بنت ناس أُمراء، أنتَ اللي حظك مايل يا مايكل”. وحينما زارته إلى مقر عمله تصوّر الموظفون أنها قد عادت إليه، لكن علاقة الحُب قد انكسرت وتقوّضت في أعماقها، وعلى المتلقين أن يشتركوا في البحث عن الأسباب التي أدّت إلى أفول هذه العلاقة العاطفية ونفورها منه.

أمّا العلاقة العاطفية الثانية مع كريم فهي أكثر إشكالية من الأولى، لأنها تدّعي أنه مجرد صديق، لكنّ سلوكها يذهب في الاتجاه المعاكس للصداقة والصحبة ويقترب كثيرا من الحُب والانسجام والتناغم الروحي الذي يصل في خاتمة المطاف إلى أن توسّده صدرها وتروي له حكاية حتى يغفو ويغيب في نوم عميق، كما أنّ أصابع يديهما تشتبك وهما في جوف السيارة الذاهبة إلى المطار.

لا تقلّ شخصية كريم تعقيدا واضطرابا عن شخصية نانسي، فهو الآخر يتأرجح بين ليلى (الممثلة فاطمة عادل) ونانسي، ويختلق غالبا الأعذار بأنّ نانسي هي مجرد صديقة لا غير، وأنها على وشك السفر لكي تلتحق بعائلتها في مدينة تورنتو الكندية، لكن ليلى لا تحبّذ انشغاله بامرأتين في وقت واحد، بل إنها تريده لها وحدها.

صورة لعناق نانسي وكريم أرسلها صديقه حسين كي يوقع كي يثير حفيظتها ويُفاقم العلاقة المتأزمة أصلا بينهما.

 

تسريب الصور.. منحنيات حادة في طرائق متقاطعة

بما أنّ كريم يعيش مع صديقه حسين (خالد خطّاب) في شقة واحدة، ويشعر بالحيف لأنه بلا حبيبة أو حتى صديقة عابرة، فلا غرابة أن يُدبِّر المكائد لصديقه كريم، ويُوقع بين الطرفين حين يبعث لها صورا تجمع بين نانسي وكريم كي يثير حفيظتها ويُفاقم العلاقة المتأزمة أصلا بينهما.

ولكي يوسّع الهوة بينهما، يأخذ ليلى إلى مقهى يجلس فيها المُخرج المسرحي يوسف ويلتمس منه أن يسند لها دورا في مسرحيته الجديدة ويُبدي المخرج رأيه بموهبتها الفنية، لكنه ينتقد حركتها الجامدة، ويطلب منها أن تكون أكثر خفة وحيوية، وحين تتذمّر من ذلك يغادر منزعجا ليحرمها من هذه الفرصة المُحتملة.

تتأزم العلاقة بين كريم وصديقه حسين نتيجة لتطفّله، فيضطر كريم لترك الشقة نهائيا، وذلك في إشارة واضحة إلى أن الصداقة هشّة وقابلة للكسر حينما تتقاطع الأمزجة وتتكدّر الظروف، ونتيجة للصور التي بعثها حسين إلى ليلى والمعلومات التي مرّرها إليها؛ تقطع علاقتها العاطفية بكريم الذي صادف أن يحتفل بعيد ميلاده في بيت نانسي، وهذا دليل آخر على أن الحُب قابل للكسر أيضا.

نانسي تودع العم وديع والد خطيبها مايكل الذي تخلّت عنه، وذلك قبل سفرها وهجرتها إلى كندا

 

“كل الرجال يخونون نساءهم”.. إجهاض ينسف خطوط الرجعة

لم تكن المؤسسة الزوجية بمنأى عن الهشاشة، فقد تزوجت لبنى (الممثلة رانيا شاهين) من حازم بسبب الحاجة المادية وليس الحُب، كما أنه كان يخونها مع نساء أخريات، والغريب أن أمها كانت تدافع عنه منطلقة من فكرة خاطئة مفادها بأنّ “كل الرجال يخونون نساءهم”، ولم تُبق مكانا للإخلاص والحُب والوفاء، الأمر الذي يدفعها لأن تنسف كل خطوط الرجعة بينها وبين طليقها، فتُقدم بتشجيع من صديقتها نانسي على القيام بعملية الإجهاض على يد الدكتور نادر الذي لا يفكر إلاّ بجني الأموال، حيث تكلّف العملية الواحدة خمسة آلاف جنيه مصري أو أكثر في بعض الحالات، ولا ننسى أنه متفق مع صيدلية تبيع أقراص توسيع الرحم لمريضاته، شرط أن يُرجعنَ الوصفات الطبية إليه كي يمزقها ويُبعد عنه الشبهات التي قد تُعرّضه للمساءلة القانونية.

وعلى الرغم من نجاح العملية فإنّ صحة لبنى تنتكس نتيجة نزيف داخلي، غير أنه يتداركها في المستشفى الذي يعمل فيه لتضع حدا لرغبة طليقها في العودة إليها.

أمّا نانسي فقد فسخت خطوبتها وتخلّت عن مايكل نهائيا، لكنها ظلت تتردد عليه، إمّا لحجز تذكرة السفر، أو للقاء والده وديع الذي يحترمها كثيرا، أو لأنها تكلّفه بشراء بعض الحاجات البسيطة التي يطلبها شقيقها الصغير نبيل، مثل البرديات (نوع من الورق استخدمه الفراعنة) ونماذج الجِمال المصغّرة التي يريد أن يقدّمها هدية لزملائه في العمل.

لم تتضح طبيعة شخصية مايكل الذي يحاول ترميم علاقته مع نانسي، لكنه يفشل في كل مرة، وحينما يجلب لها الحاجات التي اشتراها من السوق؛ يشعر بالغضب لأنه يجد كريم في منزلها، وسرعان ما يغادر وهو يقول “يبدو أنني جئت في الوقت غير المناسب”، ويعود ليكرّس حياته لخدمة أبيه، ويرفض أن يبعثه إلى دار المسنّين.

 

ظلال الهجرة إلى ديار الغربة.. انكسار الوطن

أشرنا إلى أن السينارست والمخرج أحمد رشوان لا يقدّم قصة مكتملة، وإنما يكتفي بالمقاطع العرَضية التي تشكّل أحداثا متفرقة تلعب على تقنية الشكل البصري لكل حكاية سردية على انفراد، ويمكن للمتلقي أن يستخلص منها قصة متكاملة عن انكسار الحُب والصداقة والزواج والوطن. ورب سائل يسأل كيف ينكسر الوطن؟

يأتي الجواب سريعا بأنّ الوطن ينكسر حينما يهجره الأبناء بغض النظر عن دينهم أو مذهبهم أو طائفتهم، أو حينما يحرم الشباب من فرص العمل ويصبحون ضحايا لمظاهر العنف والجريمة والضياع، وقد يضطرون للسرقة كما حصل لنانسي التي كانت تسحب النقود من الحصّالة وهدّدها أحد السرّاق المجانين بأن تضع النقود التي سحبتها في الكيس الكبير الذي كان يحمله، وحينما هربت وولجت إلى سيارتها بسرعة؛ حطّم نافذتها الزجاجية الخلفية بمطرقة كان يحملها في الكيس، وظل يهددها بالانتقام منها في الأيام القادمة.

كما أن سرقة حقيبة امرأة أخرى كانت تمشي في الشارع هي ليست اعتباطية، وإنما هي دليل آخر على انكسار العلاقة بين أبناء المجتمع الواحد الذي يسلب بعضه بعضا، وهو الأمر الذي يهدّد السلم المجتمعي الذي يوحي لنا وكأننا نعيش في غابة، وليس في مجتمع آمن ومتحضر.

نانسي تسرد لكريم حدوتة خيالية كي يغفو على صدرها ويسقط في القيلولةـ ثم غالبها النعاس وسقطت هي الأخرى في قيلولة

 

“يا مسافر وحدك”.. نغمات من تلاقح ما وراء السرد

لم يأتِ التعالق مع أغنية “يا مسافر وحدك” لمحمد عبد الوهاب اعتباطيا أو من قبيل المصادفة، وإنما هو مقصود لذاته، ويعبِّر عن الوداع، حيث نسمع الأطفال والصبايا يغنّون “ودعني من غير ما تسلِّم وكفاية قلبي أنا مسلِّم”، أو تلاقح ما وراء السرد مع الحكاية التي ترويها نانسي لكريم “كان فيه ولد صغير شاطر اسمه كريم، كان بيحب الموسيقى وما كانش بيحب الدوشة ولا الزحمة، فقرر أن يسيب الكوكب بتاعنا ويروح على كوكب الموسيقى”. في يوم حبّ كريم يقول لحبيبته “أنا بحبِّك، بحبِّك، بحبِّك” فغفا على صدرها ونام، ثم غالبها النعاس وسقطت هي الأخرى في قيلولة لذيذة.

ولا ننسى أنّ الحوار الإذاعي المسجل الذي يدور بين مارينو وسول في مُستهل الفيلم يأخذنا إلى تلاقح ما وراء السرد الذي يعالج موضوع الحُب والصداقة، حيث تقول سول “ابتعد عني يا مارينو لقد أصبحتُ الآن امرأة متزوجة. ولماذا لا نظل أصدقاء يا سول؟ خوليو رجل رائع لا تأتي على ذكره بهذه الطريقة السيئة، ستُثبت لك الأيام أنني أكثر وفاء منه يا سول”.

وثمة صبية في الفيلم تبيع المناديل للعشّاق وتستعطفهم لشرائها مقابل جنيه واحد لا غير، وذلك في إشارة واضحة إلى أن الفقر يضرب أطنابه في المجتمع المصري، وأنّ الأطفال محرومون من طفولتهم، وأنّ هذه الصبية كان يجب أن تكون جالسة على مقاعد الدرس بدلا من مزاولة هذا العمل الأقرب إلى التسوّل والاستجداء.

نانسي تقرر الهجرة إلى كندا ولا تريد أن تنسى ذكريات البيت والوطن والأحبّة

 

وعود العودة.. حبل حب الوطن العصي على التآكل

تُنهي نانسي إجراءات بيع السيارة لزميلها عاطف الذي كان يدرس معها في قسم الترجمة، ونعرف من خلال الحديث الذي يدور بينهما أنه قدّم أوراقه إلى الهجرة العشوائية منذ عدة سنوات، وينتظر النتيجة بحثا عن مستقبل أفضل، وكأنّ الوظيفة تستعصي على الشباب في وطنهم الأم.

لم تشأ نانسي أن تقطع علاقتها بالوطن، فقد طلبت من كريم الذي استأجر البيت أن يسقي النباتات في شرفة المنزل، وأن يعتني بطاولة الذكريات والأريكة وبعض أدوات المطبخ، وأن يأخذها معه إذا ما انتقل إلى شقة ثانية، كما وعدت أصدقائها ومعارفها بأنها ستعود إلى القاهرة كل عام، لكنها بالمقابل كانت تشجّع صديقتها لبنى على السفر إلى تورنتو وتحقيق حلمها بفتح مطعم مصري في ديار الغربة، علّه يُبقي المغتربين المصريين على آصرة تشدّهم إلى الوطن من خلال الأطعمة والمأكولات المصرية.

على الرغم من جماليات الأداء لمعظم الشخصيات الرئيسية فإنّ مشهد المغادرة من البيت إلى المطار كان مؤثرا جدا، وكانت نظرات نانسي ودموعها التي تترقرق في عينيها هي الأكثر ملامسة وتحريكا لمشاعر المتلقين.

مخرج فيلم “قابل للكسر” أحمد رشوان رفقة مدير التصوير محمود لطفي

 

أحمد رشوان.. تألق في الوثائقيات والروائيات

أنجز أحمد رشوان ستة أفلام وثائقية وهي على التوالي “مولود في 25 يناير” و”جزيرة الأقباط” و”المدينة الفاضلة” و”أصوات خلف الأسوار” و”خان المعلم” و”12 خطوة للأمام”.

كما أنجز فيلما روائيا طويلا يحمل عنوان “بصرة”، إضافة إلى فيلم “قابل للكسر”، ويأمل أن ينجز فيلما وثائقيا عن المخرج شادي عبد السلام بعنوان “شادي.. أنشودة البعث”.