“قبل زحف الظلام”.. عشر سنين من النبش في الذاكرة المغربية بالسبعينيات

المصطفى الصوفي

في السينما -كتجريب فرجوي وإبداعي مُتعدد الرؤى- يمكن المشي في غبش الظلام، والسير في حلكة الدياجير، بحثا عن ألق مشع ينبجس من فتحة الأفق البعيد، وقبس مستقبل دافئ تنشده فئات عدة من المجتمع بفيض من الحلم وفرحة التحرر من قسوة النفس والوجدان.

في السينما أيضا يمكن للمخرجين في الحقل الوثائقي خاصة أن يتحولوا إلى شعراء وفلاسفة، دون أن يحملوا معاول الهدم والعدم، وبناء أبراج للطاقات السلبية، وركوب الريح العقيمة التي لا تبشر بربيع قادم وأزهار تورق متراقصة، بينما النحل يحتفي بها في أبهى صورة طبيعية لا تخطر على بال.

علي الصافي المخرج المغربي المتخصص في الأفلام الوثائقية هو واحد من المخرجين الذين فهموا أن الإبداع السينمائي الوثائقي هو في الأساس نوع من التجريب الذي يتطّلب صبر أيوب، والسير في طرقات الإبداع مهما قلت الإضاءة، لكن المسير ينتهي عند زاوية غير مظلمة على كل حال.

تجربة علي الصافي الخائض دوما في تصريف الفيلم الوثائقي والتسجيلي إلى الجمهور بطريقة جميلة، ينبع من قناعات شخصية، ويرسخ لثقافة الرؤية الوثائقية التي تنتصر للقيم الاجتماعية، والاتجاه الواقعي الذي يكون دائما قريبا من نبض المجتمع، لكن بفيض من الرومانسية والحقيقة.

التزام سينما علي الصافي الوثائقية بهذا التصنيف، انجلى من جديد في فيلمه الجديد “قبل زحف الظلام” (2020)، وهو الفيلم الذي اختير للمشاركة في مسابقة جوائز النقاد للأفلام العربية التي ستمنح على هامش فعاليات الدورة الـ74 لمهرجان “كان” المرتقب تنظيمه من السادس وحتى 17 يوليو/تموز المقبل.

 

قصيدة السهل الممتنع.. عودة إلى سبعينيات المغرب

يتنافس هذا الفيلم للظفر بهذه الجائزة في صنف الوثائقي مع فيلمين آخرين هما “في زاوية أمي” للمخرجة أسماء المدير، ثم “عاش يا كابتن” لمي زايد من مصر، وكلها أفلام تحكي عن التاريخ والمجتمع والوجدان برؤى إبداعية مختلفة يحضر فيها الحس الفني والجمالي والطفولي.

“قبل زحف الظلام” هو من سيناريو المخرج نفسه، وصوت حسن كيندا، ومونتاج شاغيك أرزومانيان، وإنتاج القناة المغربية الثانية (دوزيم)، ولا توري بروديكسيون، وأفلام باساج، وسينما بروديكسيون، بالتعاون مع أرتي فرانس لا ليكارن.

هذا الفيلم في مجمله واضح المَشاهد مهما كان كثير من الصور باهتا وقديما، وتتجلى في ذلك قدرة الفيلم على التأثير على المتلقي واستحضار روح الجانب التاريخي، ومدى إحساس الجمهور القوي بسلطة اللحظة وطعمها ورائحتها في ذلك الزمان البعيد القريب.

إنه في جانب آخر عبارة عن قصيدة شعرية بسيطة تُروى بالصور المركبة، لكنها قصيدة تندرج في سياق السهل الممتنع الذي يستوجب من المتلقي قراءتها من أوجه متعددة بحثا عن الحقيقة، والتفاعل مع الزمن المحكي، وطرح السؤال الوجداني حول قيمة الزمن والتاريخ في حياة المجتمعات وبناء المستقبل.

يُعالج الفيلم حقبة زمنية من تاريخ المغرب الثقافي والفني والسياسي والاجتماعي، وهو نبش في جدار الماضي والذاكرة المغربية خلال السبعينيات من القرن الماضي، التي شهدت احتقانا كبيرا بسبب نشاط كثير من الحركات الثقافية والسياسية.

الوثائق الأرشيفية المغربية التي استخدمها المخرج علي الصافي في فيلمه “قبل زحف الظلام”

 

وثائق الأرشيف.. فيض من الأصوات والألوان يصنع شاعرية الفيلم

يسلط الفيلم الضوء على موضوع الرقابة وقضية حقوق الإنسان، وأحلام كثير من النخبة المثقفة والفنية التي كانت تجد في الفن والثقافة والإبداع بشكل عام وسيلة للتعبير عن حرمانها من ضوء الشمس، ورفضها للانتهاكات.

من يشاهد الفيلم من بدايته إلى نهايته يدرك أن علي الصافي ركّز بالخصوص على الوثائق الأرشيفية، في إطار إبراز عنصر التضييق على الطبقة المناضلة والمثقفة والفنية، وهو ما يجعل مادته السينمائية تسجل من أجل التوثيق بكثير من التركيب الجمالي والشاعري.

تبرز شاعرية وجمالية “قبل زحف الظلام” في هذا الضوء الرقيق الذي أوجده علي الصافي في فيض من الأصوات والألوان والأغاني والموسيقى المنبعثة هنا وهناك، فضلا عن كثير من الصور المتعاقبة سواء كانت جامدة أو متحركة.

كواليس تصوير فيلم “قبل زحف الظلام” الذي يعجّ بالكثير من المشاهد لشخوص خائفة ومتوجسة

 

ازدحام الصور المركبة.. ملامسة مواضيع كثيرة في موضوع واحد

يعج الفيلم بكثير من المشاهد المتلاحقة والصور المركبة لشخوص خائفة ومتوجسة، وأخرى تهرب للقاء حتفها في وضعيات وأحاسيس مختلفة، وهي في الأساس إشارات مقصودة لها هدف معين، تُبرز قوة اللحظة وعنف اللقطة وقسوة المواقف لطمس الأحلام وتكميم الأفواه وخنق الحناجر.

في تناوله للجانب الفني السينمائي (المخرج مصطفى الدرقاوي نموذجا) يمكن استنباط أن علي الصافي داخل الفيلم نفسه يحاول أن يلامس مواضيع كثيرة في موضوع واحد، وهذه ميزة ينفرد بها المخرج في هذا العمل الجديد.

فهل اشتغاله على تجربة المخرج السينمائي المغربي أحمد البوعناني في فيلمه السابق “عبور الباب السابع” هو نافذة للحديث عن مشروع جديد للاشتغال على تجارب سينمائية أخرى رائدة تنتظر من ينفض عنها الغبار ويقدمها للجمهور، تقديرا لما قدمته للسينما، سواء كانت روائية أو توثيقية وتسجيلية.

مشهد من مشاهد الفيلم الذي نبش في الذاكرة المغربية خلال فترة السبعينيات

 

دور المؤرخ السينمائي الفني.. مُعالجة خلّاقة للواقع

ليس من السهل قراءة فيلم علي الصافي الذي استغرق إنجازه نحو عشر سنوات من البحث والجمع، فالفيلم وإن كان يقدم صورة مفهومة توثق للذاكرة التاريخية في شقّها الفني والسياسي في حقبة زمنية معينة، فإنه يطرح سؤالا جماليا وفلسفيا ومستقبليا.

الأمر يتعلق هنا بمحاولة المخرج تأكيده بأن السينما الوثائقية هي أولا وقبل كل شيء رؤيا إبداعية خلّاقة، وكتابة سينمائية جميلة بغض النظر عما تقدمه من حقائق صادمة.

كما أن الوثائقي من خلال هذا الفيلم هو أيضا رؤية فلسفية للأشياء والموجودات والحقائق، ووجهة نظر فنية مُبتكرة ذات نزعة تأويلية، وللكل الحق في قراءة الصورة كما يريد (نموذج نشرات الأخبار – المجلات – الملصقات – اللقطات السينمائية – التجمعات – الكواليس الفنية… إلخ).

إن فيلم علي الصافي في العمق هو نوع من قراءة ومعالجة الواقع والمجتمع بطريقة خلّاقة وجذابة، إنه طرح للوقائع والأحداث لبناء المستقبل، فلا يمكن بناء المستقبل دون استحضار التاريخ، وتسليط الضوء على الذاكرة الفردية والجماعية للمجتمعات والأمم.

علي الصافي من خلال تجربته الجديدة التي جمع فيها بين النسق التسجيلي والرؤية التوثيقية للتاريخ والماضي من أجل بناء المستقبل؛ يحاول أن يلعب دور المؤرخ السينمائي الفني في غياب مؤرخين حقيقيين في المجال، فقد كانت لتجربته هذه وقع خاص على كثير من التجارب والأسماء السينمائية والفنية التي غُيبت قيمتها ودورها الريادي في التغيير والتعبير والحرية في التفكير، وبناء مجتمع قوي مبني على المساواة والعدل وحرية الإنسان.

 

غليان الذاكرة الوثائقية.. رد الاعتبار للنخبة المثقفة

ساهمت هذه التجربة السينمائية -ولو بطريقة غير مباشرة- في ردّ الاعتبار للنخبة المثقفة التي ترى أن الثقافة والفن عموما يشكلان جزءا من الهوية والتاريخ والذاكرة المشتركة، وبالتالي من الواجب الاهتمام بها سينمائيا، وتوظيفها في مجال ثقافة الصورة كعنصر إيجابي لتكريس روح التربية على الحق في التعبير والحياة.

اشتغال علي الصافي على الذاكرة المغربية سواء في هذا الفيلم أو في أعمال سابقة مثل “دموع الشيخات”، أو “عبور الباب السابع” وغيرهما؛ نابع من قناعة شخصية تنبني على قراءة الذاكرة وثائقيا قراءة موضوعية وجمالية، كما تنبني أيضا على استجلاء الحقائق التي مضت رغم صعوبة الأمر، سواء من ناحية البحث عن المادة الخام، أو طريقة الوصول إليها، وما يرافق ذلك من إجراءات قانونية وإدارية، وذلك من أجل بناء المستقبل بناء قويا متينا.

كانت ذاكرة فيلم “قبل زحف الظلام” مشحونة وتغلي بالكثير من الصور والأصوات والمشاهد التي ركبت بطريقة متوالية، وكأن في ذلك نوعا من تسلسل الأحداث، وهو ما ميز فترة السبعينيات من احتقان وصدامات ونشاط للنخب المثقفة بالخصوص.

المخرج المغربي علي الصافي الذي استطاع بفيلمه “قبل زحف الظلام” أن يُارب بين الذاكرة والتاريخ

 

مقاربة التاريخ.. قراءة الماضي لبناء المستقبل

“قبل زحف الظلام” هو في العمق ليس مجرد صور مركبة وأرشيف ولقطات منتقاة وأصوات، بل هو نوع من فلسفة الصورة وأفلمتها وفق تصورات جمالية وإبداعية، واحتفاء بالثقافة وروّادها كما حكاها التاريخ، فعنصر الثقافة حاضر بقوة في الفيلم، وذلك من خلال فيض من الأيقونات والإشارات الدالة، هذه الثقافة التي تجمع كلا من الفنان التشكيلي والأديب والمسرحي والسياسي والمناضل والسينمائي والمغني والناشط الاجتماعي وغيره.

كان علي الصافي -الذي تُوّج في عدة مهرجانات دولية، وانضم لأكاديمية الأوسكار السنة الماضية- ذكيا في اختيار مواطن الحكي بالصورة التي اعتمدت على تقسيم الفيلم إلى محطات، أو أجزاء فيلمية إن صح التعبير، حيث قام ببناء الفيلم بالحسّ الإبداعي والجمالي الحالم ومختلف أشكال الفنون، ثم أعقبه ببنات أفكار النخبة المثقفة والناشطين والمناضلين، وما رافقها من أجواء ساخنة، الأمر الذي أعطى للفيلم فرجة ساخنة ومبهرة.

بهذا يمكن اعتبار “قبل زحف الظلام” واحدا من الأفلام الجميلة التي قاربت الذاكرة والتاريخ، ولامست مختلف أشكال الإبداع والتعبير، وذلك وفق مقاربات جمالية ورؤية فنية تنبني على قراءة الحاضر والماضي، لبناء المستقبل واستنباط غد مشرق.

المخرج علي الصافي اثناء تتويجه بالجائزة الكبرى في المهرجان الوطني للفيلم المغربي بطنجة في دورته الـ21 سنة 2020

 

تتويج الجائزة الكبرى.. حصيلة عقد من الزحف السينمائي

عشر سنوات من التمحيص والاجتهاد لإنجاز هذا الفيلم لم تكن هيّنة على المخرج ماديا ومعنويا، كما أن الدعم الذي لقيه من عدة جهات -أبرزها القناة الثانية المغربية- شكّل حافزا لإنجاز هذا الفيلم الذي تُوّج بالجائزة الكبرى (الخاصة بالفيلم الوثائقي) للمهرجان الوطني للفيلم المغربي الذي عُقد بمدينة طنجة سنة 2020.

بهذا التتويج وعرض الفيلم في مناسبات عدة كانت أخراها تظاهرة اللقاءات المتوسطية وحقوق الإنسان في الرباط أبريل/نيسان الماضي، وبمناقشته في عدد من القنوات التلفزيونية الدولية واللقاءات؛ يكون الفيلم قد شكّل زحفا سينمائيا صافيا ومضيئا بفيض من الفرجة التي تستجلي غبش الظلمات نحو أفق أكثر إشراقا.

وقد شكّل أيضا اختياره ضمن مسابقة جوائز النقاد للأفلام العربية في شقها الوثائقي الذي يضم 160 ناقدا دوليا يمثلون 63 بلدا؛ اعترافا بقيمة هذه الكبسولة السينمائية الوثائقية التي تُمجّد التاريخ، وتعطي أهمية قصوى لصوت الإنسان.

كما تهتم هذه التجربة السينمائية الفريدة بصوت المجتمع في فترة من فترات التاريخ المغربي، توجت بمبادرة نموذجية وطنية راقية قوبلت بتأييد دولي كبير، تمثلت في هندسة برنامج للإنصاف والمصالحة، وتطبيقه على أرض الواقع لطي صفحة الماضي.

 

حصاد المسيرة.. تجربة مثمرة في السينما الوثائقية

جاء “قبل زحف الظلام” بعد تجربة سينمائية وثائقية لا يُستهان بها أثمرت عددا من الأعمال، لعل أبرزها “دموع الشيخات” (2004) الذي يعالج قضية مطربات شعبيات، وما يُعانين من تهميش وحرمان، ثم “صمت حقول الشمندر” (1998) الذي يكشف القناع عن ممارسات غير إنسانية وعنصرية مورست ضد شاب يعمل في القطاع الزراعي بحقول باريس.

كما أثمرت تجربته أيضا فيلم “ها نحن يا جنرال” (1997) الذي يتحدث عن مأساة قدماء المحاربين، وفيلم “عبور الباب السابع”، و”ورزازات موفي” (1998)، و”الهاربون” و”تراث معلق” و”في الطريق المسرح”.

بهذا يكون فيلم “قبل زحف الظلام” سيرا سينمائيا وثائقيا جديدا يكرس رؤية علي الصافي الإخراجية المتميزة، والتزامه الصادق والنبيل، ليكون دائما قريبا من هموم الواقع والمجتمع، وليكون الوثائقي بالنسبة إليه مُعالجة خلّاقة للواقع بطريقة إبداعية فيها الكثير من الحلم والرؤية والشاعرية.