قصة حب سورية

عامر وطفلته

أمير العمري

كان الحظ حليف المخرج البريطاني شون ماكالستر، عندما ذهب إلى سوريا قبل ثمانية عشر شهرًا من اندلاع الثورة السورية في 2011، وقد ذهب إلى هناك مدفوعًا بحسه الشخصي، باحثًا عن موضوع سياسي يكشف الستار عما يجري في ذلك البلد الغامض المغلق، يكفل اقتناص مادة لفيلم تسجيلي جيد يكشف ما خفي تحت الطبقات الكثيفة من الواقع السياسي السوري. 
عندما عثر ماكالستر على أول الخيط لفيلمه، لم يكن مدخله إلى القصة ما وقع في تلك الفترة، بل نموذج إنساني يمكن أن يثير اهتمام الجمهور في الغرب، وهو الجمهور الذي يتوجه إليه ماكالستر بأفلامه العديدة التي بدأ إخراجها منذ ما يقرب من ثلاثين عامًا ومن بينها عدد ملموس من الأفلام التي صورها في العالم العربي، ربما يكون من أشهرها فيلم “الثوري المتردد” The Reluctant Revolutionary الذي صوره في اليمن عام 2012.

في بداية الفيلم يظهر ماكالستر وسط مجموعة من السياح في زيارة إلى مدينة تدمر التاريخية، لكنه لا يكف عن طرح الأسئلة الصعبة التي يجفل منها الكثيرون من أبناء البلد، فهو يبحث عن موضوع يمكنه أن يساهم في إزاحة النقاب عما يحدث في سوريا من تجاوزات في المعتقلات، فهو يرغب تحديدًا في الوصول إلى معتقل تدمر الرهيب الذي كان يعلم مسبقا أنه يأوي آلاف المعتقلين السياسيين، كثير منهم يقبعون داخل الأقبية المظلمة من عهد الرئيس حافظ الأسد. لكن ماكالستر جوبه بصمت بل بإعراض ورفض السوريين الذين أراد أن يطلع منهم على شئ عن ذلك المعتقل. وفي دمشق يلتقي مصادفة ذات ليلة بـ”عامر داود” الذي سيصبح بطل فيلمه ومدخله إلى الموضوع الأكبر الذي سيتداعى بالضرورة بعد ذلك. 

عامر فلسطيني، ذو ماض سياسي يرتبط بقضيته ولكن ربما كان هذا كافيًا لاعتقاله، فقد قضى فترة في المعتقل، وهو متزوج من سيدة سورية هي “رغدة”، أنجبت له ثلاثة أولاد.. ولدت قصة الحب بينهما قبل خمسة عشر عاما داخل المعتقل حيث التقيا وكانا يتخاطبان مع بعضهما البعض عبر كوة صغيرة تفصل بين زنزانتهما. خرج الاثنان من السجن وتزوجا، لكن رغدة وهي ناشطة سياسية تطالب بالديمقراطية والحريات، عادت لتكتب كتابًا تروي فيه عن تجربة الاعتقال وعن قصة الحب التي نشأت وراء القضبان بين سجينين، فكان أن اعتقلت مجددًا وعادت وراء القضبان تاركة أولادها الثلاثة لزوجها الحائر الذي لا يستطيع أن يتوقف لحظة واحدة عن التفكير فيها والتعبير عن حبه الكبير لها.

 

مخرج الفيلم وكاتبه "ماكالستر"

ماكالستر وجد في داود مدخله إلى موضوعه، وداود وجد في ماكالستر وسيلة يمكن أن تساعد في الضغط على السلطات لإطلاق سراح زوجته وأم أبنائه، فهو مخرج معروف يعمل لحساب بي بي سي وغيرها من المؤسسات الإعلامية في الغرب.
عبر خمس سنوات (2011- 2015) هي الفترة التي كرس خلالها ماكالستر نفسه لمتابعة قصة داود ورغدة، ينتقل الفيلم من الخاص إلى العام، من الأسرة إلى المجتمع الكبير، ومن الحب والسجن وذكريات الماضي، إلى عذابات المنفى وقسوة العيش في المهجر والشعور بالحنين إلى الوطن، وكيف تنعكس كل هذه الظروف والأجواء بشدة على العلاقة بين عامر ورغدة، وبينهما وبين أبنائهما، وتحدث في النهاية شرخًا ربما لن يكون ممكنًا أن يعالج.

يعتبر هذا الفيلم الذي أطلق عليه مخرجه “قصة حب سورية” A Syrian Love Story، مغامرة سينمائية حقيقية، فمخرجه ومؤلفه ومصوره في آن، بدأ تصويره مع عامر في منزله في دمشق ثم في طرطوس، مع أولاده الثلاثة ثم مع زوجته، وتابع الرحلة الطويلة الشاقة التي خاضتها الأسرة، دون أن يكون لديه سيناريو واضح محدد المعالم، ودون أن يكون قد توقع أصلا الحدث السياسي الأكبر الذي سيقع بعد قليل، أي الثورة السورية وما أدت إليه. وهو يترك لنفسه حرية متابعة أدق تفاصيل حياة هذه الأسرة بل وأكثر اللحظات حميمية وتعبيرا بالحب واللوم والرفض والغضب، وكان يصورهم وهم يعدون الطعام ويأكلون ثم يسترخون ويتخاطبون، ثم وهم يتشاجرون ويعبرون عن اليأس من الوضع القائم، مصورًا حالة العزلة التي لا تختلف كثيرًا عن حالة السجن، وكان يصورهم حتى أثناء نومهم، يرصد مشاعرهم وانفعالاتهم بعد خروج رغدة من المعتقل ضمن الافراج عن مجموعة من المعتقلين السياسيين تحت ضغط المظاهرات التي اندلعت في 2011 ودفعت نظام بشار الأسد لتقديم بعض التنازلات الطفيفة التي لم تجدي نفعًا. ماكالستر إذن، يبدأ فيلمه دون خطة واضحة، لكنه وهو المخرج المتمرس، يمضي لكي يعثر على سياق قصصي ثم يقبض بقوة على شخصياته، يتابعها خلال سنوات، يتوقف أولا أمام الانفجار الكبير الذي يأتي مع اندلاع الثورة السورية في عموم البلاد، ليجد ماكالستر فرصة ذهبية لاقتناص مادة شديدة الحيوية والقوة، لكنه سرعان ما يتعرض هو نفسه للاعتقال لمدة خمسة أيام، تصادر السلطات الكاميرا التي كان يحملها وبعض المواد التي صورها، ويصبح بالتالي كلا من عامر ورغدة مهددين بعد أن انكشف أنهما كانا يتحدثان بحرية إلى “الأجنبي”. يختفي عاكر بأبنائه أولا داخل معسكر اليرموك الفلسطيني، ثم بعد خروج ماكالستر من السجن، ومغادرة رغدة المعتقل يفر الجميع إلى لبنان هربا من الاعتقال مجددًا.

أبناء عامر ورغدة

في طرابلس، يتابع ماكالستر الزوجين وخاصة رغدة التي تبدو وقد تأثرت بشدة بمحنة السجن.. لدرجة أنها أصبحت عاجزة عن رواية ما تعرضت له في المعتقل، ابتعدت عن زوجها عامر الذي لم يستطع أن يقبل هذا التحول وظل يعبر بقوة عن رفضه ويعلن سخطه على رغدة نفسها يطالبها بأن تعود إلى ما كانت عليه من قبل وهو ما يبدو قد أصبح مستحيلاً. إنه لا يفتأ يشكو من افتقاده لحبها الذي كان، ثم ينقلب ابنه الأكبر عليه أيضا فيرفض الثورة ويتهم الفلسطينيين بالعمل لحساب النظام في المعتقلات، بينما يعرب الابن الثاني عن غضبه الشديد من بشار الأسد متهما إياه بذبح الشعب السوري. ومع تفاقم الخلافات بين عامر ورغدة تهجر رغدة البيت لتعود إلى سوريا بغرض الانضمام الى حركة المقاومة ضد النظام، وهي الصدمة التي تترك تأثيرها بقوة على عامر. وفي الفصل التالي ننتقل إلى عام 2013 حينما تعود رغدة وتنجح الأسرة في الحصول على تأشيرة للجوء إلى فرنسا. 

حصول الأسرة على تأشيرة اللجوء إلى فرنسا

في فرنسا يتابع ماكالستر تطورات العلاقة بين أفراد الأسرة. لقد أصبح ما يركز عليه الفيلم الآن هو كيف ينعكس دمار سوريا، على أحوال الأسرة نفسها. الطفل الصغير “بوب” الذي كان في البداية في الرابعة من عمره، كبر الآن عدة سنوات، ثم أصبح أيضا يعبر بشكل مدهش عن رغبته في الحصول على سكين كبير ليمضي ويذبح بشار الأسد الذي أصبح يراه سببًا لكل المشاكل التي وقعت بين والديه. أما عامر فهو مازال يلوم رغدة على تركها لهم وعودتها من لبنان إلى سوريا في الوقت الذي كان يحتاجها إلى جواره بشدة، كما يشكو من غياب حبها له. أما هي فتقول إنها لم تعد تعرف بالضبط ماذا تريد. وإنه إذا أراد فيمكنه أن يمضي ليقيم علاقة مع من يشاء. وهو بالفعل يقيم علاقة مع امرأة أخرى رغم حبه الواضح لرغدة. وفي 2015 تذهب رغدة إلى تركيا لتلتحق بالعمل كمستشارة إعلامية مع حكومة المعارضة السورية لكنها تقول إنه مازال بداخلها الكثير من الاسئلة التي تبحث عن إجابات لها.

رغدة حسن

المادة المصورة رغم سذاجة الكثير منها وعفويته، ورغم عدم إجادة شخصيات الفيلم التعبير باللغة الانجليزية التي فرضت نفسها على مجمل الحوارات بسبب طبيعة الفيلم وتوجهه، إلا أن اقتراب ماكالستر ومتابعته الحميمية لشخصيات فيلمه عبر سنوات دون كلل، تجعل من الفيلم عملا شديد التأثير، بلمحاته الإنسانية التي تعكس في رصانة، بعيدًا عن الخطابة أو المباشرة، المأساة الإنسانية المستمرة في سوريا. ولا يتوقف ماكالستر عند هجرة أبطاله إلى عالم آخر في فرنسا، عالم أكثر أمانا يتيح أمام أطفال الأسرة الثلاثة مستقبلاً مأمولاً، بل يواصل البحث ومتابعة الشخصيات بعد وقوع ذلك الانفصال بين عامر ورغدة، كما ينجح في مزج ما يصوره من تطورات على المستوى الأسري، بالمواد المصورة (غالبًا بكاميرا الهاتف المحمول) للمظاهرات، ومشاهد دمار المدن، وعمليات القمع الرهيبة من جانب النظام للمعتقلين، وهي مشاهد شاهدنا مثيلاً لها كثيرًا فيما بعد في أفلام تسجيلية أخرى عن الثورة السورية.

ولعل نجاح ماكالستر في الاستمرار في التصوير حتى بعد مصادرة الكاميرا التي كان يستخدمها، بعد أن اشترى كاميرا أخرى في دمشق وكان يستعين بصديقين لإخفاء المادة التي كان يقوم بتخزينها على شريحتين للتخزين الرقمي، ويقوم بتقسيمها على جهازي كومبيوتر محمول، تمثل في حد ذاتها تجربة مثيرة في قدرة الفيلم الوثائقي على تجاوز العقبات المادية على أرض الوا��ع، واقتناص الوثيقة وقت وقوع الأحداث دون الاعتماد كثيرًا على مواد الأرشيف.
أما عنوان الفيلم “قصة حب سورية”، فهو تعبير رمزي حزين عن ذلك الحب الذي كان ثم تم تدميره واغتياله بعد ما وقع من تدمير نفسي للإنسان نفسه، وكيف يترك القمع بمستوياته وأشكاله المتعددة، تأثيره المدمر على العلاقة بين المحبين.