“قضية بورنيو”.. انتصار للغابات المطيرة!

قيس قاسم

شدة ارتباط قضية اختفاء الناشط البيئي والمدافع عن حقوق الإنسان السويسري الأصل “برونو مانسر”، في مقاطعة “ساراواك” الماليزية بـ”قضية بورنيو” المتعلقة بفضائح تجارة بيع أخشاب غابات جزيرة “بورنيو” البِكر وتهجير سكانها الأصليين وحرمانهم من بيئتهم الطبيعية فرضت نفسها على كتابة نص الوثائقي السويدي The Borneo Case وأَملَت على مخرجه خارطة عمل كان عليه السير وفقها حتى يستطيع جمع خيوط قضية لعبت وساهمت بها أطراف كثيرة حتى أضحت واحدة من القضايا النادرة، التي استطاعت فيها مجموعة صغيرة من النشطاء البيئيين والمدافعين عن حقوق سكان الغابات المطيرة فضح فساد ساسة كبار تورطوا في أعمال لها صلة بمصالح مالية عالمية. متابعة ما حققه معارضون شجعان من السكان الأصليين فرضت على الوثائقي السير في دروب طويلة وخطيرة وأحيانًا العمل بالسر في أكثر من قارة ومكان، ليكتب في النهاية قصة نجاح قضية عادلة بدت في أوقات كثيرة أن العمل عليها غير مجدٍ بعد موت أحد أبرز محركيها واغتراب آخرين مقربين منه في بلاد بعيدة لعقود من الزمن.

بدا في الدقائق الأولى من الوثائقي وكأن المخرج “إريك باوسر” ومساعده “ديلان ويليمز” يركزان على مصير أفراد من سكان الغابات المطيرة الماليزية ارتبطوا بالناشط السويسري، فذهبا لعرض مقاطع من أشرطة قديمة تعطي لمحة عن نشاطهم وقوة الصداقة التي جمعت “برونو” بالمواطن “موتانغ أورود” ووقوفهما سوية في وجه الفساد والتخريب المتعمد للبيئة والعمل المنظم لإنهاء آخر سلالة من القبائل الرحل داخلها. نظموا مع آخرين حملات دعائية وقابلوا سياسيين وممثلي منظمات عالمية، عرفوهم خلالها بحقائق تتعلق بعمليات قلع الأشجار وبيع أخشابها لمصالح بعض “متحضرين” يدَعوّن أنهم جاؤوا بتكليف من الدولة لتعمير حواضر فوقها. تحريض السكان ضد إجراءات حكومة المقاطعة الكبيرة المساحة (تتجاوز مساحة بعض الدول الأوربية) أخاف حكامها فقرروا التخلص منهم وإسكاتهم. في عام 2000 غاب فجأة الناشط السويسري ولم يعثر له على أثر فيما اعتقل زميله الماليزي في زنزانة انفرادية لسنوات، عذب فيها وبعد خروجه منها أُجبر على الرحيل من وطنه. سيقترح صانعه أكثر من متابعة ما قاموا به في الماضي ويقرر السير وفق تصاعد الأحداث اللاحقة لا حسب ما هو مكتوب على الورق، مجازفًا بالوصول إلى نهايات مفتوحة ربما لن تأتي مرضية لطموحه، لكنها وفي كل الأحوال تسلط الضوء على حدث أو قضية جديرة بلفت نظر العالم نحوها ومن هنا يُفهم سبب إحاطة عمليات “التحري” بقصص جانبية، حالفه الحظ في أنها جاءت في الختام  لصالح ما كان ينشده وقضى أكثر من ست سنوات في العمل عليه في ظروف غاية في الصعوبة وفي تنقلات اختصار أزمنتها على الشاشة يحتاج إلى رؤية إخراجية واضحة ومَنتَجَة صبورة توازن وتقنع المُشاهد بضرورتها.

وجوده في كندا لخص حياة لاجيء جاء من غابات ماليزية استوائية ووجد نفسه فجأة وسط الثلوج. هناك كوَّن “موتانغ” أسرة طيبة وظل يتابع أخبار وطنه الأم عبر إذاعة “حرية ساراواك”. خط اتصاله الوحيد بوطنه ومعرفة ما يجري هناك داخل غاباته، إلى جانب متابعتها حرص على الإمساك بقوة بجذوره وتغذية أولاده بتاريخ البلاد التي جاء منها. كان شديد القناعة بضرورة كتابة تاريخ وموروث سكان الغابات الأصليين. على هذا الجانب كان يعمل في منفاه ويكرس له الوقت الكثير. “الإذاعة” ستكون واحدة من شخصيات الوثائقي الحاد النظرة وعنها سيجري البحث ثم الرحيل إلى مدينة لندن للتعرف عليها. في شقة صغيرة كانت تجري عملية إعداد المواد الصحفية والأخبار. على قلة أوقات بثها وصغر حجمها تحولت إلى رابط بين العالم وسكان الغابات، يعرفون من خلالها ماذا يجري حولهم. صارت الإذاعة مصدرًا حيويًا للتواصل والتفاعل وصوتًا للذين لا يُسمع صوتهم في صراع أريد له أن يكون صامتًا! من بين كاسريه؛ الناشطة البريطانية “كلارا روكاستيل” والماليزي “بيتر جون جابان”. سيكون لهما دور كبير في حسم “قضية بورنيو” وسكانها الطيبين. ولفعالية “الراديو” كان لا بد من التعامل معه وكل ما يحيطه كـ “شخصية” مركزية ستلعب دورًا مهمًا في تحقيق طابعه الاستقصائي ومنه سيلازم الوثائقي رحلة عودة الناشطين إلى مواقع التصادم اللاحقة. في كل مرحلة من زمن الوثائقي يزداد تفاعل متابعه مع أسلوب سرده الديناميكي ويشعره بأن البدايات لم تكن أكثر من مجرد تمهيد مريح لرحلة أكثر تعقيدًا ومشقة فيها منعطفات حادة وانحرافات غير متوقعة ومقابلة شخصيات ستُغير مسار القضية برمتها.

سيلعب اسم “لوكاش سترومان” الذي تولى إدارة “صندوق دعم برونو مانسر” لسكان الغابات الماليزية الأصليين، بعد موته دورًا مهمًا في القضية، وسيُكرس خبرته الحقوقية لملاحقة وفضح أسماء كبيرة تورطت في عمليات فساد وغسيل أموال بيع الغابات الطبيعية. سيوصله بحثه بالتعاون مع “الراديو” إلى اسم كبير طالما ظل بعيدًا عن الشبهات لكنه في الواقع كان العقل المدبر لتدمير الغابات وتحويل ثرواتها إلى أموال خاصة له ولأقربائه. إنه رئيس وزراء إقليم “ساراواك” الماليزي؛ “تايب محمد”. سيرفع وجوده من حيوية السرد وتصعيده ويضفي على الوثائقي طابع “المعاندة”. راح المحامي السويسري يجمع أكبر قدر من المعطيات والوثائق، التي تثبت استغلاله منصبه الحكومي لأغراض شخصية وتحويل موارد أخشاب الأشجار المقطوعة من جذورها الممتدة في الأرض طيلة ملايين السنين، إلى حسابات شخصية في البنوك العالمية وبغطاء قانوني شديد الحرص على إخفاء وجوده من الصورة. ومثل أي لص كبير أخطأ وفتح ثغرات استطاع فريق التقصي الذاتي من الوصول إلى خيوط تربط بين امتلاك أقاربه ثروات وعقارات ضخمة في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وحساباتهم في بنوك عالمية تقدر بالمليارات وبين مركزه السياسي. 

من أين جاؤوا بالأموال الهائلة؟ من هذا السؤال سيمضي الوثائقي في كشف المستور ويطالب بمقابلة أصحاب بنوك عالمية ومدراء شركات استثمارية بعضهم سرب أسماء ساعدت في توصل التحقيقات إلى نتائج طيبة، بهدف تجنب الحاق أذى بسمعتهم مباشرة. من بين هؤلاء كان مستشاره المالي والحقوقي الأمريكي الأسبق؛ “روس بوت”. بعد سنوات من خدمته اختلف معه وترك العمل لكنه لم يهمل أو يتلف أي وثيقة لها صلة بشغله، حرصًا منه على استخدامها عند الضرورة. تسليمه بعضًا منها إلى الناشطين ومدير صندوق الدعم سيحدث تغييرًا كبيرًا في البحث وستلعب الناشطة الإذاعية دورًا مهمًا في فتح نوافذ على الخارج عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ما كشفته من معلومات تتعلق بتاريخ رئيس وزراء الإقليم وصلته بعمليات بيع الأخشاب أرعبته، فقرر استخدام نفوذه السياسي لإسكات صوت الراديو وإيصال رسائل تهديد مباشرة لها، ما اضطرها للاختفاء فترة من الزمن استغلها الوثائقي لملاحقة نشاط السويسري وعرض استراتيجيته الجديدة التي انضم إليها المنفي الكندي ليشكلوا سوية فريق عمل قوي لم يطمح في أول الأمر أكثر من زعزعة السمعة الحسنة المزيفة للفاسدين ولكن ما توصلوا إليه من نتائج شجعهم للمضي في عملهم والوصول إلى مدراء بنوك بدأوا بالتراجع عن صمتهم عبر إلصاق السوء فقط بالجهة المتعاملة معهم وليس بوصفهم شركاء متسترين.

سيرتفع مستوى التحدي حين تشرع حكومة الإقليم بتنفيذ مشروع بناء 10 سدود مائية لتوفير الطاقة وتسريع عمليات نقل الأخشاب على حساب إغراق المنطقة البرية بأكملها وتهجير سكانها. انتقال الفريق إلى “بورنيو” سيفرض نفسه على الوثائقي ويجره إلى مغامرات “أكشن” أعطته طعمًا خاصًا وحرارة لا تتوفر في كل الأفلام الاستقصائية الرزنة. فالشرطة وأجهزة الحكومة فعلت المستحيل لمنع وصولهم إلى مواقع بناء السدود لكنهم فشلوا ونقل الوثائقي والراديو أخبار الاحتجاجات الجماهيرية وصور عملية التخريب الهائلة للطبيعة. وسط كل ذلك الشد والتوتر وفر الوثائقي لنفسه وقتًا ليرافق “موتانغ” في رحلته إلى بيت أهله وإلى أمكنته الأولى، التي عاش وترعرع فيها. جمال الأمكنة قبل وصول السدود إليها يبهر ويثير الغضب على من يريد موتها. مزجه بين عالمه الأول الفطري وبين ما يجري على مبعدة منه وَلَّد صدمة وإحساسًا بقوة الجريمة المرتكبة هناك دون علم العالم بها. حملات الدعاية في الخارج ودخول كبريات الصحف الأمريكية والغربية على خط القضية دفع رئيس وزراء الإقليم إلى التنحي من مركزه في خطوة لم يصدق أحد أنها ستحدث يومًا. وريثه سيُجبر هو الآخر على التراجع عن بناء السدود المتبقية ويعلن عن منع بيع الأخشاب لا بل تحريم قطعها ما شكل نصرًا للطبيعة ولسكانها المسالمين ولمجموعة صغيرة من نشطاء أسقطوا حكومة فاسدة ومنعوا موت غابات مطيرة بالكامل. “قضية بورنيو” عمل أكثر من رائع، بإحاطته بظروفها وملاحقته لتفاصيلها والمساهمة في عرضها وإبراز الإيجابي فيها بوصفها قضية استثنائية تقول الكثير من العِبر والدروس لبقية المطالبين بحقوقهم!