“قطعة حلوى”..وثائقي يرصد شهادات النخبة المعتقلة

قبل أيام اعتقلت قوات الأمن السورية نحو أربعين فناناً ومثقفاً خلال مشاركتهم بمظاهرة في حي الميدان الدمشقي، من بينهم المخرج السينمائي “نضال حسن”، والممثلة “مي سكاف” والكتاب: “إياد شوربجي”، و”يم مشهدي”، و”ريما فليحان”، والقائمة تطول… وتلك المظاهرة هي واحدة من المظاهرات التي تشهدها معظم المدن والبلدات السورية منذ الخامس عشر من آذار/ مارس الماضي، والتي يطالب المشاركون فيها إما بالحرية أو بإسقاط النظام.
 ومسألة الاعتقال هذه تحيلنا إلى فيلم وثائقي سوري بعنوان “قطعة حلوى”، أخرجته هالة محمد وأنتجته وعرضته قناة الجزيرة قبل نحو خمسة أعوام ضمن السلسلة الوثائقية التي تقوم بعرضها بين فترة وأخرى تحت عنوان “أدب السجون”.
 والمهم في هذا الفيلم أنه يقتحم منطقة كانت تعتبر قبل سنوات محرّمة في سورية، وهي السجن السياسي؛ وإن كان المخرج السوري “محمد ملص” السبّاق في ذلك عندما أخرج فيلم “فوق الرمل تحت الشمس” عام تسعة وتسعين وتسعمئة وألف.
 في “فيلم قطعة حلوى” نحن أمام ثلاثة من المعتقلين السياسيين اليساريين السابقين في السجون السورية، وهم الممثل المعروف “عبد الحكيم قطيفان” والكاتبة “حسيبة عبد الرحمن” صاحبة رواية “الشرنقة”، والمجموعة القصصية “سقط سهوا”، وناشط سياسي آخر هو “عدنان مقداد”.
كل منهم يروي شهادته، كيف تم اعتقاله وكيف قضى فترة السجن، وكيف أثرت هذه التجربة على مصيره في مرحلة ما بعد السجن، بل وكيف حولته إلى شخص مختلف تماماً عما كان عليه قبل الاعتقال، فالممثل “عبد الحكيم قطيفان” مثلاً خرج من السجن خال من أي حلم، لا لأن كل أحلامه تحققت بل بالعكس لأن السجن أفقده الحلم، مثلما أفقده الإحساس بالأمان.

الكاتبة “حسيبة عبد الرحمن”

 وإذا كان هذا حال “قطيفان” فإن الوضع أشد مأساوية مع الكاتبة “حسيبة عبد الرحمن”، التي تقول إن السجن دمر حياتها، فهي أصبحت “سجينة سياسية سابقة”، وبالتالي لم يعد بإمكانها الحصول على عمل لا في القطاع الخاص ولا في القطاع العام، وفق القوانين والأحكام والأعراف السورية، فصاحب العمل الخاص يخشى من أجهزة المخابرات إن وظف لديه سجينة سياسية سابق، أما القطاع العام، أو قطاع الدولة، فمن المستحيل الحصول على عمل فيه دون واسطة من مسؤول كبير في الدولة، سواء ضابط أمن كبير أو ضابط في الحرس الجمهوري أو وزير، بل حتى واسطة الوزير لا تقبل ما لم تكن هناك موافقة على التوظيف من قبل الجهات الأمنية، وهو ما لا يمكن الحصول عليه كونها كانت سجينة سياسية سابقة؛ وبالتالي بقيت الكاتبة دون عمل، وهذا يعني دون مأوى، وربما دون طعام.
من الأشياء الملفتة للانتباه التي تتحدث عنها الكاتبة هو حديثها عن سبب اعتقالها، وهو نفسه سبب اعتقال جميع هؤلاء الشباب، إنهم لم يحملوا سلاحاً ضد السلطة.
كل ما كان لديهم هو الأحلام، ولو أنهم في بلد ديمقراطي يحترم حقوق الإنسان وحرية التفكير والمعتقد والانتماء لكانوا أخذوا على أنهم أولاد، وتمت معاملتهم بطريقة مختلفة عن الزج في السجن والتعذيب.
.. لقد ذهبت إلى غير رجعة أجمل سنين حياتهم وشبابهم، ليخرجوا من السجن وقد أصبحوا مشوهين من الداخل.
 لا تتهيب الكاتبة من الدخول إلى ما يشبه جلد الذات عندما تقول “إننا نحن أنفسنا كنخب ثقافية وفكرية غير ديمقراطيين”، فإنعدام الديمقراطية ليس فقط لدى السلطة الحاكمة وإنما أيضا لدى النخب الثقافية والفكرية، والتي ينتمي الجزء الأكبر منها إلى المعارضة.
لم تكن شهادة “عدنان مقداد” في الفيلم أقل صدمة للمشاهد، خصوصاً حديثه عن أبيه، ففي كل زيارة لأبيه إلى السجن كان يشد من أزره ويقوي من عزيمته ومعنوياته ويطلب منه أن لا يستسلم أو يوقع معلناً التوبة، لكن سرعان ما نكتشف في مشهد لاحق، كم كان أبوه يتألم على غياب ابنه في السجن؛ حيث يروي “عدنان” أنه عندما خرج من السجن كان أبوه قد أصبح في عداد الموتى، وعندما ذهب لزيارة قبره برفقة عمته ركضت العمة إلى القبر وبدأت تدور حوله وهي تقول له هاهو “عدنان” قد خرج من السجن، مما يعبر عن درجة الألم، ومدى القهر الذي كان يعيشه هذا الأب على غياب ابنه في السجن؛ وأن كل أحلامه التي أرادها أن تتحقق قبل أن يموت كانت مقتصرة على حلم واحد وهو رؤية ابنه وقد خرج من السجن.

الممثل السوري “عبد الحكيم قطيفان”

من المفارقات الطريفة التي يرويها عدنان أنه اعتاد كأي سجين آخر أن يستخدم حذائه كمخدة عند النوم، حاله في ذلك حال جميع هؤلاء المساجين، وعندما أبلغ بضرورة الاستعداد لمغادرة السجن بعد صدور قرار إطلاق سراحه، حاول انتعال الحذاء، لكن لم يستطع لأن الحذاء أصبح مضغوطاً ويصعب إعادته إلى وضعه الطبيعي.
نفذت “هالة محمد” فيلمها هذا بحرفية فنية عالية تجلت في استخدام الغناء، وهو غناء “نعمة عمران” صاحبة الصوت الأوبرالي والتي اقتصر غنائها على جملة لحنية واحدة وهي عبارة عن آهة قوية مجلجلة تعكس مأساة هؤلاء المساجين وتعبر عنها؛ كذلك تجلت في المونتاج، فمشاهد المعتقلين الثلاثة وشهاداتهم تتخللها صور لأسوار بعض السجون في سوريا ومنها سجن القلعة الشهير في دمشق والذي يعود إلى أزمنة قديمة، وكأن شيئاً لم يتغير منذ غابر الأزمان من حيث معاملة السجناء.
 كما اقتصرت المخرجة على مكانين يتم فيهما سرد الحكايات، الأول يبدو أنه مطعم صغير أو بالأحرى ركن في مطعم صغير، يتخلل الكادر مرآة تعكس ناراً مشتعلة وكأنها النار التي كانت متقدة داخل هؤلاء الثلاثة، مثلما تعكس صورة “عدنان” الذي يجلس قبالتها وهو يروي حكايته؛ أما بالنسبة لشهادة الكاتبة فقد كانت من داخل منزلها الصغير والفقير الذي تعيش فيه، وهنا كان للمونتاج والمكساج دورا كبير في الانتقال من سرد الشخصيات في الداخل إلى الخارج حيث أسوار السجون والمزج مع الغناء والموسيقى.
اقتصر الفيلم على شهادات هؤلاء الثلاثة ولم يكن يتضمن تعليقاً أو سرداً؛ وهو ما يعطي قوة تعبيرية أكبر للصورة وللغة الكاميرا وللغة البصرية عموماً.