“كريب كامب”.. المخيم الذي أشعل ثورة المعاقين الأمريكيين

عبد الكريم قادري

أعاد الفيلم الوثائقي الأمريكي “كريب كامب” (Crip Camp) الذي أنتج عام 2019؛ النقاش حول الحقوق المدنية لذوي الاحتياجات الخاصة أثناء عرضه أول مرة بمهرجان صندانس السينمائي الذي انعقدت دورته من 23 يناير/كانون الثاني إلى 2 فبراير/ شباط من السنة الجارية، وقد تزامن مع الذكرى الثلاثين لتوقيع قانون الأمريكيين المعاقين (ADA)، الذي أثار وقتها جدلا واسعا بعد نضال استمر لأكثر من عشرين سنة كاملة من قبل مجموعة من المعاقين تتزعمهم المناضلة “جودي هيومان”.

وقد لفت هذا الفيلم النظر من جديد لهذه الفئة التي تجد صعوبة كبيرة في التأقلم في مجتمعاتها، نظرا لقلة الاندماج وعدم تساوي الفرص ونظرة الاستصغار التي يرونهم بها، وقد أنتج الفيلم الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما وزوجته ميشال اللذان سبق أن أنتجا أيضا الفيلم الوثائقي “المصنع الأمريكي” للمخرجين ستيفن بوجنار وجوليا رايشرت، والذي حصل على جائزة أوسكار أحسن فيلم وثائقي في آخر دورة.

ويأتي فيلم “كريب كامب” للمخرجيْن جيمس ليبريشت ونيكول نيونهام الذي حصد جائزة الجمهور بمهرجان صندانس ليؤكد النظرة المستشرفة للرئيس أوباما في عملية اختياره لمواضيع الأفلام الوثائقية التي يدعمها، خاصة بعد النجاح الكبير الذي تناله بعد عرضها في قاعات السينما أو المهرجانات، وعلى منصات العرض مثل “نتفليكس” التي تقوم بتوزيع هذا الفيلم.

كما يثبت الفيلم بأن الأعمال التي تظهر أحلام وكوابيس فئات المجتمع الهشة للعالم هي الأكثر حساسية وقبولا لدى المتلقي الذي يشكل من خلالها إحاطة شاملة، ويقف على مشاكلهم وآهاتهم المغيّبة عليه، ويقترب منها أكثر بدل النظر لها من بعيد، وهذا ما يعكس مدى نجاحها وتقبلها لدى الجمهور.

 

“أشبه بمدينة فاضلة”.. جو التنصل من نظرات المجتمع المزدرية

اتفقت في بداية السبعينيات من القرن الماضي مجموعة من الأفراد ممن يعتنقون المذهب الوجودي على تنظيم مخيم لذوي الاحتياجات الخاصة، وقد نجحوا بعد نشر الإعلان في جمع العشرات منهم في مخيم “كريب كامب” الذي يبعد عن نيويورك مسيرة ثلاث ساعات بالحافلة، وهو فضاء حر يقع وسط غابة غنية بالخضرة والهواء النقي.

وبعد وصول المعنيين جرى تنظيم المهاجع وتوزيعهم على أقسام مختلفة خاصة بالنساء والرجال والقاصرين، وكان المنظمون يسهرون على راحتهم طوال وجودهم في هذا المخيم الصيفي، وقد تفاوتت نسب الإعاقة بين كل فرد منهم، فهناك من ولد بها أو اكتسبها من خلال حادث ما، وقد استطاع هذا الفضاء أن يجعلهم متساوين بعد أن تنصلوا من نظرات المجتمع الذي زرع فيهم النقص ونبذهم بطريقة أو بأخرى، وتسبب لهم بالعديد من الأمراض النفسية التي لازمتهم منذ الصغر.

تغلب هؤلاء في” كريب كامب” على الإحساس الذي لازمهم، لأن كل فرد منهم لديه مشكلة وإعاقة يعاني منها ولا يستطيع أن يتعالى على الآخر، كل واحد يحس بجرح من معه، وبعد أيام من الإقامة في المخيم، تعرفوا على بعضهم بدرجة كبيرة وسقطت كل التحفظات، وبدأ كل فرد يطرح أحلامه وكوابيسه، فكانوا يقدمون وجهة نظرهم للمجتمع، وأكثر من هذا أطلقوا العنان لتصرفاتهم بعيدا على كل التحفظات التي زرعها فيهم المجتمع الذي جاءوا منه، لهذا أقاموا الحفلات ورقصوا على أنغام الموسيقى، ومارسوا أصناف الرياضات كالسباحة والغولف بكل أريحية وبدون أي عقدة من الفشل.

وقد وثّق المشرفون على هذا المخيم هذه الأحداث التي عرضت في الفيلم من خلال جلسات جماعية، يعطون الكلمة لكل فرد من خلال طرح قضايا معينة مثل علاقة كل منهم عائلته ومجتمعه، وقد تنوعت الإجابات من فرد لآخر، إذ هناك من يقول بأنه لا يحب الاهتمام الزائد من والديه، وهناك من يعلن عن تخوفه من أن يصبح عالة عليهم، وهناك من يعلن عن كرههم لأنهم يبالغون في الاعتناء به.

على العموم حقّق المخيم نجاحا باهرا إلى درجة أنهم في آخر يوم لم يستطيعوا النوم، وأكثر من هذا أنهم دخلوا في موجة من البكاء، لأنهم وجدوا ذواتهم وعرفوا بأنهم يستطيعون تحقيق أشياء كثيرة في حياتهم، ومن بين أجمل التوصيفات التي عكست أهمية “كريب كامب” لهؤلاء ما قالته إحداهن: المخيم أشبه بمدينة فاضلة، حين كنا فيه لم نشعر بالعالم الخارجي.

صورة تجمع مخرجي الفيلم مع المناضلة الكبيرة “جودي هيومان” و”جيمس لبريشت” اللذين عادا إلى المخيم بعد نصف قرن

 

إقرار قانون المعاقين.. حين رفرفت أحلام المعاق عاليا

شكّل “كريب كامب” انطلاقة ذهبية لكل فرد أقام فيه بعد أن شحنهم بالأمل وأكسب كل فرد منهم الثقة في النفس ليبدأ بعيش حياة مختلفة وجديدة، إلى درجة أن العديد ممن كانوا في هذا المخيم هم من قادوا النضال لإقرار قانون المعاقين الذي دافعوا عنه بقوة، وقد كانت البداية من خلال غلق أحد الطرق الرئيسية في مدينة سان فرانسيسكو، ليتطور الأمر أكثر ويتوسع النضال من أجل إقرار الحقوقية المدنية التي رفض الرئيس كارتر أن يوقع عليها بعد أن أقرها الكونغرس الأمريكي.

بعد ضغط الشارع وافق الرئيس عليها مرغما، بعد نضال مستميت من المعاقين الذين احتجوا أمام مبنى مديرية الرعاية الصحية بسان فرانسيسكو، بعدها سيطروا على الطابق الذي يقع فيه مكتب المدير الإقليمي للرعاية الصحية والاجتماعية، ليتطور الأمر إلى إضراب عن الطعام، واعتصام مفتوح، ليصل الأمر بعدها إلى العاصمة واشنطن، حيث احتجوا أمام بيت وزير الصحة كالفانو الذي فر من الباب الخلفي حتى لا يقابلهم، ثم اعتصموا بعدها أمام البيت الأبيض.

وقد سافرت مجموعة منهم لمقابلة الرئيس لكنه رفض مقابلتهم، وبعد أن توسعت دائرة الاهتمام الإعلامي ووصلت إلى القنوات الكبرى تغير الأمر، إضافة إلى مشاركة معطوبي الحرب معهم، ليقع إقرار القانون والعمل به، خاصة وأن سبب الرفض كان بأن كلفة تطبيق القانون ستكون باهظة، لكنه أقره أخيرا.

سيلزم هذا الإقرار إلى إعداد ممرات خاصة للمعاقين في المباني والمصاعد والمدارس والشوارع ووسائل النقل، وحتى المراحيض العمومية لتحسين حياتهم وتسهيلها، كما أقر هذا القانون أحقية المعاق في العمل والتوظيف والدراسة مثله مثل الشخص العادي، من هنا بدأت تتساوى الفرص، لكن بعض المشاكل لم تحل، لأن بعض الجهات كانت تعتبر هذا الأمر منّة عليهم.

قادت هذا النضال “جودي هيومان” والعديد من القادة الذين كانوا معا في “كريب كامب”، فباتوا ينظرون إليه على أنه التجربة الفريدة التي أثرت على حياتهم، حتى أنه بعد تصوير الفيلم الوثائقي عادوا إليه بعد مرور نصف قرن من التخييم، ووقفوا على تفاصيله والتغيرات التي حدثت له.

فريق عمل فيلم “كريب كامب”الذي عُرض لأول مرة في مهرجان صندانس السينمائي

 

“كريب كامب” بعد نصف قرن.. ثراء وتنوع في الأرشيف

يتميز الفيلم الوثائقي “كريب كامب” (106 دقائق) عن غيره من الأفلام بثراء وتنوع الوثيقة التي يعكسها الأرشيف السمعي البصري المستعمل فيه، حيث نقل معظم الأحداث التي وقعت في المخيم سنة 1971، إضافة إلى محطات النضال التي حدثت فيما بعد.

الأهم هو إشراك الفاعلين الأساسيين ممن كانوا فيه بفضل استخراج المعلومات المهمة عن طريق المقابلات التي اعتمد عليها الفيلم مع المرشدين الوجوديين والنزلاء المعاقين، مثل المناضلة الكبيرة “جودي هيومان” التي أصبحت تعمل في وزارة الخارجية الأمريكية فيما بعد، و”جيمس لبريشت” الذي كان في عامه الـ15 حين كان في المخيم، ليصبح فيما بعد مختصا في الصوتيات، و”نانسي” التي أصبحت كاتبة ولديها دراسات عليا، كل هذا بفضل الطاقة التي زرعها فيهم من كان في المخيم وقتها.

يقدم الفيلم هذه المعلومات التي توزعت على مدار نصف قرن من الزمن بتسلسل زمني لا يمكن للمشاهد أن يحس به، ويعود فضل هذا إلى الاهتمام بكل محطة وتأثيثها بوثائقها الخاصة والمهمة، إضافة إلى الطابع الإنساني الذي صُبغ به العمل، وهو نجاح كبير يعود بشكل أساسي إلى حس المخرجين “ستيفن بوجنار”، و”جوليا رايشرت” اللذين طوّعا هذه الفكرة وأكسباها بعدا إنسانيا وجماليا بعد أن استعارا من الفيلم الروائي طريقة البناء السردي والأسلوب القصصي، انطلاقا من وثائقية الفيلم وأهمية القضية التي تطرق لها، وهذا ما أعطاه قوة ودافعا أساسيا للانطلاق بالحلم نحو المتلقي.

سار الفيلم على عناصر مهمة سهّلت من عملية تتبع تفاصيله، وهي البداية والعرض في الفيلم، من هنا أصبح المتلقي ينتظر الخاتمة بشكل مشوق، أي يتطلع إلى نتائج هذا النضال، وما حققه هؤلاء على الصعيد الإنساني والحياتي، وهل سيصبحون قدوة لكل المعاقين في العالم، وهل سيشعرون بنضالهم وبالأماني والعقبات التي اجتازوها، وهنا يتساءل المتلقي هذه الأسئلة، خاصة أولئك الذين يعانون من نفس المشاكل التي عانى منها هؤلاء، ففيلم “كريب كامب” من الأفلام التي ستترك أثرا كبيرا في ذهن كل من يشاهده.