“كل الضوء في كل مكان”.. العالم تحت رحمة العدسات

عبد الكريم قادري

الجريمة هي من أكثر المشاكل الجوهرية التي تواجهها الولايات المتحدة الأمريكية حاليا، إذ تحوّلت شوارعها لحلبة عنف وقتل واغتصاب، لهذا ابتكرت السلطات الأمنية نظام مراقبة جوي للحد من هذا العنف والقضاء عليه في المهد، وفي الوقت نفسه زوّدت الشرطة بكاميرات غاية في الدقة والذكاء لتكون أداة إدانة للمشتبهين وحماية لحامليها. فما قصة هذا البرنامج الذكي، وما حكاية هذا الضوء المنتشر في كل مكان؟

 

بالتيمور.. الحرية الشخصية في مهبّ الريح

أضحت عدسات الكاميرا جزءا من حياة أي فرد في العالم، فهي داخل هواتفهم الجوّالة، وحواسيبهم الشخصية، والمتاجر التي يقصدونها، وفي البنوك والمستشفيات والشوارع والملاعب والمدارس والجامعات ومقرات العمل، وفي كل الأماكن والفضاءات الأخرى الظاهرة والمخفية التي لم يصرّح بها. لكن أن تصبح تلك العدسات في الفضاء الخارجي تراقب تحرّك العالم، فتلك هي المعضلة.

فهنا لم تعد هناك أي حرية شخصية أو فسحة حرية يمكن أن يحظى بها الفرد، خاصة سكان مدينة بالتيمور الأمريكية التي أعلنت عن طريق شرطتها إطلاق أول برنامج تجريبي لمراقبة الشارع من الجو من أجل ردع الجريمة والعنف سنة 2019، تمهيدا لتعميمه في كل الولايات الأمريكية، وبعدها ربما في دول العالم.

وقد بدأ العمل على نظام المراقبة هذا الذي يشبه إلى حد بعيد نظام “غوغل إيرث” منذ سنوات، لكن لم يتم الإعلان عنه إلا في السنوات الأخيرة بعد أن فتحت بعض الجهات حوارا مع المجتمع الذي أظهرت بعض فئاته رفضها لهذه العملية برمتها.

وقد اظهر الفيلم جزءا من تلك النقاشات الساخنة، خاصة من طرف الأمريكيين السود الذين يرون أن السلطات تسعى للسيطرة الكلية، والحدّ من تحرك المواطن تحت حجة حمايته من الجريمة والعنف. لكن الأمر سياسي أكثر منه أمني، وتلك النقاشات لم تكن سوى ذر للرماد في عيون المجتمع، والدليل أن سلطات بالتيمور بدأت العمل بالبرنامج المذكور رغم رفض شريحة واسعة من المجتمع الذين يرون أنه تم الاعتداء على حريتهم الشخصية.

المسدس الفوتوغرافي الذي اخترعه عالم الفلك الفرنسي “بيير جول سيزار يانس”، وهو أول جهاز للتتابع الفوتوغرافي الذي يرصد عبور كوب الزهرة

 

عبور الزُّهرة.. فلسفة الصورة عبر الزمن

ينحت الفيلم الوثائقي “كل الضوء، في كل مكان” (All Light, Everywhere) في فلسفة الصورة بأبعادها الجمالية والتاريخية. وقد سافر مخرج العمل “ثيو أنتوني” إلى حقب زمنية مختلفة ليسلّط الضوء على العلماء والباحثين الذين وثّقوا للأحداث التاريخية المهمة والمميزة عن طريق الصورة، وأكثر من هذا بحث طويلا في الطريقة والمبادئ الأساسية التي تم الاعتماد عليها لحبس الصور، وتقريبها عن طريق آلات مزوّدة بأنظمة يتم من خلالها مراقبة الأجرام السماوية، والكشف عن أنماط تحركها وسيرها عن طريق تلك الأجهزة المستحدثة في تلك الحقبة، وذلك لرصد عملية التحولات الفلكية الكبرى، خاصة الحدث الفلكي البارز الذي تجنّد له 62 فريقا يمثلون 10 دول مختلفة، لدراسة وتصوير عملية عبور كوب الزهرة بين الشمس والأرض سنة 1874، وذلك عن طريق المسدس الفوتوغرافي الذي اخترعه عالم الفلك الفرنسي “بيير جول سيزار يانس” (1824-1907).

وقد تم تصوير وجمع تلك الصور على مدار 20 سنة كاملة، أي حتى 1894، ليتم من خلالها تصوير فيلم متحرك ينقل عبور الزهرة على مدار عشريتين، كما أظهر الفيلم جهد العالم الفيزيولوجي والمصور الكرونوفوتوغرافي الفرنسي “إتيان جول ماري” (1830-1904) الذي اخترع هو الآخر مسدس تصوير تم الاعتماد عليه لاحقا في تطوير التصوير السينمائي.

وحسب ما جاء في الفيلم فإن هذا العمل سبق اكتشاف الفرنسي لوميير للسينما، وبالتالي وانطلاقا من تلك الأفكار الخلاّقة بدأ اكتشاف الكاميرا وطريقة عملها.

ومن أهم المحطات الأساسية التي سافر لها الفيلم اعتمادا على الأرشيف الموجود والمنتشر في العديد من المراكز العالمية وانطلاقا من كتب المؤرخين؛ عقده مقارنة عملية بين مسدسات التصوير ومسدسات القتل، حيث تم تطوير الأسلحة الحربية انطلاقا من تلك التي كانت تعتمد على  نظام التصوير وتتابع الصور.

ضابط الشرطة الفرنسي “ألفونس برتيلون” يبتكر نظام قياسات يصور المجرمين من كل الجهات، إضافة إلى حفظ القياسات للأنف والقدم والرأس في بطاقة معلومات

 

“كاميرا الجسد”.. كشف المُجرم بجسد الشرطي

جاءت بداية فيلم “كل الضوء في كل مكان” منوّعة بين مشاهد يعتقد بأنها غير مترابطة، انطلاقا من صورة مقربة جدا لتركيبة العين الداخلية، يليها تعليق صوتي صادر من ممثل يروي طريقة عمله في الأفلام، يقابله في زاوية الشاشة الزرقاء رجل على رافعة يتحدث عن فلسفة الصورة وتكوين الإطار المرئي فيها وما وراءها من الناحية الفكرية، بعدها يأتي مشهد لشركة أبحاث في علم الأعصاب تقوم بتجارب بحثية عبر مجموعة من المتطوعين عن كيفية استجابة الناس لمحتوى الوسائط التي يشاهدونها.

قد تبدو هذه المَشاهد -كما قلت- غير مترابطة، لكن عند مشاهدة الفيلم (مدته 109 دقائق) يكتشف المشاهد بأن الخيط غير المرئي الذي يجمعها هي عدسة الكاميرا التي يعادلها موضوعيا العين التي ترى، وهي الركيزة الأساسية التي حافظت على المنطلق السردي العام للعمل الذي جاء محمّلا بتفاصيل غير معتادة عن كيفية عمل الكاميرا الملحقة بجسد الشرطي، والتي تُعرف بـ”كاميرا الجسد”.

لقد اعتمد المخرج ثيو أنتوني مقر الشرطة كمرتكز ينطلق منه لباقي المشاهد والمواضيع التي تخدم فيلمه، حيث يقوم ضابط شاب بتكوين مجموعة من أفراد الشرطة ويشرح لهم كيفية استعمال كاميرا الجسد والغاية منها وأهدافها الأساسية التي اختصرها لهم في أربع نقاط أساسية هي: الاحترافية والشفافية وجمع الأدلة والمساءلة.

وفي الوقت نفسه يعود المخرج إلى الماضي للوقوف على بدايات استعمال الصورة لتوثيق وجوه المجرمين، وكان سابقا يتم تصوير المجرمين دون أي معلومات إضافية، وهذا ما خلق فوضى كبيرة. وقد فطن ضابط الشرطة الفرنسي “ألفونس برتيلون” (1853-1914) لهذا الأمر، فابتكر نظام قياسات جديد يصور المجرمين من كل الجهات، إضافة إلى حفظ القياسات للأنف والأذن والقدم والرأس والوجه في بطاقة معلومات مصحوبة بالصور، لينتشر ذلك النظام عالميا ويتم العمل به إلى غاية اليوم.

شركة “إكسون” تستعرض إحدى “كاميرات الجسد” المتطورة وطريقة عملها

 

“إكسون”.. تكنولوجيا تخدم الشرطة وتُهدد الحريات

تعد شركة “إكسون” الشريك الأساسي في عملية تجهيز الشرطة الأمريكية بأجهزة تقنية عالية التطور، من بينها كاميرا الجسد التي تستعملها الشرطة، إضافة إلى المسدسات الصاعقة. ولقد نقلت عدسة الفيلم أجواء العمل والتطوير التي تحدث داخل تلك الشركة.

ومن بعض مواصفات كاميرا الجسد أنها تسجل 30 ثانية قبل أن يضغط الشرطي على زر التشغيل، أي أن لديه الوقت لتسجيل وقائع أي جريمة، وتعمل الشركة حاليا على جعل تلك الكاميرا تعمل عن طريق الأعصاب الحسية، فعندما تستشعر سلوكا غير طبيعي تقوم بالتصوير، وأكثر من هذا تتكفل مستقبلا بنقل معلومات من بطاقة تعريفية أو هوية أو رقم سيارة وتعرف صاحبها مباشرة. وحتى لا يتم التلاعب بالأشياء المصورة؛ تم ابتكار نظام تخزين رئيسي يقوم بتدوين أي عملية حذف وتعديل أو أي معاملة، وهكذا يتم منع أي تلاعب.

وقد قامت الشركة باستعراض أحد تجاربها في الفضاء الخارجي، حيث قامت بتجهيز سيارة من المفروض أن تكون تابعة للشرطة، إضافة إلى طيارة مسيرة ولباس شرطة. وعند وجود أي خطر، وبمجرد إخراج الشرطي مسدسه الصاعق من جرابه، تقوم تلك الآلات مجتمعة ببداية التصوير، وأكثر من ذلك تعمل الشركة على تطوير طائرة مسيرة تتتبع الجريمة والمجرمين في أي مكان. وهذه هي الثورة التكنولوجية الهائلة التي يعملون عليها حاليا، لكنها في المقابل تهدد الحرية الشخصية للفرد الذي بات تحت رحمة عدسات الكاميرا التي تحاصره من كل جهة.

 

وجه آخر للحقيقة.. عبثية الحداثة والتكنولوجيا

انعكست روح التجريب والنقد والعبثية في هذا الفيلم، وهي السمة التي يمتاز بها المخرج الشاب ثيو أنتوني (32 سنة)، فقد أظهر بطريقة غير مباشرة عبثية الحداثة والتكنولوجيا، وأثرها على المجتمع الحديث، حيث نقل بعض المشاهد التي تظهر رؤيته للأشياء، منها مثلا عدم اهتمام الشرطة بشرح الضابط المسؤول الذي كان يعدد مزايا الكاميرا الجسدية، وأخذ يُصوّر ثرثرتهم الجانبية واهتمامهم بأشياء أخرى هامشية.

كما أظهر في العديد من المرات الكاميرا التابعة لفريق الفيلم ولم يهتم بإخفائها، ووظّف مشهدا ظهر فيه عندما أعطى تعليمات لمسؤول شركة “إكسون” عندما دخل معه مقر الشركة.

وهنا أظهر عبثية وزيف هذه الشركات، حيث قال له المسؤول إن الشركة تتعامل بشفافية كبيرة بينها وبين العمال، والدليل المكاتب المنتشرة والمفتوحة على بعضها، لكن بعد لحظة أرشده لطابق مظلم قال إن المكان اسمه العلبة السوداء، وهي الفضاء الذي يتم تطوير الآلات والبرامج فيه، ولا يمكن لأي شخص أن يرى ما فيه عدا المسؤولين، ومن هنا يظهر هذا التناقض.

كما صوّر أنتوني مشهد نقاش لمجموعة من السود يرفضون عمليات المراقبة الجوية، وهي الروح النقدية التي أظهرها الفيلم الذي لم يكتف بأن ينقل بعض الحقائق، بل أظهر الجانب الآخر منها، وهذا ما جعل الفيلم مختلفا ولا يغلب جهة على أخرى.

فيلم “كل الضوء، في كل مكان” عمل جريء وذكي يظهر حقائق كثيرة عن العالم الجديد الذي نعيش فيه، حيث قدّم تصورا شاملا على ما يمكن أن يحدث مستقبلا، وقد ربط الحاضر بالماضي وعلاقتهما بالدفع بعجلة التطوير، وكأنه يقول إننا لا يمكن أن نتقدم خطوة إلى الأمام ما لم نرجع إلى الماضي ونفهم أحداثه.

ويعد موضوع الفيلم عملية لفهم واكتشاف المراحل التي تطورت فيها الكاميرا، والغرض من استعمالها واكتشافها.