كمبوديا: رحلة كوميدية بين الخميسات المغربية إلى كمبوديا

المصطفى الصوفي

تبدو الشخصية المحورية في الفيلم الكوميدي، الذي يتطلع إليه الجمهور بكثير من اللهفة والانبهار لمتابعة أحداثه المضحكة حتى النهاية، وهي تجلس القرفصاء لتناول وجبة غريبة للغاية، مثيرة للدهشة والنفور. هذه الوجبة أو الوليمة إن صح التعبير مشكّلة من زواحف وحشرات وكائنات غريبة، إنه أمر مقرف، ويصيب بمغص في الأمعاء، لكنه عند البعض في تلك البلدان النائية أمر طبيعي ومفيد للذات ومقوي للعضلات ومخلص من المس وطارد للسموم من الجسم، والله أعلم.

في السينما كل شيء ممكن، ثلة الشباب الذين حوصروا في هذا الأرض السعيدة -كما جاء في السيناريو- بعد أن تمت سرقة ما بحوزتهم، مضطرين إلى الاقتتات على تلك الحشرات والديدان وهم يضحكون محركين رؤوسهم تعبيرا عن الرضا لصاحب المطعم ورواده، غير عابئين بما قد يحصل أو يصيبهم من إسهال أو تسمم.

المشهد المقزز الذي راق للمخرج كثيرا، سيجلب له الكثير من الجمهور، خاصة أنه مصاغ في قالب كوميدي هزلي، حيث يسخر الممثلون من الطبيعية ومن العالم ومن أنفسهم بحثا عن حل سريع يخلصهم من هذه الورطة التي وقعوا فيها بعد أن حطت بهم الطائرة في بلد غير البلد الذي يرغبون في الوصول إليه.

 يراهن الفيلم على البعد الدرامي والغرائبي والرائع في قصته
يراهن الفيلم على البعد الدرامي والغرائبي والرائع في قصته

كوميديا غرائبية

تلك إذن هي بعض من أطياف فيلم “كمبوديا”، لمخرجه محمد طه بنسليمان، الذي تابعه الجمهور بشغف كبير في القاعات السينمائية المغربية منذ خروجه إلى السوق، فيلم يراهن على البعد الدرامي والغرائبي والرائع في قصة الفيلم، وعلى فن الإضحاك والكوميديا، لجلب الجمهور إلى القاعات السينمائية المغربية التي أصبحت تغلق تباعا بسبب عزوف الجمهور عن ارتيادها، وكذلك بسبب هزالة الأفلام التي تعرض، اللهم من بعض الأفلام الأجنبية، وغالبا ما تكون أفلام حركة أو حب وخوارق وعنف وحروب.

في السينما ليس من السهل أن تنتزع البسمة أو الضحكة من الجمهور الذي يعرف جيدا متى يجب عليه أن يتفاعل كوميدياً مع كل مشهد من مشاهد الفيلم، وبالتالي فإن فيلم “كمبوديا” رهان على هذا المعطى، وإن كان لم يستعن بشكل قوي بممثلين لهم باع كبير في مجال الكوميديا خاصة على مستوى المسرح والتلفزيون، باستثناء بعض الممثلين المشاركين في الفيلم كالبطل رفيق بوكر وزهور السليماني ودادا.

وقد شكلت مشاركة هذا الثلاثي في الفيلم دفعة قوية للاستمتاع وخلق الفرجة لما راكمه مثلا رفيق بوكر من تجارب قوية، وتألقه في الكثير من الأعمال السينمائية التي قاربت العشرين فيلما منذ سنة 2000، من أبرزها “غراميات الحاج الصولدي” لمصطفى الدرقاوي، و”إكس شمكار” لمخرجه محمود فريطس، و”القسم  رقم 8″ لجمال بلمجدوب، و”أولاد البلاد” لمحمد إسماعيل (2010)، و”ولد الحمرية” لعادل الفاضلي (2002)، و”ملائكة الشيطان” لأحمد بولان (2007)، و”الطريق إلى كابل” لإبراهيم شكيري (2012)، فضلا عن فيلم “المحبة زايدة” لنفس المخرج (2014)، وغيرها من الأفلام التي تألق فيها رفيق بشكل كبير، الأمر الذي جعل المخرج بنسليمان يعتمد عليه في فيلم “كمبوديا” من أجل تقمص شخصية “كويكا” الميكانيكي الذي عاش الكثير من المواقف المثيرة بسبب سرقة سيارة قديمة باهظة الثمن، وتعود ملكيتها لرئيس عصابة.

لم يستعن الفيلم بشكل قوي بممثلين لهم باع كبير في مجال الكوميديا
لم يستعن الفيلم بشكل قوي بممثلين لهم باع كبير في مجال الكوميديا

إلى سنغافورة لزرع كلية

في هذا الفيلم، يجد رفيق بوبكر الميكانيكي البسيط نفسه في مأزق حقيقي بعد أن ضاعت سيارة قديمة من ورشته، وتعود هذه السيارة لشخصية نافذة في عالم الإجرام، فطالبته هذه الشخصية بتسديد ثمن السيارة المسروقة في ظرف وجيز.

ومن أجل الخروج من هذه الورطة، اضطر إسماعيل في الفيلم إلى بيع إحدى كليتيه لطفل لتسديد ثمن السيارة، والسفر إلى سنغافورة من أجل إجراء العملية الجراحية لزرع الكلية، ثم العودة إلى المغرب. لكن الطائرة تضع الصديقين في كمبوديا وفيها يفقدان كل شيء.

وبسبب عدم إلمامهما بلغة هذا البلد للتواصل مع أهله والخروج من المأزق الكبير الذي وضعا فيه، يتعرضان للسرقة وللكثير من المواقف الصعبة والمحرجة قبل عودتها من حيث أتوا صفر اليدين، ودون الحصول على المال لتسديد ثمن السيارة الغالية. وهي مواقف طريفة صاغها المخرج في قالب قصصي كوميدي ممتع فيه الكثير من خفة الدم والمرح والسخرية من العالم والقدر والعادات والطقوس.

وطوال ساعة و42 دقيقة هي مدة الفيلم الذي تألق فيه أيضا الكوميدي حسن بديدا والفنانة زهور السليماني وصلاح بنصالح وخديجة عدلي وبمشاركة سناء بحاج وعبد الصمد الغرفي وسعيد ظريف وآخرين؛ يعيش المشاهد خلال هذه القصة -التي تم تصوير أحداثها بين مدينة الخميسات (50 كيلومترا شرق العاصمة الرباط)، وإحدى مدن كمبوديا المكتنزة بكثير من العادات والتقاليد سواء في المأكل والمشرب أو الطقوس العقائدية- لحظات يمكن اعتبارها درامية وكوميدية في آن واحد، وذلك من خلال المشاهد القوية والجريئة التي تم تناولها خاصة على مستوى عادات هذا البلد الآسيوي الموغل في ثقافته المطبخية، وكيف تفاعل معها الممثلون بطريقة فيها الكثير من الهزل والسخرية، وإن كان البعض يراها جزءا من ثقافة هذا البلد وبالتالي وجب احترامها، علما بأن السينما في مجملها خيال ومحاكاة للواقع في بعدها الجمالي والفرجوي.

 لم يُختر كمبوديا ضمن المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة للدورة الأخيرة للمهرجان الوطني للفيلم
لم يُختر كمبوديا ضمن المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة للدورة الأخيرة للمهرجان الوطني للفيلم

الذوق الجمالي واستفزاز المشاهد

إلى هنا يمكن طرح العديد من الأسئلة في ظل البحث عن ذلك المعادل الموضوعي السينمائي الجذاب، فهل استطاع فيلم كمبوديا تحقيق المتعة البصرية كوميدياً؟ وهل ساهم في إخصاب وإزهار الممارسة السينمائية وجعل حبكته وقصته إضافة نوعية لما أوجده العديد من المخرجين السابقين؟ وهل حقق نوعا من التناغم الفني بين الموضوع الذي طرحه وبين إشكالية الفن السينمائي الذي يظل في بعده الفني إبداعا جماليا خلاقا وفنا مساهما في التربية على الذوق الجمالي؟ وهل تمكن الفيلم -في ظل وجود موجة جديدة من السينما الكوميدية التي تسعى إلى رد الاعتبار للقاعات السينمائية التي هجرها الجمهور- من فرض نفسه كواحد من الأفلام المحببة للجمهور والتي يستطيع مشاهدته كما تستطيع مشاهدتها العائلات من غير تحفظ أو حرج؟

كثيرة هي الأسئلة التي طرحها العديد من المتابعين في هذا السياق، لكن الفيلم رغم متابعته من قبل فئة جيدة من الجمهور، كان في بعض من مشاهده مستفزا للمُشاهد، وذلك بسبب الألفاظ القوية التي تنهل من قاموس الدارجة المغربية (اللهجة المحلية) الذي صُور بها الفيلم طبعا، وهي مشاهد لها ما لها وعليها ما عليها من مؤاخذات.

يحيلنا هذا الأمر مباشرة إلى أفلام كوميدية مماثلة طُرحت في القاعات السينمائية وكانت في مستوى تطلعات الجمهور دون خدش للمشاعر ولا نفور من مشاهدتها. ومن تلك الأفلام نذكر فيلم” لحاجات” لمخرجه محمد أشاور، والذي شكل نقلة نوعية في عمل سينمائي كوميدي محترم لقي اهتماما كبيرا من قبل الجمهور داخل وخارج المغرب، كما حظي بمتابعة مهمة من وسائل الإعلام.

كما لا ننسى في هذا الجانب فيلم “المليار” الذي شكل هو الآخر واحدا من الأفلام الاجتماعية المصاغة في قالب كوميدي، برع في أداء دور البطولة فيه النجم ربيع القاطي رفقة عدد من الوجوه السينمائية والتلفزيونية الأخرى.

كما تجدر الإشارة هنا إلى فيلم “الفروج” لمخرجه عبد الله فركوس، والذي لعب فيه دور البطولة إلى جانب الممثلة المتألقة بشرى إهريش، وكذلك فيلم “الحنش” لإدريس المريني”، وهو من بطولة عزيز داداس، وفيلم “الطريق إلى كابل”، وكذلك “مسعود وسعيدة وسعدان” لإبراهيم شكيري من بطولة عزيز داداس وكليلة بونعيلات وعمر لطفي وعبد الرحيم المنياري ومحمد الخياري والبشير واكين ورفيق بوبكر بطل فيلم كمبوديا.

بطل الفيلم رفيق بوبكر
بطل الفيلم رفيق بوبكر

صفر جوائز رغم الإقبال

ورغم الإقبال الذي لقيه فيلم “كمبوديا” في القاعات السينمائية، والإيرادات التي حققها، فإنه لم يُختر ضمن المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة للدورة الأخيرة للمهرجان الوطني للفيلم الذي عقد بمدينة طنجة، وتلك قصة أخرى، حيث يُطرح السؤال: ما الذي جعل لجنة الانتقاء تستبعده من المنافسة إلى جانب تسعة أفلام أخرى، منها “الوحوش” لمحمد فوزي، و”أشياء صغيرة” لفهد لشهب، و”طاكسي بيض” لمنصف مالزي، و”بورجوا” لكليلة بونعيلات وغيرها؟

وهل رأت لجنة الانتقاء في فيلم كمبوديا أشياء لا تستحق المشاهدة، وبالتالي غناؤه خارج سرب شروط العرض التي تشترطها لجنة الفرز؟ وهنا يطرح السؤال من جديد عن أسباب نجاح هذا الفيلم جماهيريا دون السماح له بالمشاركة في المهرجان الوطني الذي يعد أكبر تظاهرة سينمائية وطنية لتكريم وتتويج الأعمال الجديدة والمتميزة على مستوى الإخراج والسيناريو والتشخيص، وكذا عدم حصوله على أيه جائزة من أي مهرجان من المهرجانات الأخرى، وهل يمكن اعتباره فيلما للقاعات يبحث عن الموارد المالية دون البحث عن عرضه في المهرجانات مثلا؟

ويأتي هذا الفيلم للممثل والمخرج بنسليمان -الذي تلقى تأهيلا سينمائيا أكاديميا في بريطانيا- بعد عدة تجارب في الإخراج والإنتاج لأفلام قصيرة وطويلة للمخرج الشاب، من أبرزها فيمله “وريقات الحب” (2016)، و”تنوّع” (2011)، و”الشلل الخطير” و”كما لو كان بفعل السحر” (2014)، وهو فيلم بالرغم مما يقال عنه فإنه حقق أفق انتظار العديد من المشاهدين في ظرف وجيز، وذلك بالنظر إلى اختيارات الممثلين والنجوم الذين يحظون بمتابعة مهمة من قبل الجمهور خاصة بطل الفيلم رفيق بوبكر والممثلة القديرة زهور السليماني والممثل المحبوب صلاح الدين بنموسى الذي قدم طيلة مسيرته الفنية التي تقارب خمسين سنة أعمالا ممتعة وراقية سينمائية وتلفزيونية، كما ساهم هذا الفيلم في ترسيخ ثقافة سينمائية جديدة تتسم بالواقعية والتلقائية والجرأة والتشويق والمرح والفرجة والإثارة والإنصات لنبض المتلقي وما يرغب فيه من مادة سينمائية تكون قريبة منه ومن طموحاته وحياته اليومية، كرهان كبير على تنشيط الحركة السينمائية، وإعادة النشاط والحيوية للقاعات السينمائية التي تعاني العزوف والظلام الطويل، واستقطاب الجمهور على اعتبار أن الموجة السينمائية الجديدة بالمغرب تحاول أن تقدم أفلاما بسيطة من غير تعقيدات، أو طرح إشكالات وقضايا فكرية عميقة.

يأتي الفيلم إذن بهذا الطرح الجديد والرؤية الفنية المثيرة المشبعة بفيض من المفاجآت والإثارة التي كرسها المخرج من مدينة مغربية تختلف عاداتها وتقاليدها عن عادات سكان آسيا، حيث رفيق بوبكر (كويكا) رفقة باقي الممثلين يتألق كعادته وهو في لباسه البرتقالي المثير، أو في أحد المطاعم التي تعرض مأكولات غريبة، وهو يرتجف من تهديد رئيس العصابة الذي أعطاه مهلة قصيرة لتسديد ثمن السيارة التي اختفت من المرآب.. كل ذلك ضمن مواقف هزلية ودرامية تجعل من “كمبوديا” عملا إبداعيا فيه الكثير من الخيال الفكاهي بمسحة موحية، وتقنية عالية في التصوير تجعل من السينما لدى المخرج الشاب بنسليمان تجربة فنية وإبداعية وجمالية فيها الكثير من المحاكاة والأحلام دون خلفيات بحثا عن السحر والتميز، وإرضاء لرغبات الذات والجمهور.