“لا، نعم”.. سينما الرفض تفضح عنصرية طي الكتمان في تونس

حميد بن عمرة

عندما قررت الركوب في الحافلة والجلوس في مقعد مخصص للبيض عام 1955 بمدينة مونت غومري بالألباما لم تكن تعلم السيدة “روزا باركس” أنها تحجز لاسمها وذوي بشرتها مقعدا خاصا في تاريخ المقاومة ضد العنصرية والتطرف الى الأبد. جلست والحب على وجهها قد اكتمل، حب الحياة الشريفة التي لا تقبل السكوت ولا الكسر.

في حافلة محمود جمني التي يركبنا فيها في فيلمه الأخير “لا، نعم” مع نخبة من الوجوه السمراء لا نعرف هل سيعيد كتابة تاريخ “روزا باركس”، أم أنه سيقص علينا مآسي مماثلة قررت كاميرته إخراجها إلى النور بعد زمن العتمة في بلد يفتخر بديانة حررت العبيد قبل أي أمة، ويتباهى بمدرسة من أعرق المدارس الدينية في القارة السمراء الزيتونة، و يختال بحضارة قرطاج العريقة و يعتز بالقديس “أغوستين”.

المسرح فرحات دباش يتحدث عن رقص السامبالي والطقوس التقليدية المصاحبة له

 

“السامبالي”.. رقص تلاحم الأرواح

جمع المخرج أبطال فيلمه بحافلة كأنه يخشى أن يفلتوا منه، وأقعدهم في الخلف مثلما كان السود بأمريكا يحشدون كل يوم، يتبادلون الأسماء العربية الفصيحة المضمون واللفظ، ويتبادلون مفاهيم البشرة عند المنظرين الأفارقة لهذا الموضوع، تشق الحافلة رحلتها عبر البراري في أهازيج ” الزرنة” لتصل في زيارة رمزية إلى ضريح “أم مرزوقة” المحاط بحجر أبيض، والتي تروي الأساطير المنقولة أنها سمراء من أصل سوداني.

يلتف حول الركاب في دعاء ديني مجموعة استبقتهم وأخرى حطت رحالها بعدهم، فهل اخترع سُمر تونس آلهة جديدة يتقربون بها إلى إله البيض، أم أن في طقوس الرقص تنفيسا وتذكيرا بخصوصية المكانة الاجتماعية لهؤلاء المواطنين؟

يقول المسرحي فرحات دباش: الضوء والظلام متلازمان؛ لأن الألوان عنده تحمل نقيضها باطنيا، نكتشف “السامبالي” هذا النوع من الرقص الذي تدور الأجساد فيه حول بعضها، ومن خلاله على وتيرة البندير (آلة موسيقية) تذوب الألوان وتتلاحم بين الأسمر والأقل سمرة، وتنصهر في رقصهم وابتهالاتهم معاني المفردات التي تفرغ من محتواها العنصري، هل الطقوس التقليدية سبيل تجري من خلاله مفاهيم يعجز المنطق والوعي السياسي من الوصول إليها، أم أن القانون دوما هو الفاصل بين الألوان؟

 

داء العنصرية.. سرطان ينخر بنية المجتمع

في يوم 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2018 صادقت تونس على قانون يجرم كل أنواع العنصرية، وهذا بعقوبة السجن التي تصل إلى ثلاث سنوات، وغرامة مالية تصل إلى ما يعادل خمسة آلاف يورو، ورغم ذلك ما زال متداولا ببلديات جزيرة جربة التونسية استعمال كلمة “عتيق” على شهادة الميلاد بظهور اسم من أعتق العائلة.

لا وجود لعنترة ولا لعبلة إلا في حالات خاصة مثل زواج فرحات دباش بامرأة خارجة عن عشيرة بشرته، ويواجه الضوء والعتمة في سرد حر على خشبة مفتوحة الآفاق، غير أن القانون الجديد بذاته هو اعتراف رسمي لممارسات عنصرية تدوم منذ عقود، فكيف تسترت تونس عليها كل هذا الزمن؟

تحط الكاميرا ببيت الأستاذ المتقاعد بلقاسم راجة مستبطنا ماضيه الدراسي ليسقط فيه المتنبي من تاجه بعدما يذكرنا بهذا البيت.

لا تشتري العبد إلا والعصا معه

إن العبيد لأنجاس مناكيد

كيف للمدرس مربي الأجيال أن يربي في قسمه سرطان العنصرية في عقول الأطفال البريئة، هل يولد الأطفال بقلوب تحب الكره، أم أن البيئة الاجتماعية هي التي تؤهلهم لتعاطي الكره والإدمان عليه؟ لا يصدق بلقاسم حتى الآن أنه كان يشعل وقود جهنم عليه بالمدرسة وبين رفاقه.

هل التطرف العنصري يولد حتما عند الضحية تطرفا دينيا ويخلق مجتمعا انفصاليا، كيف يمكن التعامل مع كل ما بناه المتنبي في مخيلة العرب الجماعية عندما نسمع منه بيتا هدم كل البيوت الآمنة التي كان فيها المثال والتمثال، هل لدينا النية والرغبة في التنقيب في كل الألغام اللغوية المندسة في أدبنا العربي، هل اللغة تمرر من خلال أبيات الشعر والمقالات والنصوص الفلسفية والموشحات سموما تقتل ببطء مشاعر الحب وصلة الرحم بين ذوينا؟

لقطة من فيلم “نعم لا” التي تُظهر اختلاف درجات بشرة المجتمع التونسي في إحدى الحافلات التونسية

 

“السقلبي”..  جزافية الألقاب والأحكام

يتساءل محمود جمني من خلال شخصياته عن قوة الحرف في البنية التحتية لمجتمعاتنا. إنه يقوم بهذا العمل بنيّة ترميمية وليس بدافع من اللوم السهل المباح، لأن الفيلم يشبه صاحبه في حذره وعدم الجزم في موضوع كل حوافه شائكة مثل حبة التين البربري. لقد تفنن المجتمع التونسي في إسناد مصطلح خاص لكل شخص حسب مصدر عبوديته وكثافة سمرة بشرته حيث يلقب بالعبد أو “شوشان” كل من كان داكن السمرة والعبد الأبيض بـ”المملوك أو السقلبي” والأمازيغي بـ”أكلي”.

كم هو شاق الحصول على سيارة أجرة عندما تكون امرأة وسمراء في تونس، هل سائق التاكسي لا يدور عداده إلا مع الزبائن الشقراوات ذوات العيون الزرق؟ تونس ليست السويد، بل مزيج من الألوان المتقاربة في طابع بحر متوسطي، لا يختلف عن جيرانه المغاربة ولا عن الضفة الأوروبية الصقلية المقابلة التي مكث بها العرب أكثر من قرن.

كيف نبني مجتمعا يحمل الفرد فيه نفس بطاقة الهوية، ويقف أمام نفس النشيد الوطني، ويمارس عليه في آن واحد بطاقات هوية سرية تحتية تعتمد على نسبة لون البشرة؟

لماذا يضطر المواطن التونسي الأسمر أن يتحول إلى خبير جغرافي لتفسير أن تونس بلد أفريقي قبل كل شيء، ما هي أسباب هذا التمييز الطبقي المزمن الذي تراكمت أضراره عبر التاريخ، لماذا لا توجد إحصائيات لعدد السكان السمر بتونس؟ لأنه في تعداد السكان لا يوجد خانة تصنيفية للبشرة أو الديانة، فلماذا يشعر جزء من المواطنين التونسيين بوجودهم في خانة الضوء الأقل سطوعا؟

مصمم الأزياء صالح بركة يتحدث عن التمييز في الإعلانات التجارية بظهور ذوي البشرة البيضاء

 

“وصيف طمبله”.. وخز إنكار الآخر

تمكن مصمم الأزياء صالح بركة الذي بدوره عانى من سخط المعلمة بالابتدائية -التي كانت تناديه “الوصيف طمبلة” أي العبد المطبل-؛ من خَلق شخصية منيعة ليس فقط بافتخاره ببشرته، بل بفرض توجه جنسي مخالف للعامة، وعدم إخفاء أي طابع من حياته، لكن الأصعب تقبله هو النفور الذي يلاقيه من بعض عشيرته، حيث لا يشرب في نفس إناء شخص بعده، أو قد يسأله آخرون لماذا كل هذه العطور؟ كأنه يخفي رائحة جسدية كريهة.

كره الآخر لأن مواصفاته لا تنطبق مع لون البشرة العام للشارع التونسي، وكره الآخر لأنه يحمل أفريقية جلية على جسده يتناقض مع ثقافة التفتح التي يعرف بها المواطن التونسي منذ الأزل، فهل نحن أمام تيار عنصري بخلايا محدودة تذيع صوتا عنصريا جاهرا، أم أمام تشخيص لمرض مجتمعي يتقلب ابن خلدون منه في قبره، كيف قرطاج الحضارة تخفي في كواليس آثارها أبناء تونس ذوي البشرة الداكنة، وتنشر في واجهتها السياحية بشرة قريبة للمستهلك الأوروبي.

هل يعرف المواطن العادي سر تلون البشرة، وأن هذا خاضع لتحولات طقسية بحتة، لماذا الدعاية التجارية بالتلفزيون لا تربط البشرة السمراء إلا بالشوكولاتة ولا تصور أبدا مواد الحليب ومشتقاته بوجوه سمراء؟ كأن كل البقر والنعاج شقراوات من الدانمارك، كأن البشرة الأفريقية لا تليق بالأناقة والعطور والأزياء الفاخرة، لذا توجه صالح نحو تفصيل الثياب الذي يعبر عن ألوانه الباطنية.

الناشطة التونسية سعدية مصباح تتحدث عن تونس ومنعها لتجارة الرقيق ومعاملة السُمر كعبيد

 

تمييز عنصري يفضح مثالية ظاهرية

تقول الناشطة سعدية مصباح: تحتفل تونس بيوم الشجرة، كما تحتفل بيوم 23 يناير/كانون الثاني 1846 الذي منعت فيه تونس تجارة الرقيق ومعاملة السمر كعبيد، هل يستحيي التونسي من التاريخ أم يتجاهله، كيف يدفن المواطن التونسي في مقبرة للعبيد وآخرون في مقبرة للمسلمين، متى كان الأقل سمرة أكثر إسلاما من غيرهم؟

يستبطن محمود جمني كل هذه المواضيع الكامنة ويسعى إلى دفعنا جميعا إلى إعادة النظر في علاقتنا مع ألوان الحياة.

تضيف البرلمانية جميلة كسيكسي مفهوما آخر للتمييز العنصري ألا وهو التحرش العنصري، وتطلب إضافة مفهوم الضحية حتى يكون للمواطن الحق قانونيا في رفع قضية بشكل لا يقبل أي التباس عندما يكون الأمر عنصريا بحتا.

كلنا يعرف أن تونس هي أول بلد عربي منع فيه تعدد الزوجات وهذا القانون “البورقيبي” غيّر منطق التفكير الذكوري، لذا القانون يساهم ويدفع بالعقلية نحو اعتبارات إنسانية أمثل وأعدل.

لم يقدم إلى تونس عبر القرون سوى العبيد القادمين في زنزانات بواخر قراصنة الرقيق، بل كثيرون منهم دخلوا البلاد أحرارا كتجار وطلبة ومسافرين. يتوقف محمود جمني بفيلمه أمام سؤال بسيط: ماهي الحدود بين العبودية والعنصرية؟

بوستر فيلم لا نعم للمخرج محمود جمني الذي يطرح قضية التمييز العنصري

 

مدرجات الجامعة.. أسلاك عنصرية شائكة

لم تبُح الحافلة بأسرار ركابها بعد، حيث نتوقف على امرأة اسمها “وغى” ولا يبرق من بياضها إلا ابتسامة التفاؤل. في الكر والفر الأسرع هو من يملك المكان، لذا يستبق عبد السلام الحاضرين قائلا إنها أحسن رفيق ومكمل لاسمه لمعنى اسم ” وغى” الحربي.

يصل بنا تداعي الأفكار إلى تراجيديا الملك “كريستوف” والسينما والشعر، ونعرف من الركاب أنهم مسافرون نحو هويتهم وليسوا في نزهة مدفوعة التكاليف. كيف تجمعت مفردات تنتسب كلها للون “الأكحل” أي الأسود في قاموس التعبيرات السلبية؟ إنها مفردات مندسة ومدنسة في اللغة العامية مثل “السردوك لكحل” أي الديك الأسود الذي لا ينفع إلا للسحر.

قد يتحول العنصري من جهله إلى مهرج يعتقد أنه يضحك الناس بخطاب كاريكاتوري حول من خالفه الشكل واللون والثقافة والديانة، غير أنه بهذا الفعل يصير هو النكتة والمضحوك عليه فيها.

حدث هذا مع عبد السلام الأفريقي البنية عندما كان في مدرجات الجامعة بتونس حيث تحول بسرعة إلى الهدف الذي ترمى به كل السهام من طرف أساتذته، كيف يمكن للشاب التونسي أن يصل إلى نهاية المطاف الجامعي أمام أساتذة يمثلون أسلاكا شائكة بكل حرف عنصري ينطقونه ضد مواطنين يصوتون في نفس صناديق الاقتراع، هل يحتاج عبد السلام إلى فتح جبهة مقاومة فقط لإتمام دراسته، وهل يشترط عليه أن يكون ذا بنية نفسية قوية وملقحا ضد فيروس الكره؟

لقد تظاهر بأنه أفريقي لا يعرف اللغة العربية مما دفع بالمعلمة أن تنفث سمومها كل يوم كأنها في سوق للمزاد العلني للمفردات الشنيعة.

 

ملازمة العدل والحق.. إرث عمالقة السينما

لم تنتهِ رحلة وغى وعبد الستار وعلي بالخير وفرحات دباش و بلقاسم راجة و صلاح بركة وسعدية مصباح وجميلة كسيكسي، و أسماء كثيرة لم تقف الكاميرا على ألوانهم، لكن يبقى لون الحب واحدا ولون الحق واحدا.

لم ينتهِ محمود جمني من تصحيح ألوان فيلمه، ولا من ترتيب ذاكرة هو جزء منها لأن فيلمه لا يريد أن يكون رسالة إلى الله، ولا أن يكون رمي حجارة عبثيا على سطح الماء، ولا أن يتذكر بيت عمرو بن معدي كرب:

ولو نار نفخت بها أضاءت
ولكن أنت تنفخ في رماد

ليس محمود جمني وليد سينما الانتهاز، ولا سينما الانحناء وإنما وليد “ريني فوتييه” السينمائي الفرنسي الذي غامر بحياته لتصوير المقاومة الجزائرية في خمسينيات القرن الماضي، حيث كان مساعده في أفلام هامة وتاريخية منها ” سن العشرين في الأوراس” الذي نال جائزة النقاد في مهرجان “كان” عام 1972، وعندما تؤسس مسيرتك الفيلمية بجوار عمالقة المقاومة السينمائية، فلا يمكن أن تبتعد عن مُثل العدل والحق.

مارس محمود جمني عدة مناصب كلها سينمائية ونقدية وترأس جمعيات ومؤسسات بتونس تنهض بالفيلم التونسي والعربي، وأسس مهرجان قابس للفيلم العربي. كما أنه عضو بفيدرالية السينما الأفريقية وعضو بمنظمة الفيبريسي للنقاد، وله كتب ومنشورات عدة في السينما منها “أربعون سنة من السينما التونسية”، و”رؤى متقاطعة” عام 2006. ومن عناوين أفلامه “فلوس” (1975) وفيلم “حنظل” (2012).

لا يفسر “لا، نعم” ولا يحتج ولا يشكو ولا يحاكم، بل يضع المشاهد أمام ماضيه وحاضره، كما لا يريد أن يكون أنثروبولوجيا وبيداغوجيا، وإنما يفتح أسئلة لابد من الرد عليها وبشفافية كاملة.