لجوء سنودن.. استلاب القرار !

قيس قاسم

من بين القلّة، التي أحيطت علماً بأن وراء نقل الكونفرس الإعلامي الخاص بإعلان منح منظمة جائزة نوبل البديلة للسلام   (The Right Livelihood   Award)  في الشهر الأخير من عام 2014، للمطلوب رقم واحد في الولايات المتحدة الأمريكية ومباشرة عبر الأقمار الصناعية، ترتيب آخر أبعد من ذلك، كانت المخرجة والمنتجة كارولينا جيمبسي.

ظهور “إدوارد سنودن” على الشاشة الكبيرة في إحدى قاعات البرلمان السويدي كان يُراد به تذكير الساسة المحليين وبقية العالم بعزلته وحصاره في موسكو والعمل بناء على رغبته في الخروج منها إلى أي وجهة أخرى يشعر فيها بحرية أكبر ويتخلص من ضغوطات الروس ومعاملتهم له كورقة في المناورات السياسية الدولية، إلى جانب الاعتراف بشجاعته في فضح الانتهاكات الفظيعة لخصوصيات المواطن الأمريكي.

كانت خطة مدير المنظمة “أوله فون أوكسخول” تهدف في الأساس لترتيب دخول آمن لـ”سنودن” إلى السويد، بذريعة استلام الجائزة، بعدها يقوم بنفسه بتقديم طلب اللجوء السياسي على أراضيها. تفاصيل العملية السرية والترتيبات المسبقة لها ونهايتها المخيِّبة لآمال واضعيها، والتي بتنا نعرفها اليوم من خلال استمرار بقاء “سنودن” في موسكو وفشل محاولة إخراجه منها، شكّلت المادة الدرامية لوثائقي استقصائي أُطلع على عملية أحيطت بسرية عالية، وقام بعدئذ بنقلها إلى العالم بأسلوبه الخاص وليعرف مَنْ الذي أوقفها وكيف تنازلت دول أوروبية عن  قيّمها الديمقراطية مقابل حفاظها على مصالحها القومية وخوفها من خسارة حليف قوي يقيّها شر التهديدات “الإرهابية”!.

 قبل كل شيء فيلم “قضية لجوء سنودن” بسيط غير مدِّعي رغم أهميته، وقد صب تواضعه في مصلحته وأتاح له ولصانعته مشاركة حيوية في الحكاية والإلمام بتفاصيلها وتقديمها بأسلوب سلس وعميق إلى درجة لا يمكن للناقد إلا الإشادة به ووضعه في مصاف أهم الوثائقيات التي تناولت قضية مسرب المعلومات الأمريكي ومن بينها؛ “الهروب العظيم لسنودن” و”المواطن 4″.

تابع الشريط بدقة الخطة الموضوعة منذ بدايتها فسجّل تفاصيل الإعداد لها وقدّم المبادرين إليها بصورة جيدة. نقل أفكارهم ومشاعرهم في قضية اعتبروها قضيتهم الشخصية والدفاع عنه كجزء من قيمهم الأخلاقية وموقفهم من الإنسان وحقه في الذود عن حريته، وكي يضع المشاهد في أجوائها المتفائلة شرع في عرض مشهد تخيُّلي لنهاية مسارها، حيث يستقبل منظمو الجائزة الحاصل عليها إلى المطار ومرافقته إلى قاعة الاحتفالات، لكن ويا للخيبة لم يحصل شيء من هذا أبداً في الواقع.
 لقد تعذّر وصوله وفشلت المرحلة الأولى من الخطة الطموحة. ستستغل المخرجة السويدية وجود المونتير البارع “جون بريكنير” معها لتختصر أزمنة الحدث وتتحرك بينها بأريحية لتنسج عبرها خيوط الحكاية وتكشف المخفي منها والأيادي التي تلاعبت بها.

فعدم وصول “المُسرب الأخطر” إلى ستوكهولم ومعرفة الأسباب الكامنة وراء ذلك كان بحاجة إلى منطق سينمائي يبرره وإلى مشاركات متعدِّدة توضحّه وإلى حركة ديناميكية لا تتوافق بالضرورة مع حركة أبطاله الرئيسيين ولهذا تعددت مسارات الشريط وتراكمت طبقاته، فبينما كان بعض أعضاء فريق العمل يرافق أفراداً من المنظمة قرّروا السفر إلى موسكو ومقابلة “غيد” (الاسم التمويهي ضمن الخطة لـ”سنودن)، في إحدى فنادقها كان فريق المونتاج يراجع أرشيفياً التاريخ السياسي المعاصر للسويد ومواقف قادتها وأحزابها من حركات سياسية معارضة لحكوماتها كحركة السود في الولايات المتحدة الأمريكية والحرب الفيتنامية وغيرها ليؤسِّس على ضوئها قراءة صحيحة لأسباب غياب الفائز الأمريكي عن حفل التكريم. وسيستثمر مصورها “إيفان بلانكو” وجود أشخاص لهم تجارب مماثلة بين أعضاء الوفد الذي يزور موسكو سراً، وسبق لبعضهم أن حصلوا على نفس الجائزة من بينهم؛ “دانييل إيلسبيرغ” مُسرِّب المعلومات السرية الخاصة بانتهاكات الجيش الأمريكي في فيتنام عام 1971 والتي سميت وقتها بـ”أوراق البنتاغون”، ليجري معهم مقابلات عرضوا خلالها تجاربهم وتوقعّاتهم لمآل مسار قضية رفيقهم الشاب.

كان ثمة إجماع بينهم على أن السويد ربما قد تكون البلد الأوروبي الوحيد المؤهّل لقبول “إيد”  لاجئاً عندها لكن السؤال الأهم هو مدى قدرتها على الصمود أمام ضغوطات الولايات المتحدة الأمريكية ومطالبتها بتسليمه إليها؟ يشتغل أعضاء المنظمة على هذا السؤال كثيراً، فيما كان الوثائقي يستقبل بدوره شخصيات حقوقية وسياسية وخبيرة بالشأن المخابراتي الأمريكي ويطرح عليهم نفس السؤال. كانت النصيحة المشتركة بينهم هي العمل على تحريك الرأي العام المحلي والعالمي لقبول فكرة اللجوء!
يكشف الشريط قدرة منظمات صغيرة على التعئبة والتحريض بشكل مذهل إلى درجة نجحت فيها منظمة “ذا رايت لايفليهوود أورد” بتشكيل وفد من قادة أحزاب سويدية وأعضاء برلمان ذهبوا لمقابلة “سنودن” سرّاً في موسكو. ستقول كلماتهم المشجعّة والصورة المشتركة لهم معه الكثير بعد وقت من مرور زمن الوثائقي.

لقد بدا أن فكرة اللجوء مقبولة لدى جميع السياسيين وأن الأمر يحتاج إلى مراجعة قانونية وترتيبات دبلوماسية شكلية. قبل رصد تطورات هذه الجوانب يُقدِّم الوثائقي تفصيلاً صغيراً سيبني عليه لاحقاً الكثير: لقد رفض وزير الخارجية السويدية في حكومة المحافظين وجود ممثل للمنظمة خلال مؤتمره الصحافي الروتيني قبل أيام من تسلُّم الحكومة الاشتراكية الجديدة لمهامها. لماذا فعل ذلك؟ لمحاولة معرفة السبب سينتقل الوثائقي إلى مستوى أكثر تعقيداً فيذهب مباشرة لمقابلة شخصيات أمريكية، فالكرة كما تشي التفاصيل قد رُميت هناك في الجانب الآخر من المحيط! أشدّ التعابير وضوحاً في الموقف من لجوء الرجل المطلوب “حياً أو ميتاً” كان ينطق بها مدير وكالة المخابرات الأمريكية السابق الجنرال مايكل هايدن الذي بدأ في الظهور الإعلامي مع تطوّر تحركات المنظمة الإنسانية.

يجمع الوثائقي مؤشرات على تحرُّك أمريكي مضاد غير مباشر تمحور حول إشعار الدول الأوروبية الحليفة بمخاطر قبول لجوء “الخائن” فيها واعتبار أية خطوة في هذا الاتجاه موقفاً عدائياً ضد الولايات المتحدة الأمريكية قد يدفعها إلى قطع التعاون المخابراتي معها. في كل مقابلاته كان هايدن يؤكد على نقطتين: أولها ترك البلد المُقدم على مثل هذة الخطوة وحيداً في مواجهة خطر الإرهاب وثانيها على الجميع الضغط على الدولة التي تفكر في خطوة كتلك لأن العقوبات حينها ستشملهم جميعاً.

يعرض الشريط الكم الكبير للتسجيلات التلفزيونية والإعلامية الأمريكية المنشورة خلال الأشهر الأولى من عام 2015 وتركيزها على سؤال واحد: هل “سنودن” بطل أم خائن؟ أغلبيتها أكدّت خيانته وضرورة تسليمه إليهم ليقف أمام القضاء الأمريكي. كانت الرسائل تصل إلى قادة السويد والدول الأوروبية دون انقطاع وبطرق مختلفة. لم يلتفت الوثائقي إليها كثيراً لأنه كان معني أكثر بالنتيجة النهائية التي ستصلها محاولة إدخال “إيد” إلى السويد، وليلتقط مؤشرات قوية على عدم نجاحها من خلال توصُّل فريق العمل إلى حقيقة أن القرار المنتظر برمته تقريباً بيد الساسيين لا القانونيين! وأن النسبة المئوية بين الجانبين؛ الحقوقي والسياسي ستكون، على كل الادّعاء بقانونية الأحكام القضائية في البلدان الديمقراطية، 10 إلى 90 % لصالح السياسيين.

فالحكم في القضايا ذات الأبعاد السياسية والمخابراتية في النهاية بيدهم وهذا ما بدأ يظهر في أقوال قادة الأحزاب وأعضاء البرلمان الذين رافقوا الشريط في زيارته إلى موسكو وأخذوا صوراً مع “البطل”. تذرعّوا بحجج واهية وبمخاطر جدية قد تلحق الأذى بالبلاد وأمنها وفضلّوا بدل ذلك أن يقدم طلب لجوء من موسكو لتدرسه وتبتّ به دائرة الهجرة وفق الأصول المتبعّة، على أن يأتي مباشرة إلى بلادهم. توحّد الاشتراكيون الديمقراطيون واليمينيون. الوسط واليسار في الموقف. خبراء في السياسية الخارجية السويدية شاركوا في الشريط نوهّوا إلى خضوع السويد وسياسييها للتهديد الأمريكي وكشف بعضهم ازدواجية العمل فيها فصلت طيلة الوقت بين المواقف السياسية من قضايا عامة عادلة، للسويد سجل طيب فيها، وبين سياسة أمنية كانت أشد قرباً من غيرها إلى أجهزة المخابرات الأمريكية، ويفضح الوثائقي النقدي ارتباط دائرة الرقابة السويدية التابعة لوزارة الدفاع بمعاهدات سرية وقعّتها دون علم الشعب مع “وكالة الأمن القومي الأمريكية” التي سرّب “سنودن” آلافاً من وثائقها وكشف تحركّاتها اللاقانونية فصار مطاردَاً بسببها ينشد اللجوء في بلدان عاجزة عن اتخاذ مواقف خاصة بها.

لم يدّعِ الوثائقي معرفته بما قاله الأمريكان للقادة السويديين لكن مسار أحداثه بيّنتها ضمناً، غير أن هناك جوانب لم يأتِ الشريط على ذكرها من بينها؛ الصمت الروسي وتجاهل دور مخابراتها في قضية معنية بها مباشرة. أتراه قد ترك لنا هذه المواضيع لمعاينتها بأنفسنا والتفكير بها بعد المشاهدة؟