“لعبة الحبّار”.. سباق تحقيق الرغبات في مجتمع كوريا الطبقي

إبراهيم إمام

لم يعد من الممكن الفكاك من حصار الحديث عن المسلسل الكوري الذي أنتجته منصة نتفليكس “لعبة الحبار” (Squid Game)، فقد أصابت حمى الحديث عن المسلسل جميع وسائل التواصل الاجتماعية تقريبا، فنلاحظ أن كثيرين يتحدثون عن واحدة على الأقل من الأفكار التي عرضها المسلسل، فالبعض يتحدث عن الطبقية في المجتمعات الرأسمالية، ويتحدث البعض الآخر عن أزمة الديون التي تحاصر مواطني الدول الرأسمالية، بل والعلاقة الضرورية بين ثقافة الديون وبين المسيحية، بينما ينشغل آخرون بالحديث عن الجوانب الفنية للمسلسل، مثل الحبكة الروائية ومحاولة فكّ شفرات المسلسل، وإنتاج نظريات من شأنها تفسير أكبر قدر ممكن من الأحداث والتفاصيل، وعلى الرغم من هذا الزخم نرى أن الفكرة المركزية للمسلسل، وهي الفكرة التي قادت أحداثه وجميع أبطاله في طوال مدة أحداث المسلسل؛ لم تناقش بما يكفي على الأقل.

 

نلاحظ أن هناك عاملا أساسيا دفع بمناقشة المسلسل إلى هذه الموضوعات، وهو أن نجاحه وانتشاره الكبير -الذي جعله المسلسل الأعلى مشاهدة على نتفليكس منذ إنشائها- يأتي بعد فيلم “طفيلي” (Parasite)، الفيلم الكوري الجنوبي الذي أحدث ضجة مشابهة، وكان أول فيلم غير ناطق بالإنجليزية في التاريخ يحصل على أوسكار أفضل فيلم.

هكذا أدى اتفاق بلد المنشأ وكونه بلدا غير غربي إلى ربطهما معا في سياق واحد، السياق الذي أسسه فيلم “طفيلي” هو تقديم نقد للطبقية في المجتمع الكوري الجنوبي الحديث بوصفه مجتمعا رأسماليا، وهو الأمر الموجود بطبيعة الحال في مسلسل “لعبة الحبار”.

نقد المجتمع الكوري الجنوبي الحديث.. نقطة الانطلاق

يقدم مسلسل “لعبة الحبار” صورة عن الحياة في المجتمع الكوري الجنوبي الحديث، لكن نقدها ليس شاغله الأول، وإنما يستخدمها كنقطة انطلاق يبني عليها نظريته عن الإنسان والرغبة.

 

يحكي المسلسل قصة مجموعة من الأشخاص الذين يمكن وصف حالهم باليأس، إذ يواجه أغلبهم مشكلة تراكم الديون مع عدم قدرتهم على سدادها، ومن ثم توافق هذه المجموعة كل على حدة على المشاركة في مجموعة من الألعاب التي تنظمها منظمة غامضة من أجل الحصول على جائزة مالية ضخمة، من شأنها أن تقدم حلا لمشكلاتهم كلها.

عوز المهاجرين.. شخصيات استثنائية في المسلسل

على الرغم من أن الدافع الرئيس لأغلب شخصيات المسلسل هو تراكم الديون، فإننا إذا نظرنا بنظرة فاحصة نلاحظ أن مشكلة الديون لم تكن سوى تمظهر للدافع الأصلي، ونلاحظ أيضا أن هناك عددا من الشخصيات لم تكن لديها مشكلة مع الديون، مثل الفتاة الكورية الشمالية “ساي-بيوك” التي كانت ترغب في الوصول للجائزة المادية من أجل أن تدفع تكاليف تهريب والدتها من كوريا الشمالية إلى الجنوبية.

وهو دافع قريب من دافع المهاجر الباكستاني “عبد العلي” الذي يفتقر إلى المال الكافي كي يعتني بأسرته، وعلى جانب آخر نجد “جي-يونج” التي لم يكن لديها هدف محدد كي تحصل على الجائزة المالية، وكذلك الأمر مع رجل العصابات “دوك-سو”.

الفتاة الكورية الشمالية “ساي-بيوك” كانت ترغب في الوصول للجائزة المادية من أجل أن تدفع تكاليف تهريب والدتها من كوريا الشمالية إلى الجنوبية

 

تبدو دوافع “ساي-بيوك” و”عبد العلي” براغماتية بما يكفي كي نستثنيها من التحليل، فكلاهما مهاجر، وكلاهما يجد صعوبة في الحصول على الدخل، وعلى الجانب الآخر نلاحظ أن رجل العصابات “دوك سو” قرر العودة إلى هذه الألعاب مباشرة بعد علمه بخروج عصابته عليه، وفقدانه لموقع الزعامة.

فقد الموقع الرمزي.. دوافع شخصية أكبر من المال

كانت مشكلة “سانج وو” الأكبر هي مواجهة والدته بفشله، لقد كان “سانج وو” هو الابن الناجح العبقري الذي التحق بأفضل الجامعات، ومن المنتظر منه أن يعود إلى والدته بسجل حافل من النجاح والثراء، لكن فشله لم يقتصر على شخصه، بل إنه استخدم منزل ومحل والدته كضمانات للديون، ومواجهة والدته بفشله هو الكابوس الأكبر الذي يخشاه.

ينطبق نمط “سانج وو” على بطل المسلسل “جي-هون”، فهو يحتاج إلى المال كي يسدد ديونه، لكن موعد سدادها لم يأت بعد، ولم يبد عليه القلق من هذا الأمر في بداية المسلسل، بل كانت اللحظة الفاصلة هي لحظة مواجهته لابنته بعدما شاهدته يعتدي بالضرب على زوج والدتها.

بطل المسلسل “جي-هون” الذي يحتاج إلى المال كي يسدد ديونه، لكن موعد سدادها لم يأت بعد

 

كانت هذه هي اللحظة التي فقد فيها موقعه الرمزي الأبوي، تماما كما كان يخشى “سانج وو” فقدان موقعه الرمزي بوصفه الابن الناجح ومصدر فخر الأم، وهو كذلك نفس موقع “دوك سو” عندما فقد موقعه الرمزي كزعيم عصابة.

يمكننا أن نفهم الدافع الرئيس لهذه الشخصيات كلها من خلال ملاحظة مشهد قصير في قصة ضابط الشرطة “جون هو”، إذ يعرض لنا المسلسل قصة ضابط شرطة يقوده بحثه عن أخيه المفقود إلى محاولته اختراق هذه المنظمة، وأثناء بحثه في مكتبة أخيه -الذي سنعلم لاحقا أنه مسؤول عن إدارة هذه الألعاب- تعرض لنا الكاميرا كتاب “نظرية الرغبة” الذي يناقش أفكارها المحلل النفسي الفرنسي “جاك لاكان”.

“الرغبة هي رغبة الآخر”.. فلسفة الوجود والعدم عند الإنسان

يذهب “جاك لاكان” إلى أن هناك طريقتين للموت على الأقل يمر بهما كل إنسان، الأولى هي الموت الطبيعي أو المادي، وهو موت الجسد أو انتهاء عمر الجسد، أما النوع الآخر فهو الموت الرمزي، فهذا الموت لا يحدث مرة واحدة بالضرورة بطبيعة الحال، فالموت الرمزي هو شعور الإنسان بكونه غير مهم، أو بأن وجوده لا يتجاوز حدوده المادي، حيث وجوده غير مؤثر على الآخر.

كتاب “نظرية الرغبة” عند المحلل النفسي الفرنسي “جاك لاكان”، والذي تحدّث عن الموت الرمزي

 

تأتي رؤية “جاك لاكان” للموت الرمزي كجزء من رؤيته للمحرك المركزي للحياة عند الإنسان وهو الرغبة، إذ يرى أن الفارق الجوهري بين الإنسان والحيوان هو الرغبة، فالحيوان يطارد احتياجاته كالطعام والشراب، لكن الإنسان يلجأ في كثير من الأوقات إلى تأجيل احتياجاته من أجل إشباع رغباته. يمكن للإنسان أن يصبر على الجوع في سبيل إنهاء لعبة، ويمكنه أن يعزف عن الزواج من أجل توفير الوقت لتحصيل درجات علمية، أو من أجل الترقي الوظيفي أو العكس.

يقول “لاكان” إن “الرغبة هي رغبة الآخر”، ويعني بذلك أن الإنسان لا يجد معنى لوجوده دون اعتراف المجتمع به، ومن ثم يرغب الإنسان فيما يضفي عليه قيمة بالنسبة للآخر. حيث يرغب في المال كي يكون من أثرياء المجتمع، وبدون المجتمع الذي يعترف به كثري لن يكون للثراء قيمة، ويرغب الإنسان في السلطة كي يتحكم في الآخر، وبدون الآخر لن يكون للسلطة معنى، مما يقودنا إلى أن الصورة الجوهرية للرغبة هي الرغبة في الوجود الرمزي أو الحياة الرمزية.

مجهول محطة الأنفاق.. حين تصبح الصفعة أكثر قيمة من المال

تدفعنا نظرية “لاكان” هذا إلى مراقبة المشهد المؤسس لأحداث المسلسل كلها، ففي هذا المشهد يلتقي “جي هون” بشخص مجهول في محطة مترو الأنفاق، حيث يعرض هذا الشخص عليه أن يلعب معه لعبة أطفال يدفع فيها الخاسر مئة ألف ون كوري جنوبي إلى الفائز، يوافق “جي هون” رغم عدم امتلاكه لهذه النقود.

 

في المحاولة الأولى يفوز الشخص المجهول، وهنا يعرض المجهول أن يعفي “جي هون” من دفع المبلغ مقابل صفعه على وجهه، يستمر الطرفان في اللعب، وتستمر خسارات “جي هون”، ويستمر في تلقي الصفعات الواحدة تلو الأخرى حتى ينجح أخيرا في الفوز، لتكون هذه هي اللحظة الأهم على الإطلاق.

نلاحظ أن “جي هون” الذي لم تسعه نفسه من السعادة قد نسي الجائزة المالية كليا، واندفع كي يصفع هذا الشخص المجهول، وما حدث هو أن المجهول أوقفه، وذكره أن الاتفاق هو دفع مئة ألف ون، ثم دفع له هذا المبلغ.

انتصار بعد فقد الرغبة.. وجه الخسارة الآخر

من وجهة نظر التحليل عند “لاكان” يمكننا تفسير هذا المشهد البسيط في محطة مترو الأنفاق كالتالي، فقد وافق “جي هون” على اللعب في البداية ليس رغبة في المال ذاته، لكن رغبة في الحصول على المال من الآخر. سيعبر هذا الفوز عن نفسه من خلال تحصيل مبلغ من المال يصادف أنه بحاجة إليه.

 

مع استمرار اللعب يظهر لنا أن المال غير مهم بالنسبة للمجهول الذي لا يبدو عليه الثراء فقط، بل هو عمليا غير مهتم بالحصول على المال مقابل فوزه، بل يفضل صفع “جي هون”، ولهذا السبب يفقد المال أهميته عند “جي هون” شخصيا، ومن ثم يفقد الرغبة فيه إلى درجة نسيانه كليا، وتصبح رغبته هي ما يعزز وجوده رمزيا من وجهة نظر الآخر، وهو صفعه أيضا.

نفهم من هذا أن “جي هون” خرج من هذه اللعبة خاسرا، فقد حصل على المال بعد أن فقد الرغبة فيه، ولم يحصل على رغبته في إثبات وجوده للشخص المجهول.

متعة العقبات في طريق الوصول.. منتهى الرغبات

يمكننا فهم السياق الذي دفع أغلب هؤلاء المتسابقين إلى المشاركة بعدما أصبحوا موتى رمزيا بالنسبة للمجتمع، لكن يظل السؤال عالقا لماذا أقيمت هذه المسابقات؟ أو ما الذي يرغب به مقيمو المسابقات؟

 

للإجابة على هذا السؤال يمكننا الاستعانة بالملاحظة التي يقولها “أو إلنام” مؤسس المسابقات، إذ يقول إن العامل المشترك بين الفقير الذي لا يملك شيئا والغني الذي يستطيع أن يملك أي شيء؛ هو أن الحياة تصبح ضجرة بالنسبة لهما. قد يرى الفقراء أن منتهى رغباتهم هو الحصول على المال الكافي للحياة، لكن بمجرد حصولهم على ما يكفي لحل كافة مشكلاتهم يصبح المال بلا أهمية.

يرى “لاكان” أن الإنسان يحتاج إلى ما يرغب فيه، لكنه يحتاج أيضا إلى أن لا يحصل عليه بشكل كامل، مما يعني أنه يحتاج إلى عقبة في طريق وصوله إلى تحقيق رغباته، أو أن يحافظ على مسافة تفصله عن ما يرغب به، وحال اختفاء هذه العقبة تختفي أهمية ما يرغب به، وتتحول رغبته إلى شيء آخر، ويمكن أن نلاحظ أن هذا الجانب للرغبة متحقق في المسلسل بصورة أوضح في جانب الأغنياء. ينطوي هذا الجانب على نوعين، مؤسس الألعاب والممولين.

“فائض المُتعة”.. لعبة المموّل بأرواح الفقراء الطامحين إلى المال

سنعلم في نهاية المسلسل أن مؤسس الألعاب هو “أو إلنام” الذي شاهدناه على طول المسلسل كأحد المشاركين فيها، وكان تفسيره لهذا أنه كان يرغب في الشعور بالحياة مرة أخرى، فبالنسبة له كانت الجائزة في كل لعبة هي النجاة بحياته، فهو لم يكن يرغب في الجائزة المادية بطبيعة الحال، فكان الطريق الوحيد لشعوره بالحياة هو أن تكون حياته في خطر.

مؤسس الألعاب “أو إلنام” شديد الثراء الذي قرر المشاركة في “لعبة الحبّار” كلاعب مخاطرا بحياته

 

هذا ما ينطبق على بطلنا “جي هون” شخصيا في نهاية الألعاب، وذلك بعد أن تجاوز جميع العقبات، وأصبح قيد خطوة واحدة من الفوز بمبلغ من المال، حيث يمكنه أن يكفل له حل كل مشكلاته ويعطيه فرصة أخرى لحياة بلا مشكلات، لكنه في هذه اللحظة يتراجع، وتختفي رغبته في المال، ويحاول إنهاء الألعاب، تماما كما حدث مع المجهول الذي التقى به في محطة مترو الأنفاق.

يمكننا أيضا أن نفهم من هذا أن المسافة الواقعة بين المتسابقين وبين الجائزة المادية المعلقة في سقف غرفتهم كانت هي المحرك الأساسي للألعاب وليس المال نفسه، وعلى الجانب الآخر نلاحظ أن النوع الآخر -وهم الممولون- لديهم ما يكفي من المال كي يفعلوا ما يحلو لهم.

هكذا يصبح كل شيئا متاحا، لكن قدرتهم على الحصول على كل متع الحياة لا تكفي، لهذا يصبح من الضروري وجود ما يطلق عليه “فائض المتعة” بحسب اصطلاح “لاكان”، حيث يتحقق هذا الفائض من خلال مشاهدة ألعاب يقوم فيها الفقراء بالتضحية بحياتهم من أجل الحصول على المال. هذا الفائض هو الذي من شأنه أن يجعل الممولين يستمتعون بما يملكون، أي أن من يملك ما يرغب به لا يمكنه الاستمتاع به دون أن يذكر نفسه أن الآخرين لا يملكونه.

“لعبة الحبّار”.. مستويات عدة في عمل دسم

في النهاية نجح المخرج “دونج هيوك” في إنتاج عمل دسم يمكن الاستمتاع به على مستويات عدة، إذ يحتوي المسلسل على هيكل درامي متميز وشخصيات ذات منطق داخلي متماسك وتسلسل مشوق للأحداث.

 

يقدم مسلسل لعبة الحبار عددا كبيرا من المستويات التي يمكن الاستمتاع به من خلالها، فالمسلسل يقدم تجربة بصرية جميلة، وتجربة درامية مشوقة، وتجربة فكرية عميقة، ويمكن لمختلف أنماط المشاهدين الاستمتاع به.

ربما تكون مشاهد العنف المبالغ فيها مع طبيعة الموضوع السوداوية بعض الشيء سواء كانت مناقشة الطبقية والرأسمالية، أو ما تعنيه الإنسانية؛ غير مناسبة لفئات عمرية معينة، لكن عدا ذلك ففي المسلسل يناسب جميع أنماط المشاهدين.