“لعنة النفط”.. ثروة فنزويلا ووقود آلامها

قيس قاسم

“فنزويلا”؛ البلد الأمريكي اللاتيني الجميل والغني بالموارد الطبيعية، الذي يملك ثروة نفطية كبيرة تكفي عائداتها المالية لوحدها لأن يعيش شعبها حياة مُترفة بعيدة عن الفقر والأزمات، لكن الواقع يقول بعكس ذلك، فالبلاد تعيش منذ سنوات حالة اضطراب سياسي واقتصادي دفع الملايين من سكانها للرحيل هربا من العنف والجوع إلى دول الجوار. إنه وضع مُتناقض يُحيل إلى سؤال ملحاح هو: لماذا؟

أخذ المخرج الإيطالي “ألميليانو ساشيتي” السؤال، وراح يبحث ويبني عليه معمار وثائقيه “لعنة النفط”، متعكزا في عنوانه على تجارب دول أخرى كانت ثرواتها الطبيعية سببا في تعاستها، ومبعثا لأطماع خارجية، وتفشّي فساد حُكّام أوصلها لحالة لا تُحسد عليها، كالتي وصلتها فنزويلا.

 

الهجرة والأطماع الخارجية.. افتتاحية الفيلم

إلى جموع الفنزويليين المحتشدين بالقرب من الحدود الكولومبية توجّه الوثائقي، ومنهم سمع كلاما مؤلما عن أحوالهم وفقرهم الذي يدفعهم للرحيل إلى دولة مجاورة، بدلا من البقاء والعيش في البلد الغني الذي أحبوه وما كانوا يريدون مغادرته، لولا الأوضاع السياسية الخطيرة وسوء الأحوال المعيشية التي لا يرون أفقا قريبا لنهايتها.

يُكرّس الوثائقي الإيطالي الكثير من زمنه للوضع السياسي وخلفية الصراع الجاري بين الرئيسين “نيكولاس مادورو” و”خوان غوايدو” وتصاعده الدراماتيكي الذي يؤشر إلى تحويل البلد إلى بؤرة صراع عالمي بين الدول العظمى (أمريكا وروسيا والصين).

يستعين المخرج ساشيتي بالتاريخ والأرشيف المُصوّر لدعم الخلفية السياسية للصراع الذي أراد عرضه للجمهور بأكبر قدر من الوضوح. وفي سبيل توفير تحليل مُعمّق له أشرك محللين سياسيين ومؤرخين وصحفيين لهم خبرة في شؤون أمريكا اللاتينية، وبشكل خاص الشأن الفنزويلي.

ما قبل التأميم.. عصر الازدهار الاقتصادي

أحوال البلد وتقلبات أوضاعه السياسية خلال أكثر من سبعة عقود ارتهنت بشكل مباشر بالنفط، فمنذ استخراجه من قبل الشركات البريطانية والأمريكية وكشفها عن وجود احتياطي هائل منه؛ أضحت البلاد معتمدة عليه بالكامل.

وبالرغم من أن أغلبية موارده المالية كانت تذهب إلى جيوب الشركات الأجنبية، فإن فنزويلا شهدت خلال فترة الخمسينيات والستينيات ازدهارا ونموا اقتصاديا جعلها الأغنى بين دول المنطقة، فقد وفرت الثروة لها استقرارا سياسيا عجّل في توجهها الديمقراطي. واستمر الحال كما هو عليه حتى عام 1976، وذلك حين أعلنت البلاد تأميم ثروتها النفطية، وقررت إبعاد الشركات الأجنبية من حقولها، وتكليف شركة وطنية مسؤولية التصرف بالثروات النفطية.

الكولونيل “هوغو تشافيز” الذي انتُخب رئيسا لفنزويلا عام 1998

 

سياسة تقشّف.. البحث عن مصادر بديلة

لم تتوقع البلاد انخفاضا في أسعار النفط كالذي حدث في ثمانينيات القرن المنصرم، فقد تراجع مستوى الدخل وأثّر سلبا على قطاعات كثيرة، فكان لا بدّ من مواجهتها بسياسة تقشّف، والبحث عن مصادر بديلة غير النفط.

ولتحقيقها باشر الرئيس حينها كارلوس بيريز بإجراء تغييرات ليبرالية أثارت ردود فعل جماهيرية عنيفة استغلها العسكر لتعزيز مواقعهم. ومنذ ذلك التاريخ والجيش صاحب اليد العليا في إدارة البلاد، وهو من أجبر الرئيس بيريز على التنحي. وفي عام 1998 تم انتخاب الكولونيل “هوغو تشافيز” رئيسا جديدا للبلاد.

“التشافيزية”.. ثورة على خطا “بوليفار”

أطلق تشافيز برنامجا إصلاحيا واعدا أعلن فيه توفير السكن الرخيص للمواطنين، إضافة للعلاج المجاني والعمل للجميع. كما قدم نموذجا اشتراكيا جديدا، وأعلن بدء مرحلة “الثورة البوليفارية” تيمُنا ببطل حركة التحرر الوطني “سيمون بوليفار”.

مضى تشافيز خلال السنوات الأولى من حكمه في إصلاحاته، مصاحبا لها بشعارات رنانة وخطابات وطنية ضمنت له تعاطفا داخليا وخارجيا، وتأييدا لسياساته التي سيُطلق عليها لاحقا اسم “التشافيزية”. أما مشكلته الحقيقية فبرزت مع ارتفاع أسعار البترول ثانية خلال مُفتتح القرن الجديد، فالوفرة المالية أعادت اعتماده ثانية على الموارد النفطية، لتظل أحوال البلاد رهنا بتقلبات أسعار النفط.

الرئيس “نيكولاس مادورو” خلال إحدى خطاباته

 

“نيكولاس مادورو”.. عهد الأزمات والتحالفات

بعد وفاة تشافيز جاء من بعده الرئيس “نيكولاس مادورو”، فأَخَذَ بنفس نهجه اليساري، مع فارق أن وصوله تزامن مع انخفاض أسعار النفط. ففوزه في انتخابات عام 2013 صاحبته تحديات كبيرة، أبرزها التوازن بين النهج “التشافيزي” السابق، وبين متطلبات التوافق مع مُتغيرات كونية تفرض انفتاحا ماليا ومراعاة لقوانين السوق، لكن مادورو لم يُفلح في تحقيق ذلك التوازن، فبدأت بالظهور بوادر أزمة سياسية واقتصادية خطيرة، عبّرت عنها بصراحة خسارة حزبه عام 2015 لأغلبيته البرلمانية.

عطّل الوضع الجديد دور الحكومة، وأوقف العمل بقوانين ومشاريع راهن مادورو على الاحتفاظ بقوته عبرها. أما سياساته التقشفية فأحدثت أزمات معيشية كبيرة، فتدهور الوضع الاقتصادي في عهده إلى مستويات لم تشهدها البلاد منذ قبل، كما انخفض الدخل القومي إلى حدود قصوى، وزادت نسبة التضخم آلاف المرات مئويا، كما وصل الوضع المعيشي الناتج عن كل ذلك في نهاية عام 2018 إلى مستوى “كارثة إنسانية”، ونتيجة لذلك فقد برز أمامه خصوم أقوياء نجحوا عام 2017 في تشكيل تحالف سياسي مُعارض واسع ضدّه، قادر على تهديد سلطته وحتى “الانقلاب” عليها برلمانيا.

“السلّة الغذائية”.. مساعدات لا تسمن ولا تغني من جوع

قبل عرضه التصادم السياسي بين الحكومة والمعارضة يتوقف الوثائقي طويلا عند الوضع الحالي في البلاد، حيث يُقابل أفرادا ويزور أسواقا ومتاجر، ليقدم صورة عمّا يجري فعلا على الأرض.

في العاصمة كاراكاس وفي إحدى الأحياء الفقيرة منها، تعرض سيدة أمام الكاميرا مكونات “السلّة الغذائية” التي تُوفرها الحكومة للمواطنين مقابل مبلغ مالي، فـ”السلة الغذائية” إجراء أرادت به الحكومة تأمين الحد الأدنى من الغذاء للمواطن، ووضع حدّ لسيطرة السوق السوداء على الأسعار، لكنها ولشُحّ مكوناتها لم تفِ بالغرض، ولم تسُدّ حاجة المواطن وبشكل الخاص العائلات، حتى إن شراء المواد الغذائية من السوق السوداء انحصر على الأغنياء فقط، فالفقراء لا يستطيعون برواتبهم المنخفضة دفع أثمانها الغالية. وفوق كل ذلك، كان الناس يعانون من كثرة انقطاع التيار الكهربائي وشُحّ مياه الشرب ونقص الأدوية.

غوايدو خاطب الآلاف قائلا “أؤدي أمامكم اليوم القسم لوضع حد لاغتصاب السلطة” (رويترز)

 

رئيسان وبرلمانان في آن واحد

التدهور الاقتصادي والحصار الأمريكي الخانق على البلاد؛ ساعد على زعزعة السلطة الحكومية، وعلى سيطرة المعارضة على البرلمان، وإعلان رئيسه المدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية “خوان غوايدو” نفسه رئيسا مؤقتا لفنزويلا، وذلك استنادا على نصوص من الدستور تمنح رئيس البرلمان حق إعلان نفسه رئيسا للبلاد في حالة مرورها بظروف استثنائية.

وللتعبير عن رفضه لها نظّم الرئيس مادورو عام 2018 انتخابات جديدة فاز بها. فهكذا أضحت فنزويلا الدولة الوحيدة في العالم التي لها رئيسان وبرلمانان في آن واحد.

مظاهرات خرج بها الشعب الفنزويلي

 

بين الفسطاطين.. انقسام مجتمعي وسياسي حادّ

بعد أسابيع قليلة من إعادة انتخابه خرجت مظاهرات حاشدة تدعو الرئيس “مادورو” للتنحي وترك السلطة للمعارضة، لكنه واجهها بالنار وباعتقال أعداد كبيرة منهم. لقد أحدثت الأوضاع وتصاعدُ أعمال العنف انقساما مجتمعيا وسياسيا حادّا في البلاد. حيث أراد الوثائقي معرفة وجهة نظر كل طرف فيه.

وصل الخلاف إلى العائلة الواحدة، فدخل مُعدّه الإيطالي إلى بيت عائلة من الطبقة المتوسطة، أجبرتها ظروفها الاقتصادية الصعبة على الانتقال إلى منطقة سكنية فقيرة، فالابن مع الحكومة ويعتبر أن سبب الأزمة هي الولايات المتحدة الأمريكية، وحصارها الخانق وغير العادل على بلاده، أما الأم فتُحيل السبب إلى سياسات الحكومة الفاشلة وسوء إدارتها للثروات النفطية، وإلى انتشار الفساد والمحسوبية.

أما الخبراء -حسب ما قدموه من آراء أمام كاميرا الوثائقي- فيجمعون بين السببين، لكنهم يغلّبون دور الحصار وسياسة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فيما تشهده البلاد من مشاكل وأزمات مستعصية، حيث يرجعون إلى التاريخ ويؤكدون أن تدخل الولايات المتحدة في شؤون دول القارة اللاتينية لم ينقطع، وأن الحصار والمقاطعة الأمريكية لفنزويلا بدأ في عهد باراك أوباما، واشتدّ أثناء وصول ترامب الذي ظلّ يُهدّد وهو يخوض حملته الانتخابية بفرض مزيد من العقوبات، وحتى التدخل العسكري إذا تطلّب الأمر.

“عقاب جماعي” مورس ضد الشعب الفنزويلي فخرج الجميع إلى الشوارع

 

المقاطعة الأمريكية.. عقاب جماعي ضد الشعب

يُراجع الوثائقي مع خبراء اقتصاديين فعالية المقاطعة الأمريكية لفنزويلا، ويعتقد أغلبيتهم بفشلها على ضوء تجارب سابقة تضرّر بها عامة الناس، فيما ظلّت الأنظمة على حالها.

ويُقدّم الخبراء ارتفاع نِسب الوفيات خلال سنوات الحصار مثالا على ذلك، فقد أدى نقص الدواء وسوء التعذية إلى ارتفاع نسبتها إلى 31% مقارنة بالسنوات التي سبقتها، كما يصفون هجرة ملايين الناس في ظروف قاسية إلى دول الجوار بأنه “عقاب جماعي” ضد الشعب الفنزويلي، لا ضد قيادته التي استطاعت -بفضل العون والتدخل الخارجي- حماية مصالحها والبقاء في سدة الحكم.

إحدى الأسواق في فنزويلا

 

روسيا وأمريكا.. عادت حليمة إلى عادتها القديمة

يؤكد الوثائقي خلال مراجعته الدقيقة المدعومة بالوثائق والتسجيلات المصورة التوصيف الوارد في أكثر من مناسبة؛ بأن ما يجري من صراع بين “الرئيسين” غوايدو ومادورو، هو انعكاس لحرب باردة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية.

وبالزعامة المؤقتة لرئيس البرلمان اعترفت حوالي 50 دولة، فيما دعمت بقاء مادورو في الحكم روسيا والصين وكوبا ودول أخرى قليلة.

استندت روسيا في دعمها للحكومة بالمعاهدات الموقعة بينهما، وراهنت على جعل فنزويلا ورقة تفاوضية قوية مع الولايات المتحدة الأمريكية في شؤون أخرى، مثل التباحث حول الحد من الأسلحة النووية وغيرها.  فيما ظلت كوبا تقدم الدعم له مقابل حصولها على النفط مجانا أو بأسعار زهيدة. لديها غير الأطباء والممرضين مستشارين عسكريين.

وتجد الصين في الصراع وحاجة فنزويلا للدعم فرصة ذهبية لتعزيز وجودها الاقتصادي في القارة اللاتينية.

أما الولايات المتحدة الأمريكية فتنطلق من رؤية جيوسياسية، حيث تعتبر القارة حصتها التي لا يحق لأحد الاقتراب منها، فهي تستند في موقفها إلى دورها منذ عدة عقود في منع انتشار الاشتراكية فيها، إلى جانب خوفها الدائم من ظهور “نظام شيوعي” في حديقتها الخلفية.

يقوم الوثائقي بمراجعة تاريخية للعلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والقارة اللاتينية، ويتوقف مؤرخون استعان بهم الوثائقي كثيرا عند “مبدأ مونرو” (1823) الذي يرون فيه بداية انطلاق مرحلة التوسع الأمريكي في القارة، وما زال الشعور بالهيمنة وحق التصرف بدولها قائما، فخطابات الرئيس ترامب وتهديداته بالتدخل العسكري تكشف جانبا منها.

مواطن فنزويلي يرفع العلم الفنزويلي خلال مظاهرات خرج بها الشعب

 

مكافأة العسكر.. عودة قانون الغاب

من أخطر ما أفرزه التدخل الخارجي في الصراع الداخلي الفنزويلي تعزيز دور الجيش في الحكم؛ كما يثبته الوثائقي الإيطالي الغزير المادة، والتحليلي المشغول بأسلوب سينمائي مشوّق.

فبعد فشل محاولة انقلاب غوايدو ونزوله للشارع في انتظار تحرّك مجموعة من الضباط اتفق معهم للسيطرة على مقاليد الحكم؛ استعاد قادة عسكريون موالون لمادورو الوضع وثبّتوا أركان النظام، وكان عليه أن يُكافئهم، فمنحهم ربع الوزارات الحكومية بما فيها الدفاع والداخلية والعدل، وأوكلت للحرس الوطني مهمة حماية الآبار النفطية والمناجم، إلى جانب إدارة كبار ضباطه لـ”السلّة الغذائية”.

يلاحظ المحللون أنه وخلال فترة قصيرة من سيطرة العسكر على الإدارات الاقتصادية شاع الفساد، وكثُر تهريب النفط إلى كولومبيا، وعادت تجارة المخدرات بقوة ثانية، وزادت عمليات تهريب العملة الصعبة، إلى جانب تصاعد أعمال العنف وانتهاك حقوق الإنسان. وبالأرقام التي حصل عليها الوثائقي من مصادر حقوقية فإن عدد الذين قُتلوا خلال عام 2018 بلغ حوالي خمسة آلاف مواطن، وذلك بحجة خيانتهم الوطن والتعاون مع المخابرات الأمريكية.

المشكلة التي ينتهي إلى تثبيتها الوثائقي بعد عرضه نتائج الوساطات الغربية لتقريب وجهات النظر بين الحكومة والمعارضة وعدم نجاحها؛ هو أن البلد بات مفككا، فكل طرف فيه متشبث بمواقفه ولا يريد التخلي عنها، والتدخلات الأجنبية تزيد من رفع درجة التوتر بينها، فيما يدفع المواطن الفنزويلي ثمن ذلك غاليا.