“لن أموت لاجئا”.. هروب من الموت وبحث عن شبر تراب

 

ما الفرق بين السجن والمعتقل، والمأوى والمعسكر، والمخيم والملجأ؟ وما الفرق بين السينما التسجيلية التي تخاطب الضمير مباشرة والسينما التي تخاطب ضمائر الغائب؟ ما الفرق بين الحياة المصوّرة في قالب فني متقن والحياة الخارجة عن إطار الصورة؟ وما الفرق بين قيمة الفلسطيني في الذهنية الغربية، وقيمة المارّ في شوارع نيويورك أو باريس أو لندن؟

الوطن خريطة يرسمها المنتصِر، ويشوِّك حدودها بأسلاك تمزق أحداق الأطفال كل يوم، والوطن جسم نحيف يتقلص فيه القلب وحلم الأرض وفُرص العودة كل يوم. فالهجرة التي جعل منها فيلم “لن أموت لاجئا” فكرته المحورية؛ تُسافر بنا من صفد إلى وادي السمك، ومن عين الحلوة إلى عدسة المخرجة، ومنها إلى ماضينا وحاضرنا، ومن فلسطين عبورا بسوريا ولبنان.

 

الفلسطيني واللجوء.. لولا الأمل

يفتح الفيلم الذي أخرجته بهية نمّور قوائم المدن والقرى والمهاجرين مشتِّتة الشمل والمتاع، ويعُدُّ معنا فصول القصف ووابل الرصاص وصفحات التاريخ ووعد بلفور عام 1917. إنه فيلم الهروب من الموت، وفيلم البحث عن شبر من التراب ينام فيه الفلسطيني.

هو فيلم يُفضل في سرده الحديث عن الحب والأمل، والذي من دونه لا يهاجر الفلسطيني ولا يحاول بدء الحياة من جديد كل يوم. فما الفرق بين المخيم في البلاد العربية وحياة الفقراء في شوارع العواصم الأوروبية المتحضرة؟

يتردد الفيلم في تعاطفه مع شخصياته بين “الريبورتاج” المستعجل تصويره تارة والتسجيلي المتقن تنفيذه، كأنما صُوِّر بطاقم مهروِل وآخر مطمئن. لكن شخصيات الفيلم لا تتردد في بحثها المتواصل عن البيت والماء والعمل وجواز السفر والخبز وغدٍ حرّ.

اختارت المخرجة في تركيبها مأساة الفلسطينيين التوقف أمام لقطات عابرة تلفت البصر، وتقصُّ لنا من أسرار المخيم أكثر مما يقصه أبطال الفيلم. مكبِّر صوتٍ ثُبِّت بين أسلاك الكهرباء المتماسك نسيجها يشير إلى مسجد بدون منارة، والعصافير في أقفاصها تغرد للوطن المفقود ولا تحسد المارة على حريتهم المسروقة، وآثار القصف جلية كأنها بقايا بركان صامت نُصب قبل التاريخ، غير أن الكاميرا تبدو كأنها باب سمسم، ويعتقد المُستجوَب أمامها أن العدسة ستُطل به على الجنة، فيُحوّل الفيلم إلى ملف شكاوى ويجعل منا شاهد عيان مكتّف الأيدي.

اختارت المخرجة في تركيبها مأساة الفلسطينيين التوقف أمام لقطات عابرة تلفت البصر، وتقصُّ لنا من أسرار المخيم أكثر مما يقصه أبطال الفيلم

موسيقى.. عبء أثقل من الوزن

استخدام الموسيقى المتواصل قد يصير عبئا لا تقدر شخصيات الفيلم دوما على حمله، فهم يحملون قضية أثقل من وزنهم، وليسوا بحاجة لاستعطاف المشاهد، لأن الفلسطيني لا يتسوّل دورا دراميا في شريط تلفزيوني، ولا يريد أن يظهر كقدّيس انهارت عليه أسقف العالم ظلما. فهل يحتاج الفيلم التسجيلي للوتر الرنان، أم أنه فن استدراك العقل أكثر منه فن مناديل الدموع؟

لحظات أمام الطفل المداعب لكيس بلاستيكي أبيض مربوط بنهاية غصن شجرة رقيق يرفرف كعلم الجندي المستسلم في جبهة القتال، تذهب الكاميرا إلى وجه الطفل المتفائل لنتكهن من حركته المكررة أنه يبحث عن فراشات الحدائق البابلية المعلقة، وأنه لن يستولي في كيسه إلا على حشرات الليل الزاحف على ابتسامته

لا يعرف الطفل أن حلم الفراشات الوهمية الذي يراوده لا يتعدى مساحة السجن الذي يؤويه، وأطفال آخرون يبحثون عن الماء لتزويد أمهاتهم بدلو يتداولونه من حنفية لأخرى كل يوم. وهناك لقطة بائع الفول في المسالك الضيقة يبحث عبثا عن زبون يجرؤ للتضحية بآخر قرش في جيبه الحزين، تستريح الكاميرا لحظة فوق عربة البائع؛ لنرى من زاويتها سعر الفول الغالي، ونشعر إثرها بأن الرزق مسدود كنوافذ المخيم.

“روضة البهاء” ورملها المستعار من شاطئ طليق تستقبل صِبية وتُخفف من حرمانهم من البحر الذي لا يعرفون خط أُفقه. الفلسطيني الحائز على شهادة محاسب لا يُوظَّف حسب تأهيله وكفاءته، والفلسطيني بالمخيم ليس له الحق أن يمارس أُبُوته اليومية، لأنه يخرج بالظلمة بحثا عن القوت ويرجع بالظلمة بعد نوم أطفاله، إنه الأب الخيالي لأطفال سُجنوا بغير ذنب.

فيلم بهية نمّور لا يكتفي بتقديم بطاقات تعريف شخصياته وهويتهم الفردية، بل يرسم خرائط نزوحهم

خرائط نزوح.. طعم الموت

فيلم بهية نمّور لا يكتفي بتقديم بطاقات تعريف شخصياته وهويتهم الفردية، بل يرسم خرائط نزوحهم. فالفلسطيني في الفيلم تُحجَز حياته وتُكدَّس في المعسكر كأنها بضاعة انتهى تاريخ صلاحيتها بميناء تصدير لا بواخر فيه.

فإذا كان الفلسطيني يكتفي بأدنى شيء في المخيم فليس هذا لصغر حلمه وإنما لكبر تفاؤله، لأننا أحيانا عندما لا نصل إلى ما نحب قد يكون أذكى لنا أن نحب ما نصل إليه، فالفلسطيني يعرف أن طعم الموت هو نفسه في المخيم وفي الوطن السجين.

إن الشعب “المعتّر والمشحّر” بحسب السيدة التي تختفي تحت خيمة للهلال الأحمر -رمز الإسعاف العربي الغائب- “تعتّر” صوتها في سردها للحلم الغائب، لكن “لن أموت لاجئا” لا “يتعتّر” ولا “يتشحر” ولا يبخل بالتقاط شيء من الحياة رغم الموت المحلّق من حين لآخر.

يردد خالد مصطفى مُلحّا للافتة كتب عليها “هذه الإنسانية قالت كفى”، فتحطُّ الكاميرا إطارها على خط بليت حروفه ورثت. لكن مُركِّب (مونتير) الفيلم لم يكتف بقوة اللقطة وراح يعيد الصوت ويكرر صداه، كأنه يتوجه إلى مُشاهد في عامه الابتدائي الأول. فلماذا يستعمل الفيلم التسجيلي المؤثرات الصوتية المبالغ فيها، مبتعدا بذلك عن صفاء اللغة السينمائية وبلاغتها البسيطة، ولماذا لا تثق المخرجة بذكاء المشاهد وحساسيته المتناهية؟

يواصل الفيلم تفقُّد المخيم لتقف العدسة على كرة يبدو من صوت ركلتها أن جوفها منفوخ نِصفه، والنصف الآخر يبحث عن الهواء. الكرة كعادتها مطاطية كانت أم بلاستيكية تحب الأقدام، وتجلِبُ ركضا عفويا للأطفال. أما المباراة فهي عشوائية يغيب فيها الجمهور والشِّباك والمدرّج والحُكّام والمعلِّق، ما عدا كاميرا بهية التي صورت أقداما تسعى ذات يوم إلى ملاعب مدريد ومبلييه والمنزه و”5 جويلية” المسدود الطريق إليها الآن.

إن الاستماع إلى خليل حاملا بجوفه ذاكرة زوجته وجنينها اللذين اقتطف منهما الطيار الإسرائيلي الحياة قبل أربعة أيام من الولادة؛ تتحجّر له المفردات وتنحني أمام مقاومته للجحيم، فلا وجود لحياته إلا لكونه شاهداً على حياة حُبه وابنه الذي لن يلتقي به أبدا. فخليل دخل جنة الزواج تسعة أشهر بعد 38 عاما في قانون العزوبة كي يقطف فيها الطيار حبه فجأة ويرجع به إلى خانة البداية. فهل يصير المخيم جنسية جديدة لشعب يبدو أنه من دون البشر في ملفات الأمم المتحدة؟

يتردد الفيلم في تعاطفه مع شخصياته بين “الريبورتاج” المستعجل تصويره تارة والتسجيلي المتقن تنفيذه، كأنما صُوِّر بطاقم مهروِل وآخر مطمئن

70 عاما.. قهر وعتبة حلم

الفيلم التسجيلي بوابة تساؤل مستمر حتى وإن أغراه التماطل على الجمهور أحيانا لتعاطي التلفزيون الأسلوب البكائي. فكيف يتساءل الغرب عن الجسد المفجِّر لنفسه عندما تكون أجيال بكاملها انفجر الحلم فيها منذ سبعين عاما؟

يقول الشهيد الجزائري العربي بن مهيدي للمستعمر الفرنسي عندما سأله صحفي عن التفجيرات التي نفذتها جبهة التحرير آنذاك في حانات بالعاصمة الجزائرية؛ “أعطونا وليوم واحد فقط طائراتكم ودباباتكم وسنعطيكم قنابلنا التقليدية، حينها ستفهمون حقا معنى القهر”.