“ليل”.. عدسة إيطالية تسبح في ظلمات العراق الجريح

د. أحمد القاسمي

هل كان المخرج الإيطالي “جيانفرانكو روزي” وهو يجمع مشاهد متفرقة من الحزن العراقي ويعنونها بـ”ليل” يدرك أن المتنبي قال بلوعة ذات رثائية:

أَرى العِراقَ طَويلَ اللَيلِ مُذ نُعِيَت

فَكَيفَ لَيلُ فَتى الفِتيانِ في حَلَبِ

وهل يدرك أنه بإخراجه للفيلم كان يرثي دولة بحالها، بينما كان أبو الطيب يرثي خولة أخت الأمير الحمداني بلوعة وربما بعشق مكتوم؟

يرصد هذا الفيلم الوثائقي الأوروبي (إنتاج إيطالي فرنسي ألماني 2020) مقاطع من الحياة اليومية على الحدود الشمالية للعراق بعد سقوط تنظيم داعش على مدار ثلاث سنوات، ويصوّر بلغة سينمائية عميقة ما خلفه العنف من دمار مادي ومعنوي، ويرسم ما يتطلع إليه الأهالي من أحلام وآمال. لكن “كلام الليل مدهون بزبدة” يقول المثل الشعبي، والتعاطف الظاهر مع معاناة الأهالي يخفي تلاعبا بالعقول يدفعها إلى أخطر المصادرات من حيث لا تعلم.

 

صيحات الجنود وعويل الثكالى.. “كلنا في الهم شرق”

في هذا الفيلم لا يصمت التقنيون فحسب حين تبدأ الكاميرا تُسجل لقطاتها، بل إن الشخصيات تصمت أيضا، فتتتابع المشاهد الصامتة، وأول ما يستهل به العرض مشهد تدريبات جيوش مشاة. يعدو الجنود في شكل أفواج حول مضمار للتدريب، فتمر مجموعة أولى فثانية فثالثة، وتعيد كل واحدة الصيحات المزلزلة نفسها، وكلّما ابتعدت مجموعة تناءت أصواتها، ثم تناهت أصوات جديدة لمجموعة أخرى تقترب شيئا فشيئا. فمن يكون هؤلاء الجنود؟ ولماذا يطيل المخرج في عرض هذا المشهد المرعب؟

تغيب الصورة ثم يظهر العنوان “ليل” (Notturno)، ويعقبه مشهد لنساء متشحات بالسواد وهن يقتحمن قلعة مدمرة كانت تتخذ معتقلا إلى وقت قريب، ثم يأخذن في العويل بلهجة محلية. ماذا عساهنّ يقلن؟ لا شك أنهن يرثين أبناء أو أزواجا قضوا نحبهم في هذا المعتقل، وأنهن يعرضن سيرهم، حيث نهايات مؤلمة لأبطال أبلوا البلاء الحسن قبل أن يلقى عليهم القبض.

لا يجد المخرج ضرورة لترجمة أقوالهن أسفل الشاشة، فـ”كلنا في الهم شرق”، وكلنا في العراق ليل، والمهم أنهن يمنحن الكاميرا المبرر للغوص في هذا العالم السفلي المحطم، وأنّ نواحهن يوجه إدراك المتفرّج إلى الشجن، وإلى قراءة الصورة ضمن سياق جنائزي يغني الفيلم عن كل موسيقى تعبيرية.

وعلى الإيقاع نفسه من المشهد نفسه تتعلّق عجوز نائحة بجدران قلعة المعتقل كأنها تحضنها، ثم تسترخي لتسحب صورا قديمة لمقاتل كردي ملقى على الأرض، فالوجه مدمى وحبل المشنقة يلف رقبته، إنه معارض لنظام صدّام إذن، جرى إعدامه ثم التنكيل بجثته، وهذه الصورة كانت رسالة لمن يفكّر في أن يسلك طريقه.

وها هي القلعة تشهد مآسي أخرى، وأبطالها المعتدون داعشيون هذه المرة، بينما يظل الأكراد يتقمصون دور الضحية، ثم يأخذنا المشهد الثالث إلى الحياة المدنية، إلى ذلك الشاب الذي يعبر المسارب الفلاحية على دراجته النارية لصيد البط في البحيرات غير عابئ بزخات الرصاص التي يسمع صداها من بعيد، وعلى هذا النحو تتجاور المشاهد مفككة كما تقتضي سينما الفواصل.

 

ذهن المتفرج.. شريك عملية الإخراج الثانية

للوثائقي أنماط عديدة، فمنه التحليلي والحجاجي، وكلاهما أقرب إلى الدراسة العلمية، ومنه الوثائقي السردي الذي يميل إلى عرض المغامرات، أما سينما الفواصل فتجاور بين مقاطع من الحياة العامة كما اتفق أو دون منطق جلي على الأقل. ويظل فيلم “الرجل صاحب الكاميرا” (Man with a Movie Camera) للمخرج “دزيغا فرتوف” الذي يعرض مقاطع مختلفة من الحياة اليومية مدينة أوديسا الروسية عام 1929؛ فاتحة هذا الاتجاه وذروته في الوقت نفسه.

وعلى نهجه تتوالى مشاهد الفيلم، حيث تتسمر الشخصيات أمام الكاميرا صامتة مغرقة في التأمل أو التألم، ويختار المخرج ما يصطلح عليه بـ”مونتاج القطع”، وهو ضمّ المشاهد المتباعدة ضما يُجافي كل ربط منطقي بين المشاهد المتعاقبة، أو تتابع خطي بينها، فتتدافع الصور دون إشارات مساعدة أو صوت سارد مُعلق من خارج الإطار يسعف بالمعلومة التاريخية. ومَن غير المتفرج يوكل إليه إعادة بناء المشاهد وفق خطيتها أو ترابطها المنطقي؟

فكما يحوّل سعد الله ونوس رأس جابر إلى جلد تخط عليه الرسائل في مسرحيته الشهيرة “رأس المملوك جابر”، فإن فيلم “ليل” يحوّل رأس متلقيه إلى غرفة للمونتاج، ويجعل المتفرّج شريكا في “عملية الإخراج الثانية”، كما يشار دائما إلى هذه المرحلة التقنية والإبداعية.

صورة للطفل العراقي الذي يقف متعثرا أمام شجرة عملاقة هي لوحة تختزل الطفولة المعذبة في بلد عملاق تكاد الرياح تعصف به

 

إعالة المنزل أو سوق النخاسة.. ألوان الطفولة في العراق

حالما يسلم المتفرّج بالدور، ويقبل الشراكة في إخراج الفيلم، تأخذ قصص صغرى مفككة في التجمع والطفو على السطح، فهذا الطفل الذي نراه في مشاهد متعدّدة يرافق صيادي السمك أو صيادي الطيور؛ يعود منهكا إلى المنزل وسط عائلته وفيرة العدد. لقد فَرض عليه واقعه أن يتقمص دور الأب المعيل بدل الذهاب إلى المدرسة، أين ذهب والده؟ هل هو في الجبهة؟ هل قتل من قبل داعش؟

للمتفرّج الحرية في اختيار الاحتمال الذي يريد، لكن مهما كان اختياره فلن يبتعد كثيرا عن تلك الصورة التي يلح عليها المخرج، وهي صورة الطفل الذي يقف متعثرا أمام الشجرة العملاقة التي تذروها الرياح وتكاد تقتلعها من جذورها، لتتحول الصورة إلى لوحة تشكيلية تختزل الطفولة المعذبة في بلد عملاق تكاد تعصف به الرياح التي تهب من كل جانب.

والطفل لا يشعر بطفولته إلا في أحضان أمه، وأنّى للطفل العراقي بهذا الحلم البسيط وقد فرض عليه اليتم حقيقة أو مجازا، فكثيرات هن نساء الفيلم، لكنهن نساء أجبرن على اعتزال الأمومة رغم أنوفهنّ، فهن كرديات التحقن بالثكنات واحترفن الحرب، أو إيزيديات تساومهن داعش لدفع فدية تحرر بناتهن قبل بيعهن في سوق النخاسة، أو داعشيات مثقلات بالوحل والعار.

قلعة ضخمة في بناء دائري في العراق من داخله عبارة عن مُعتقل مليء بالخراب والظلام والموت

 

قلعة المعتقل.. عشتار تسحبنا إلى عالمها السفلي

يعرض الفيلم مشاهد من أماكن متباعدة من الشمال العراقي، حيث شوارع ومعاقل ومخيمات تكتظ باللاجئين أو الأسرى، وعلى تباينها تشترك في السمات نفسها، فالمخيمات تغرق في الوحل، والشوارع خالية والمنازل مدمرة. أين رحل قُطانّها؟

لا بد أنهم لاجئون في تلك المخيمات أو سجناء في تلك المعاقل، وقد تسعفنا الكاميرا ببعض البيوت المأهولة، فتنفذ إلى الغرف البسيطة حيث يتكدّس الأطفال الذين يعيشون على الكفاف، وحيث تعاني النساء تبعات الحرب.

ويختزل المعتقل في المشهد الثاني الفيلم بأسره، ففي طريقة التصوير تمجيد لهذا الامتداد الضخم الذي لا نهاية له، حيث تنتصب القلعة في بناء دائري في المركز، بينما يمتد جناحاها يمينا وشمالا إلى ما لا نهاية. ثم تنفذ الكاميرا إلى الداخل وتأخذنا إلى أروقته ومدارجه التي تسحبنا إلى الدهاليز، حيث عالم الخراب والظلام والموت، وكأنها تتحول إلى فرشاة، فلا تحاكي الواقع الخارجي، وإنما ترسم أشكالا، فالممرات ضيقة والظلام دامس والأوساخ متراكمة، ولا يطل على الخارج من هذا السجن إلا ثقوب الجدران التي أحدثها القصف، هل نحن في رحاب الأسطورة البابلية؟ هل كانت عشتار تسحبنا إلى العالم السفلي كما كانت تفعل مع تموز في فصول القحط؟

لكن عشتار آلهة الخصب البابلية تحرر حبيبها في فصول الخصب لينمو الزرع وتشبع البطون، أما عشتار الفيلم فتظل سجينة عالمها السفلي، وأما تموز فمُغيّب. لا شكّ أنه كان وقودا لحرب ما بلا معنى، ولا شك أن القلعة تختزل صورة لعراق المجد والحضارة التي غدت صنوا للدمار المادي والروحي.

العراق الجريح المهدّم بعد عهود من الاحتلال والغزوات والإرهاب

 

“لك الله يا وطن”.. مسرحية في مستشفى الأمراض العقلية

يفرض المتنبي نفسه على ورقتنا هذه مرّة أخرى، حيث يصف قلعة “الحدث” التي يجعلها سيف الدولة قاعدة خلفية لقتال البيزنطيين، فيرى قتلاهم المعلقة على جدارها أشبه بالتمائم التي تعلق في عنق المجنون ليشفى.

أما في الفيلم فيصيب الجنون العراق بأسره، فحالما نحولّ الرأس إلى غرفة للمونتاج، ونجمع النتف المتباعدة تتماسك مشاهد إحدى شخصيات الفيلم، وتشكل حكاية فرعية من بين الحكايات الكثيرة المتداخلة؛ يتسلل المخرج المسرحي إلى مستشفى الأمراض العقلية، ليجعل من بعض رواده ممثلين يتدربون على مسرحية موضوعها هذا الوطن الجريح الذي تدمره الاضطرابات السياسية، بداية من الملكية الفاسدة، إلى الانقلابات العسكرية، إلى الحروب المتتالية وما خلفته من احتلال وغزوات وإرهاب.

ولا تخلو المسرحية من خطاب مباشر فج، متفائل حينا نحو “نحنا ما راح نموت، راح نبقى وراح يبقى الوطن”، أو متشائم حينا آخر نحو “والله ما أدري شو راح يصير مصيرك يا وطن من بعد داعش القذرة، والحكومات العميلة التي فضلت مصلحة الأجنبي على مصلحة الوطن، ما أدري شو راح يكون مستقبلك يا وطن، إلك الله يا وطن، إلك الله يا وطن، إلك ألله يا وطن”.

ورغم كونها ترد في الدرجة الدنيا من الصياغة الفنية، فإنها تحاول أن تجسّد معاناة العراقي في ليله الطويل، وقد جُنّ ولا علاج له بغير الفن الذي يرفع من إنسانية الإنسان بعد أن هتكتها السياسة والحروب.

الفقر المدقع يسيطر على الواقع العراقي رغم المياه العراقية السابحة التي تضيع هدرا

 

سحر الشرق وأنينه.. مشاهد العراق تلخص الواقع العربي

لا مراء في أن فيلم “ليل” كان ينقل بصبر وأناة مشاهد من الواقع العراقي، فيرصد وقائع لم يصل السينمائي العربي إلى كل تفاصيلها، مثل مَشاهد الحرب ومخلفات الإرهاب وتفكك الدولة وسلطة الميليشيات ومعاناة النساء والأطفال والبنية التحتية المتهالكة، والفقر المدقع رغم المياه السابحة والأراضي الخصبة، فيشير بسبابة سرية إلى مشكلة الحوكمة التي تعيشها العراق، ويعيشها العالم العربي عامة، ويفتح أعيننا على أمة احترفت تدمير قدراتها، بينما يعمل منافسوها الإقليميون على البناء والتشييد.

لكن رغم كل هذه الإيجابيات التي جعلته محل ترحاب نقدي، فإن الفيلم لم يخل من هنات كشفت عن وجهه الاستشراقي في دلالته السلبية.

يُعرف الاستشراق بكونه الانفتاح على عالم الشرق، وبديهي أن يكون المنفتح غربيا أساسا، فيدرس ثقافته وفنونه ويعرض مباهجه وسحره، ولا ينكر فضل المستشرقين على ثقافتنا إلا جاحد، فقد حفروا عميقا في كنوزنا المهملة، وحققوا الإنجازات الرائدة في مختلف المجالات، وتجشموا الصعاب في النبش عن الماضي وتحقيق المتون ونشر الكتب.

لكن ليس الاستشراق خيرا كلّه، لذلك لم يسلم من ريبة جعلت الغلاة يتهمونه بالانحراف والجوسسة والعمل على التبشير والتنصير، وجعلت المتعقلين يتهمون بعضه بإسقاط تصورات الغرب على مباحثهم دون محاولة فهم جوهر الثقافة العربية أو روحها.

همج الصحراء.. صورة العربي البدوي في السينما

لطالما كان الاستشراق يضرب في ميادين مختلفة من الفنون الإنسانية، وقد طال فنون السينما أيضا، لكن من سوء الحظ لم يدرك عمق نظيره في الدراسات الأدبية والحضارية، فكان غالبا ما يكتفي بتصوير العرب باعتبارهم صحراويين يعيشون البداوة والثراء الفاحش، ولا يسلمون من وحشية ونزعات فطرية تجعلهم يعجزون عن مواكبة الحضارة، وتدفعهم إلى الإرهاب.

والمعالجة الفنية لفيلم “ليل” جعلته تقليبا جديدا لهذه الرؤية الاستشراقية المتعالية، فطريقته في المونتاج التي تضم صورا متباعدة دون بُعد تحليلي جعلته يسقط في البُعد الوصفي، ويكتفي بالمستوى السطحي من المأساة العراقية.

فقد كان يمد المتفرّج الغربي أساسا وغير العارف بخلفيات المأساة العراقية بمكونات دنيا، ينتهي التأليف بينها إلى المصادرة على أن ليل العراقيين والعرب عامة بلا خيل، وأنهم كثيرا ما يُعملون السيف بجنون، حيث لا قرطاس ولا قلم، فهم عاجزون عن بناء الدولة الحديثة ومواكبة الحياة المدنية، وينزعون فطريا إلى الاقتتال، ويفشلون باستمرار في التعايش السلمي.

 

دس السم في العسل.. زيف الدعاية الاستعمارية

أخطر المصادرات التي تنطق بها سينما الاستشراق، أنّ هذه الحالة الفوضوية متأصلة في الذات العراقية مغروسة في جيناتها، بما أنها تلازمهم رغم تقلب الأحوال وتغيّر الأزمان.

ولا تخلو هذه الأطروحة من الخطورة، فعبرها بررت أوروبا الاستعمارية حروبها على الشعوب الآمنة لقرن مضى ونهبها لخيراتها، والعارف بالتاريخ العراقي المعاصر يدرك زيفها جيدا، فكل هذا الخراب الذي تعرضه الكاميرا إنما يعود إلى أسباب جيوسياسية تؤكدها كواليس السياسة والمصالح الدولية التي قوضت استقرار المنطقة، واستثمرت في الإرهاب والحروب، فالعراقي في جوهره بانٍ لأعرق الحضارات في التاريخ، وليس كائنا مفسدا في الأرض لا يتقن العيش إلا في الخراب والدمار.

يظل الحقّ في التعبير مكفولا طالما أن المعبّر لا يورط نفسه في خطاب تقريري مباشر يجافي الحقيقة، وأنه لا يدس وجهة نظره طيّ الإيحاء والتلميح، لكن لا بدّ من مجادلته عبر الفن والفكر، وهنا تلقى اللائمة على صُناع السينما العرب، فدورهم الذي تقاعسوا عنه أن يسدوا مثل هذا الفراغ الذي استغله صُنّاع فيلم “ليل” بالأفلام العميقة الجادة، ودور النقاد كذلك أن يصححوا مثل هذه الأطروحات الضمنية، وأن يبرزوا خطورتها.

أليست السينما مسألة وطنية وقومية؟ ألم تصبح عدسات الكاميرا اليوم السلاح البديل عن فوهات المدافع؟ فبها تكتسب العقول مناعتها في زمن بات فيه الغزو فكريا ثقافيا بالأساس.