“ماء صالح للشرب” و”فرح”.. نظرة غربية لأحوال المرأة العربية

قيس قاسم

مقاربة الوثائقيين السويسري “فرح” والألماني “ماء صالح للشرب” لأحوال المرأة العربية فيها خصوصية، كونهما يقترحان عرض تجارب وظواهر اجتماعية في بيئة غريبة على صُنّاعها.

وإذا كانت الألمانية “دانيلا كوينغ” قد التقطت تجربة عمل أول “سمكرية” في الأردن، والتي دخلت مجالا مهنيا حصرا على الرجال، وأرادت من خلالها عرض أحوال المرأة وتناول بعض المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها البلد؛ فإن المخرجة السويسرية “جوليا بونتر” قد ذهبت لرصد “مشروع” الزواج في مصر، وما يكتنفه من تعقيدات واعتبارات ليس من السهل على صانع وثائقي أجنبي الإلمام بها، ومن دون فهم جيّد لها ربما يأخذ منجزه هيئة تقرير تلفزيوني قد لا يختلف كثيرا عن تقارير أخرى غربية، كانت مُنطلقاتها غالبا مَبنية على أحكام مسبقة للموضوع المقترح بحثه، وبشكل خاص تلك المتعلقة بالموقف من المرأة العربية والمسلمة.

 

أول أردنية في حقل السباكة.. انحياز أنثوي

اللافت في المخرجتين أنهما تجنبتا الخوض في التفاصيل الدقيقة المحيطة بكل جانب من جوانب معالجتهما الدرامية، واكتفت كل منهما بحصر مساحة بحثها في النقطة التي جاءت من أجل رصدها، مما أدى إلى تحجيم مساحة تحركهما، وبالتالي تسطيح معالجة الفكرة، مع وجود بعض الجهد لإضفاء أبعاد أعمق عليها.

نجد ذلك في الوثائقي الألماني “ماء صالح للشرب”، فمع أنه يبدو منشغلا في رصد تجربة “خولة” بوصفها أول امرأة أردنية تعمل في حقل السباكة، فإنه حاول ربط المهنة بمشكلة شُحّ الماء الصالح للشرب في الأردن. فالعلاقة نابعة من مهنة ذات صلة بـ”المواسير” والمياه، ومرتبطة بدخول المرأة في حقل ذكوري بامتياز.

على طول الخط ومع تطور قصة “النساء السباكات” كانت هناك دوما على الشاشة صورة شاحنة لتوصيل المياه الصالحة للشرب للمناطق البعيدة، يقودها سائق لا ينطق إلا نادرا.

الانحياز الأنثوي واضح في نص المخرجة الألمانية، لكنه غير مفتعل، بل هو انحياز نابع من طبيعة النساء اللواتي رافقتهن في مسيرة صعبة رأت خلالها الكثير من الأوجاع والانكسارات، وإلى جانبها كانت هناك نجاحات وآمال كبيرة في تحسين أحوال أردنيات لا تنفصل مشاكلهن الاقتصادية والاجتماعية عن مشاكل البلد نفسه.

خولة وعائشة ورحاب يُصلّحن المواسير على أحد الأسطح الأردنية ضمن مشروع “السباكات” الذي قمن به

 

مشروع السباكات.. رغبة في حياة كريمة

انبثق مشروع “السباكات” أساسا من دوافع اجتماعية مردّها صعوبة دخول “المُصلّح” لبيوت يغيب عنها الرجال خلال عملهم. حيث وجد كثيرون أن فكرة استقبال ربّات المنازل لمُصلحات مواسير وسباكات من نفس جنسهن أكثر قبولا وعملية. ومن هنا جاء الترحيب النسبي بالفكرة.

ترافق المخرجة ثلاث نساء هن “خولة” صاحبة الفكرة، وزميلتاها “عائشة” و”رحاب”، كل واحدة منهن تعيش ظروفا اجتماعية خاصة، لكنهن يشتركن بطيبتهن ورغبتهن في عيش حياة سوية كريمة خالية من الصعاب والمشاكل.

إنها مُرافَقة بَنَت خلالها المخرجة الثقة المطلوبة مع “السباكات”، وركزت بشكل خاص على صاحبة المشروع الذي انطلق من جمعية نسوية تطوعية بادئ الأمر، ثم حولته “خولة” إلى تجاري ربحي. التركيز نابع من قوة شخصيتها ووضوح تصوراتها عن عملها وطموحاتها الكبيرة لتطويره. بينما تنشغل “عائشة” بعد وفاة زوجها بتأمين دخل محدود لعائلتها. أما “رحاب” فهي أقلهن طموحا في الحصول على المال، وأكثرهن مرحا رغم ما تعانيه من أزمات عائلية.

السباكات الأردنيات لاقين استحسانا لفكرتهن من قبل ربّات البيوت عوضا عن الرجال السباكين

 

اتصال الخاص بالعام.. واقع ذكوري

مصاحبة الكاميرا لهن كشفت جوانب من الحياة في الأردن لا تريد صانعة الفيلم الدخول إليها وعرضها بشكل مباشر، بل تسعى لتضمينها داخل تجارب النساء “السباكات”. قصص النساء المنضويات إلى مشروع “خولة” الخاص بتأسيس مركز لتدريب النساء على المهنة؛ تكشف واقعا ذكوريا ليس من السهل عليه تقبُّل فكرة المساواة في المهن والحِرف، ولا في وجود المرأة في مواقع العمل.

تفاصيل كل قصة من قصص النساء الثلاث تُجلي جانبا من النظرة العامة للمرأة العربية، ومع كل ذلك كان هناك دوما من يساعد ويشجع، فالصورة المقدمة في الوثائقي الألماني في مجملها ليست سوداودية، وتجربة خولة في المحاكم تُدلل عليها.

بعد عمل مُضنٍ واستعدادات كثيرة لإطلاق مشروعها الخاص، فوجئت خولة باستدعائها للتحقيق في تهمة استغلال الجمعية النسوية ومواردها لأغراض شخصية، استنادا إلى تقارير اتهمتها بمنح زوجها بعض الأعمال الخاصة بالجمعية لغرض استنفاعه ماليا.

أثّر الاتهام على معنويات خولة وعلى الجمعية التي أخذت بالتفكك شيئا فشيئا، بعد انسحاب كثير من المنتميات إليها خوفا من تعرضهن لمشاكل كالتي تواجهها رئيستها.

لقطة للسباكتين الأردنيتين عائشة وخولة في موقف تضامني نسوي داعم لمشروعهما

 

عائشة الطموحة.. مشروع تجاري يكسر التحديات

يظهر الموقف التضامني النسوي من خلال شهادة عائشة أمام المحكمة. حيث قدمت إفادة صادقة عن أوجه صرف ميزانية الجمعية، جاءت في صالح زميلتها خولة.

على مستوى آخر يشرع الوثائقي في إبراز طموح شخصي برز عند عائشة، وتمثل في تفكيرها بإقامة مشروعها التجاري المستقل في الحقل نفسه. فخلال متابعته لبداياته وتقرّبه من عائلتها؛ يعرض الوثائقي بأسلوب بسيط وبروح إيجابية جوانب من العلاقة الجميلة بين الأم وأبنائها، وبشكل خاص مع ابنتها ورحاب صديقتها المقربة التي لم تتخلَ عنها بعد نجاحها المهني.

على المستوى العام كانت سيارة نقل المياه في المناطق الأردنية المنقطعة عنها المياه النقية تؤشر إلى ضعف بنية تحتية وإلى قصور في الخدمات العامة، لكنه على مستوى آخر يؤشر -من خلال تجارب النساء الملهمة والشجاعة- إلى تحوّلات مجتمعية لا يمكن تجاهلها. إبرازها ووضعها في قلب وثائقيها هي فضيلة المخرجة الألمانية الأبرز.

كل هذا لم يلغِ ضعف اشتغالها الفني الذي قرّب منجزها السينمائي في أحيان كثيرة من الريبورتاج التلفزيوني، لكنه في كل الأحوال لم يلغِ روحه الإيجابية.

 

“فرح”.. عراقيل الزواج في مصر

على المستوى الأسلوبي والاشتغال الفني يكاد الوثائقي السويسري “فرح” ينحو نفس منحى الألماني، ما عدا أنه يختلف في كون موضوعه ينطلق من العام وصولا إلى الخاص. فمشكلة “الزواج” في مصر هي مشكلة عامة اختارت مخرجة الفيلم “جوليا بونتر” الدخول إليها من خلال ثلاث تجارب شخصية جرى التركيز فيها على النساء، رغم أن طرفا مشروع أي زواج هما الرجل والمرأة. ومنبع هذا التركيز هو الفكرة الجاهزة التي أرادت المخرجة تثبيتها، ومفادها أن المرأة المصرية هي الأكثر تضررا في مشروع الزواج.

لعرض حال المرأة في معادلة الزواج، ترافق المخرجة ثلاث نساء في مرحلة الخطوبة، وما يرافقها من هواجس وخوف من عدم تحقيق الحلم المشروع بالاقتران بالرجل المناسب الذي يمكن تكوين أسرة سعيدة معه، حيث أخذت عيّنات بتول وبسام، وهما شابان مثقفان يعملان في حقل المسرح والتمثيل، وماريزة ورامي من عوائل ميسورة الحال، وعبد الرحمن ورندة الراغبة في شراكة متساوية مع زوجها المستقبلي.

ماريزة ورامي في حفلة “الدخلة”، حيث لم تمنعهما التكاليف من المُضيّ في إقامة حفل كبير يضم الأهل والأقارب

 

حفلة “الدخلة”.. عقلية الرجل الشرقي

للتجارب -مع اختلاف نوعيتها وخصوصيتها- مشتركات تنضح بما يعانيه المجتمع المصري اليوم من مشكلات متشابكة ومعقدة، أبرزها على الإطلاق الفقر، فالعوز وقلّة الدخل وحتى انعدام فرص العمل تتجلى في تجربة الفنانيّن الشابين، وحلم شرائهما شقة يتزوجان فيها يقف دون تحقيقه الكثير من العقبات.

لا يركز الوثائقي على الجانب المادي من تجربتهما فحسب، بل يذهب إلى الموقف السلبي من المرأة، والعقلية التقليدية التي يحاول “المثقف” إخفاءها في الظاهر، لكن تفاصيل الحياة تكشفها فتتحول إلى عائق يُضاف إلى العوائق الكثيرة الأخرى التي تؤجل مشاريع الزواج، وفي أحيان كثيرة تلغيها.

لا ينسب الوثائقي نجاح تجارب الزواج إلى دين بعينه أو إلى مستوى ثقافي تتمتع به العوائل الراغبة في التزواج فيما بينها، مقارنة بأخرى أقل تعليما أو ثقافة منها، بل يُحيلها في الأغلب إلى الجانب الاقتصادي. فالمسيحيّان ماريزة ورامي لا يعود سلاسة وسهولة مضي مشروع زواجهما إلى انتمائهما الديني، بل إلى يُسر الحال. لتثبيت ذلك يُركّز الوثائقي على تفاصيل إعدادهما حفلة “الدخلة” التي لم تمنعهما -رغم جسامة تكاليفها- من المُضيّ في إقامة حفل كبير يضم الأهل والأقارب.

المصريان عبد الرحمن ورندة، حيث ترغب رندة في شراكة متساوية مع زوجها المستقبلي

 

واجبات المرأة الزوجية.. أسطوانة المساواة

في تجربة عبد الرحمن ورندة نرى التعقيد يبرز من خلال موقف الشابة المسلمة التي تريد أن تعيش حياة عصرية مختلفة عن حياة عائلتها وأقربائها. فتعليمهم العالي لم يُغير شيئا من قناعتهم وتمسكهم بالموروث، ومسايرتهم للتربية التقليدية التي تمنح الرجل الحق في إدارة شؤون العائلة، بينما تختص الزوجة بالإنجاب ورعاية الأطفال.

هذا ما تعارضه الشابة وتريد أن تشارك زوجها كل تفاصيل الحياة بالتساوي، فالنقاشات الطويلة تكشف مواقف ومفاهيم اجتماعية شديدة التعقيد، مثل “البكارة” و”المصارحة” و”الإخلاص”، والتي يلعب اختلاف الموقف منها دورا سلبيا لا يقل سلبية عن دور الفقر في تعطيل مشاريع ارتباط تنشد تكوين أُسر وعيش حياة سوية.

جزئيات المشهد اليومي.. تعقيدات الحياة العربية

لا يدخل الوثائقي في عمق المشهد المصري، مع أن صانعته أمضت سنوات في القاهرة تسجل خاماته، بل تكتفي بالتجارب التي توقفت عندها، لكنها ودون قصد منها تكشف التفاصيل الجزئية والحوارات الواردة في منجزها كمّا كبيرا من المصاعب التي تواجه الشباب المصري وتنغّص عيشهم.

يحاول الوثائقيان الاكتفاء بسطح الصورة دون الغور فيها، غير أن مواضيعها تأخذ رغم ذلك صُنّاعها إلى مساحات كبيرة تُجلي بعض تعقيدات الحياة العربية، وبشكل خاص تلك المتعلقة بالموقف من المرأة وفكرة مُساواتها بالرجل.