“ماغي”.. هكذا تنظر سينما اليمينيين إلى الأوبئة

د. أحمد القاسمي

كثيرا ما منحت الأوبئة والكوارث الإثارة الضرورية للسينما لما فيها من فظاعة ورعب، كما كانت سندا لهذا الفن الذي لا يكف عن البحث عن فتنة المتفرّج ومفاجأته بالمواضيع الجديدة، فاستلهم المخرج “والفغانغ بيترسن” (Wolfgang Petersen) فيلم “آوت بريك” (Outbreak) سنة 1995 من وباء إيبولا، وجعل مداره على معاناة سكان مدينة أمريكية يعانون من فيروس قادم من أفريقيا.

كما أخرج الأخوان الإسبانيان “أليكس” و”دافيد باستور” (Alex, David Pastor) فيلم (Carriers) عام 2009 مستلهمين فيروس الأنفلونزا (H1N1A)، ومداره على أربعة شبان يحاولون الهرب من الوباء بحثا عن ملاذ في شاطئ معزول في خليج المكسيك، وغير ذلك من النماذج كثير، لكن كيف لهذه الأوبئة أن تؤثر في الفرجة وأن تعيد اكتشافنا للأفلام؟

تكشف مواقع البحث هذه الأيام أن أفلام الكوارث غدت قبلة المتفرّجين، ولا غرابة في ذلك فالسياقات الجديدة تجعلنا نرى في الفيلم دلالات كنا قد غفلنا عنها، وضمن هذا الأفق نُنزل قراءتنا لفيلم “ماغي” (Maggie) الذي أخرجه الإنجليزي “هنري هوبسن” (Henry Hobson) عام 2015، وأنتجه النجم “أرنولد شوارزنيغير”.

ينطلق الفيلم من جائحة كونية بسبب فيروس غامض يحول من يصاب به إلى آكل للحم البشر، ويواجه بالحجر الصحي والعلاج وحرق المزارع الحاملة للفيروس، وفي ظل هذه العدوى المتفشية تصاب “ماغي” ويعمل والدها على إخراجها من الحجر لتتحول شيئا فشيئا إلى “زومبي”، فيعايش المتفرج محنتها وهي تقاوم حتى لا تؤذي أسرتها، ومحنة الأب وهو يراقب توحشها، فنبحث على معاني منه ظلت مهملة فأزاحت عنها عاصفة فيروس كورونا الغبار الذي يحجبها.

لقد قدر النقاد أن هذا الفيلم يندرج ضمن أفلام الزومبي، ذلك النمط السينمائي الذي ابتكره السينمائي الأمريكي “جورج روميرو” (George A. Romero) عام 1968 حين أخرج فيلم “ليلة الأحياء الأموات” (Night of the Living Dead)، وقد استلهم من الثقافة الهايتية أسطورة الساحرة التي تستولي على روح الفرد لتجعله عبدا، وغير سبب التحول فجعله ناشئا من عدوى الأوبئة لا من السحر والسحرة، فيصاب الفرد بفيروس مجهول المصدر يجهز على إنسانيته ويحوله إلى كائن دموي متوحش آكل للبشر.

 

حاكم كاليفورنيا التائه.. ميزان نقد متحامل

لم يواكب الفيلم نقد مرحب رغم قيمته الفنية، ونقصد هنا متانة أسلوبه الجمالي وانسجامه مع مضامينه، إذ لم يأبه النّقاد بمعاناة الأب وهو يعيش تحوّل ابنته إلى وحش يقع في مرتبة وسطى بين الحياة والموت، فخلو الحكاية من متبلات سينما “شوارزنيغير” المعروفة كالمطاردات العنيفة والمغامرات التي تحبس أنفاس المتفرّج وعمليات القتل الاستعراضية، لم يتقبله النقاد التقبل الحسن.

كَثُرت اعتراضات النقاد على قصة لا وجود فيها لرجال آليين يسيطرون على الأرض، ولا يحظى فيها الأب “واد فيغل” بقدرات خارقة، ولا يأتينا من المستقبل ليخوض المعارك الضارية حتى يخرج ابنته من الحجر كما خاضها “المبيد” للفتك بـ”سارة كونور”، ولا يواجه “كايل” المكلف بحمايتها، ولا ينفجر جسده الآلي إلى أشلاء تظل تلاحق هدفها رغم ما يلحقها من التلف.

وصفوا حبكته بالتسطيح والرتابة وانعدام التشويق وعبروا عن افتقادهم للانقلابات المبهرة في مسار الأحداث، وعدوا الحكاية خطية رتيبة، وعامة افتقدوا كثيرا ظل فيلم المدمر (The Terminator) الذي صنع مجد “شوازرنيغير” حين اختير سنة 2008 ليحفظ ضمن سجل الأفلام الوطنية في مكتبة الكونغرس الأمريكية، باعتباره أثرا “حضاريا وتاريخيا وجماليا”.

ومثّل أداء “أرنولد شوارزنيغير” موضوع الخيبة الثانية، فقد افتقد هؤلاء النقاد بشدة ظلّ الممثل الجسدي الذي لا يعول على مواهبه في أداء الدور بقدر ما يعول على خصائصه الجسديّة المؤثرة من جمال أو قوّة جسديّة خارقة مدمرة للأعداء، ووجدوه ممثلا تائها فاقدا لأسلوبه المميز قبل تجربة حكم ولاية كاليفورنيا من 2003 إلى 2011، وكثيرا ما تساءلوا عن ما يفعل عميد سينما الحركة في فيلم درامي، مؤكدين أنه لا يصلح أبدا لمثل هذه الأدوار، وإجمالا فقد كان تقبل الفيلم باردا محترزا وعدّ كبوة في مسيرة حافلة لممثل حركة استثنائي.

 

نمط أفلام الزومبي.. ظلم التصنيف

نردّ العودة إلى أفلام الفيروسات المدمرة للحياة على وجه الأرض هذه الأيام، إلى حالة القلق الصحي التي تعيشها الإنسانية في مواجهة فيروس كورونا، فينطلق منها المتفرّج لفهم الواقع أكثر، ويفيد من الواقع المستجد لفهمها فهما مختلفا واستيعاب المفارقة الكبرى التي خلقها الحجر الصحي، فقد أضحى يفرق الأحبة عمن لا يستطيعون فراقهم، وحوّل أجساد الآباء أو الأزواج من الحضن الدافئ الذي يخفق بالحب إلى ناقل للموت يفرض المباعدة الاجتماعية ويلغي الحفلات ومواكب العزاء والتأبين.

لا يدفن الموتى بما يليق بهم من الإكرام، وإنما تلقى جثثهم في الحفر دون غسل أو صلاة أو نظرة وداع. يمنحنا هذا كله الصدمة الكافية لنفتح أعيننا على عناصر قوة في الفيلم لم نكتشفها في المشاهدات السابقة، وندرك أنه عانى من خطأ في التصنيف فقد عُدّ من سينما المغامرات، ولذلك بحث النقاد في الحكاية عن عنصر التشويق، وبحثوا في أداء “شوازرنيغير” عن مهارات ممثل أفلام الحركة الذي يعرفون، وظلوا يذكّرون بأدائه المبهر في أفلامه السابقة، ونُسب إلى نمط أفلام الزومبي، ذلك النّمط الهجين الذي يقع وسطا بين أفلام الكوارث وأفلام الرعب.

حالة القلق التي يعيشها والد ماغي خوفا على أبنائه من انتقال العدوى إليهم، وخلفه تظهر الكارثة التي أصابت الفلاحين المجبرين على حرق محاصيلهم

 

سينما المؤلف.. شبح العدو الذي لا يرى

رغم كل التصنيفات التي صنف بها النقاد الفيلم فإنه في الحقيقة أقرب ما يكون إلى أفلام المؤلف، من ذلك ما يتعلّق بالحبكة التي تنهض على الصراع الحاد المعتمل في باطن الشخصية، لا من الصدام بين طرفين متقابلين من العالم الخارجي، ومنها ما يتعلّق بالمخرج أو الممثل الذي ينتج أفلامه بنفسه، فيجسد رؤيته للعمل ضمن سينما تأملية متفلسفة تدور حكايتها في الأذهان والأفئدة.

ومنها ما يتعلّق بكيفية الأداء، إذ يقدم “شوازرنيغير” في دور جديد يقتضي أن يتحكم في إيقاع الجسد بما يتناسب مع إيقاع النفس، من بساطة في الحركة وبطء في التلفظ واستغناء عن كل التفاصيل التي لا تخدم الصورة الخارجية للأب الهادئ الحكيم رغم العواصف والحرائق المحتدمة في باطنه، ومنها المعالجة الفنية التي تميل إلى الكاميرا المحمولة المرتبكة وإلى اللقطات الكبيرة، فتغوص عبر التركيز على ملامح الممثل في باطن الشخصية وتلاحق أحاسيسها وتأملاتها بدل ملاحقة حركة المغامر في الفضاء الخارجي في معهود سينما الحركة.

لقد ظلم النقد الفيلم مرتين، مرة حين بحث في أداء “شوازرنيغير” عن ممثل أفلام الحركة التي عرف بها في أدواره السّابقة، ولم يقيمه وفق مدى تفاعله مع الدور الذي يجسد، وظلمه ثانية حينما صنّفه ضمن أفلام الزومبي، ففي هذا النّمط يتحوّل المصابون إلى وحوش في ساعات قليلة حتى يُفسح المجال إلى المغامرات التي تقع بعدئذ من المطاردات وأحداث القتل الفظيعة والأشلاء البشرية المتناثرة، وما تقتضي من إدهاش في الماكياج وفي توظيف للمؤثرات البصرية والخدع السينمائية.

يكتسب فيلم “ماغي” أهميته من مرحلة ما قبل التحول لا مما يقع بعده، ومن المعاناة الروحية والنفسية لأب تصاب ابنته بفيروس لا شفاء منه، ولأن العدو شبح لا يُرى فإن الأب لا يستطيع أن يفعل شيئا لمنعها من فقدان إنسانيتها ومن الانحدار شيئا فشيئا نحو التوحش، فالفيلم إذن لا يبث الرعب في نفوس المتفرجين بقدر ما يعكس حالة القلق التي يعيشها الأب خوفا على أبنائه من العدوى.

والد ماغي ضحية الفيروس يحيط بها كنوع من أنواع التضامن والدعم من الأب لابنته، فهو يحاول جاهدا مساعدتها على العيش فيما بقي لها في حياتها

 

تضامن العائلة والأصدقاء.. إغفال العمق الإنساني في الفيلم

كان للخطأ في تصنيف فيلم “ماغي” تبعات، فقد جاء تأويله سطحيا يهمل دلالاته العميقة، فلا ينتبه إلى معاناة ضحية الفيروس وهي في المنزلة بين المنزلتين، ثم تتدرّج بخطى أكيدة لتفقد إنسانيتها وتتحول إلى وحش شديد العدوانية، ولأن الخطر يحيق بالإنسانية نفسها يستنفر الجميع القدر الأقصى من بُعدهم الإنساني. هذا شأن العائلة والأصدقاء وهذا شأن الأب، فجميع من يحيط بـ”ماغي” يحاول أن يساعدها على أن تنعم بما بقي لها من عمرها الإنساني، ويظهر أقصى قدر من التضامن معها.

رغم أن الريبة تمزق زوجة الأب بدافع الخوف الغريزي على ابنيها من انتقال العدوى من الفتاة، فإنها لا تظهر شيئا من ريبتها وتظل تعاملها بلطف، ولا يتوانى الأطباء عن مخالفة التعليمات فيقدمون لها المساعدة ويزورون بياناتها الصحية لتغادر الحجر الصحي وتقضي ما بقي من عمرها برفقة والدها، ويجتمع بها الأصدقاء ويستعيدون معها الأيام الخوالي ويتعاملون معها باعتبارها سليمة، ويصل هذا التعاطف أقصاه مع عناصر الشرطة التي تراقب تطور حالتها الصحية أثناء الحجر الذاتي، فعند تعكر حالتها لا يمتثل الأب لأوامر الفحص عن ابنته ويعتدي بالعنف على أحد أعضاء الشرطة، وبالمقابل يواجه بقدر كبير من التسامح والتّفهم.

يستدرجنا المخرج إلى عالم الفتاة النفسي ويجعلنا نشاركها محنة إصابتها بالفيروس المدمر وهي ترفض التسليم بحقيقة إصابتها أولا، فتهرب من مركز الحجر الصحي أو تلبس النظارات السوداء لتخفي علامات المرض التي بدأت تظهر بعينيها، ثم لا تجد بدا من الخضوع، فتدرك بعمق انزلاقها السريع نحو التوحّش وتبذل الوسع من الجهد حتى لا تؤذي أخويها، ولكنها تفشل ويأخذ المرض في الانتشار في مواطن متعدّدة من جسدها.

يتغيّر مزاج “ماغي” حين وقع ثعلب في الفخ فتتعاطف معه لتخلصه من أسره ثم لا تتمالك نفسها وقد استبد بها التعطش للدماء ورائحة اللحم الحي، فتعود إلى المنزل مضرجة بالدماء ليهتز الجميع معتقدا أنها افترست شقيقها، وتنهار هي وقد أدركت انقضاء عمرها الإنساني ودخولها مرحلة التوحش، وحتى تمنع ذلك لا تجد من حل غير الانتحار.

الفيلم يروي قصة نضال أب يسعى ليجعل نهاية ابنته المُصابة بالفيروس أقلّ إيلاما وأكثر إنسانية

 

شجاعة أب حكيم.. مديح الظل العالي

لم يكن الفيلم يخبرنا بمرض “ماغي” أو بانتشار الفيروس في البلاد ولا بالكارثة التي أصابت الفلاحين المجبرين على حرق محاصيلهم، بقدر ما جعلنا نعيش نضال أب يسعى ليجعل نهاية ابنته الحتمية أقلّ إيلاما وأكثر إنسانية، بداية من بحثه عنها رغم حظر التجول وخطر العدوى، إلى أخذها إلى المنزل لتكون تحت رقابته، وحين يعرض المشاهد الصادمة لمصابين في الطور الأخير من المرض تكون الصور ذات وظيفة مضاعفة، فتخبرنا بما سيصيب جسد “ماغي” من تحلل، وتجعلنا ندرك وقع هذه الصور على ذات الأب وهول معاناته النفسية.

لقد جعل السيناريو “ماغي” مراهقة يتيمة الأم، فعزز دور الأب الذي يعيش مأساتها دون تشنج أو بكاء أو ضجيج وإنما بشجاعة وحكمة، وحوّل الفيلم إلى مديح لظله العالي. تصل ماغي إلى ذروة المرض وتصبح وهي على أعتاب التوحش خطرا محدقا بالجميع، وإكرام المريض حماية إنسانيته قبل حصول الكارثة.

تقضي الحكمة إذن أن يقتلها الأب بنفسه، ويحثه الطبيب على ذلك، فيناوله الحقنة القاتلة ثم ينصحه بطلقة من بندقيته، فهي أكثر رحمة، ولكن للشجاعة حدود يقف الأب دونها عاجزا، وهنا يلقي له السيناريو بحبل النجاة، فيجعل الفتاة تنهي حياتها بنفسها بعيدا عن جدل قضايا القتل الرحيم التي يجرمها القانون الأمريكي.

يعلي هذا البناء من مكانة الأب ويكثّف من عمق الفيلم الإنساني، ولكن ما ذلك إلا طبقة قريبة من الدلالات التي سكت عنها النقد، فتحتها طبقات أخرى أكثر خفاء وأكثر خطورة.

ماغي التي أُصيبت بالفيروس، حيث جعلها تتحول إلى آكلة للحوم البشر، بينما الأب يراقب توحشها

 

نظرية القطيع.. رسائل يمينية مشفرة تحت قناع السينما

يحل الخراب بالكون، فالشوارع خالية من المارة والمزارع تحترق والمتاجر مهملة بعد أن قضى أصحابها نحبهم أو تحولوا إلى وحوش. يخرج فيلم “ماغي” على هذا النحو من دائرة المغامرة والإثارة والرعب التي تميز أفلام الزومبي، ويدفع بالفكرة إلى الواجهة، ويجهلها إدانة لانحرافات عالم الحداثة.

تضحي الأبوة من خلفية سياسية معينة، رمزا للقيم الأصيلة التي تكافح في عالم يتهدده التوحش ويفقد قيمه الروحية والإنسانية، وضمن هذا الأفق ندرك أنّ الممثل لم يكن تائها أبدا، ولا كان يبحث بتعثر عن نفسه في السينما بعد تجربة الحكم، فقد منحته السياسة خارطة طريق يمشي على هديها، ووفقها كان يجسّد الأحداث.

كما أن تعامل الساسة المحافظين مع فيروس كورونا يمنحنا الخلفية الضرورية لنفهم رسائل الفيلم المشفرة، ففي تهريب “ماغي” من المستشفى تمرّد على الحجر الصحي، وبتواطؤ من الجهاز الطبي تترك الفتاة في منزل والدها، وتكون العائلة حضنها وملاذها الأخير، وفي المستشفى نفسه يواجه المرضى قدرهم، فلا هم يتلقون العلاج الكافي، ولا هم يموتون موتا رحيما، أما الدولة فغائبة، لا تتدخل لإنقاذ المزارع، ولا تفعل شيئا يحول دون الوباء والانتشار.

لا تختلف هذه الأحداث مع سياسة الرئيس الأمريكي اليميني ترامب كثيرا في مواجهة فيروس كورونا، فقد كان يرفض تدخل الدولة بثقلها في الأزمة قائلا: “توفي العام الماضي 37 ألف أمريكي من الأنفلونزا العادية، ولم يُغلق أي شيء، بل استمرت الحياة والاقتصاد، فكروا بذلك”، مضيفا في سياق آخر: “لا يمكن أن نسمح بأن يكون العلاج أسوأ من المشكلة نفسها”.

وفي مواقف رئيس الوزراء البريطاني “بوريس جونسون” المنحدر من العائلة السياسية نفسها صدى أكبر لأطروحات الفيلم، فقد دعا إلى تطبيق نظرية “مناعة القطيع” التي تؤمن بأن التصفية الطبيعية أفضل السبل لمواجهة الأوبئة، وأن البقاء امتياز لمن يستطيع أن يقاوم، في كلمة للشعب البريطاني قال: “إن فيروس كورونا سيواصل الانتشار في البلاد على مدار الأشهر المقبلة حاصدا مزيدا من الأرواح”، مفصلا موقفه” “سأكون صريحا معكم، ومع كل الشعب البريطاني، ستفقد عائلات كثيرة جدا أحباءها قبل أن يحين وقتهم”.

الأب الشجاع الحامي لابنته خلال رحلتها نحو التوحش بسبب الفيروس الذي أصابها

 

كيد المعاني الفنية.. نظرية السينما المؤدلجة

لا شك أن نظرية “بوريس جونسون” في الإهمال الذي يواجه به المرضى تمثل شيئا من سياسة “شوازرنيغير” نفسه إبان حكمه لكاليفورنيا، فقد كان يحد من تدخلات الدولة تحت شعار “عدم تبديد الأموال التي تحتاجها كاليفورنيا”. كما لا يغيب عن القارئ أنّ “ترامب” و”شوازرنيغير” ينتميان إلى الحزب الجمهوري، وأن “بوريس جونسون” زعيم لحزب المحافظين البريطاني، وأن الحزبين يمينيان يرتبطان تقليديا بالطبقات الأرستقراطية وبالأثرياء، ويؤمنان بأن الأمور تسير بشكل أفضل كلما قل تدخل الحكومة، وبأن قانون “البقاء للأصلح” أفضل سياسة اقتصادية، وأنه يمكن أن يكون صالحا للمجتمع كله.

يرى كلاهما أنّ الصحة سلعة تخضع لقانون العرض والطلب، ومن ثمة تنزّلت أحداث فيلم “ماغي” رغم اختلافها، بين رفض للحجر وغياب لتدخل الدولة، ورفض للقتل الرّحيم وتمسك بالعائلة حصنا يحمي القيم الأصلية من انحرافات الحداثة المدمرة، ضمن المرجعية اليمينية نفسها، فدست الموقف السياسي الماكر ضمن الخطاب الجمالي المؤثر.

للمعاني كيد يلاعب المتفرج إذن، وللسياق كيد أعظم يروض هذه المعاني مهما حاولت التواري، ولفيروس كورونا سلطان على قراءة “ماغي”، فقد خول لنا أن نقع على ما في الفيلم من خلفيات سياسية يمينية، وأكد الأطروحة التي تجد في السينما الأمريكية أكثر من لعبة للتسلية وتعدّها الخط الأمامي للدفاع عن السياسات الأمريكية، كما كانت منذ الحرب الباردة في عصر المواجهة بين المعسكر الشيوعي والمعسكر الرأسمالي.