مايكل جاكسون.. السيرة المُخزية لملك البوب

محمد موسى

يضع المخرج عدسة مُكبرة على حياة جاكسون السريّة، والذي سيقود أحيانا إلى مشاهد غير مُريحة وصعبة

 

“سيُدمرنا هذا العالم الشرير إذا اكتشف ما نقوم به من أمور حميمية، لذلك يجب أن لا نخبر أحدا بما نفعله معا”.. هكذا كان يُرعب مايكل جاكسون الصبية الصغار الذين كان يمارس الجنس معهم، وكما جاء في شهادتي “ويد روبنسن” و”ستيف كروبي” الذين يستند عليهما الفيلم التسجيلي الصادم “مغادرة نيفرلاند” (Leaving Neverland).

يأتي العمل الفني الجديد ليؤكد مرة أخرى أن حياة مايكل جاكسون العاصفة عصيّة على النسيان، ولن تغيب في الوقت الحالي عن المشهد الإعلامي، ولا تزال تثير الكثير من الجدل، وأن الأبواب مشرعة لقول الكثير فيها وعنها حتى بعد عشرة أعوام من رحيل ملك البوب، والذي كان تاريخه مزيجا غريبا من المجد والموهبة والسلوك الناشز، وطاردته في السنوات الأخيرة من حياته الاتهامات والقضايا الجنائية بالاعتداء الجنسي على صبيين صغيرين.

مثل كرة الثلج بدأ الاهتمام بهذا العمل التسجيلي الذي أخرجه البريطاني “دان ريد” يكبر تدريجيا، حيث عُرض للمرة الأولى في الدورة الأخيرة من مهرجان صنداس السينمائي الأمريكي في يناير/كانون الثاني الماضي، وأثار حينها غضبا وإثارة غير مسبوقين، لتبدأ بعدها حملات الدعاية المكثفة والذكية للقناة الرابعة البريطانية وقناة “أتش بي أو” الأمريكية اللتين تقفان وراء إنتاج هذا الفيلم التسجيلي.

وتضيف تهديدات وَرَثة مايكل جاكسون بالاتجاه إلى القضاء لمنع عرض الفيلم، وتظاهرات معجبي الفنان الراحل الغاضبة في عدد من المدن الغربية؛ المزيد من الزيت على شعلة النار التي يبدو أنها تكبر كل يوم، وربما تهدد بالقضاء نهائيا على تَرِكة مايكل جاكسون الفنيّة الكبيرة.

ويد وستيف.. علاقات حميمة

لأربع ساعات كاملة من زمن الفيلم، يضع المخرج عدسة مُكبرة على حياة جاكسون السريّة، والذي سيقود أحيانا إلى مشاهد غير مُريحة وصعبة، خاصة عندما يسترجع الفيلم مع شخصيتيه تفاصيل حميمية من الاعتداءات الجنسية التي طالت لسنوات طويلة.

يتنقل الفيلم بين شهادتي “ويد” و”ستيف”، ويمنح وقتا أطول للأول الذي تعرّض على طوال سبعة أعوام كاملة لاعتداءات جنسية من جاكسون، وحافظ على علاقة معه حتى وفاة ملك البوب. في حين انقطعت علاقة “ستيف” بجاكسون وسط أزمة محاكمة المطرب بقضية اعتداء جنسي على صبي آخر عام 2005، وهي القضية التي انتهت بتبرئة جاكسون من كل التهم الموجهة له.

كانت ظروف ويد وستيف مُتشابهة كثيراً عندما التقيا جاكسون، وإن كانت البحار الواسعة تفصلهما. فـ”ويد” هو صبي أسترالي بدأ بتقليد رقص ملك البوب عندما كان في الرابعة، ولفتت موهبته حينها اهتمام الإعلام الأسترالي، قبل أن يحظى بفرصة مقابلة جاكسون بعد حفلة للأخير في أستراليا.

في حين شارك “ستيف” الأمريكي الجنسية؛ جاكسون في إعلان تجاري، ولتبدأ عندها قصة صداقة تطورت إلى اعتداء جنسي استمر أيضاً لسنوات. كما عقد جاكسون علاقات طويلة مع أهل الصبيين، وإن كان يُحرِّض بالسّر الصبين على أهلهما، على أمل عزلهما كي يسهل التأثير عليهما.

تُفتتن الأمهات بشهرة جاكسون الطاغية، ويغفلن عمّا يمكن أن يختبئ خلف صورة الفنان العامة

أهل الضحايا.. افتتان بالمغني الملهم

علاوة على شهادتي ويد وستيف، نستمع إلى شهادات والدتيهما وأقارب لهما، وهذه ستكون مُهمة كثيراً لفهم دينامية العلاقات المُعقدة التي تقود أحيانا إلى الاعتداءات الجنسية بين المعارف، حيث يُبهر اسم جاكسون الأمهات، وتفتنهن شهرة الفنان الطاغية، ويغفلن عمّا يمكن أن يختبئ خلف صورة الفنان العامة.

تسمح الأُمّ الأسترالية لابنها الذي يبلغ السابعة فقط من عمره بالمبيت هو وأخته في غرفة نوم جاكسون، حيث تتركه بعهدة المغني، وتذهب مع عائلتها في جولة سياحية في ولاية كاليفورنيا الأمريكية. وهذا سيكون حال الأُمّ الأخرى، حيث يقضي ويد وستيف أوقاتاً طويلة بمفردهما مع جاكسون، لتبدأ بعد فترة قصيرة من تعارفهم الأول الاعتداءات التي تطول لسنوات.

يشرح الفيلم -بتفصيل كبير- الظروف النفسية والاجتماعية التي أوقعت ويد وستيف في شبكة جاكسون المُعقدة والمحكمة، فهناك الإعجاب الكبير من الصبيين بمغنيهم الملهم، بل إنهما اعترفا بوقوعهما في حب جاكسون، وأنهما حرصا على إرضائه، وعدم كشف السّر الذي تشاركا فيه، حتى إن ويد شهد عام 2005 في قاعة المحكمة أنه لم يتعرض أبداً لأيّ اعتداء جنسي من المغني الأمريكي، وبقي على علاقة طيبة مع جاكسون حتى وفاته، حاملاً أملاً ما بإصلاح المغني وإنقاذه من سلوكه الشاذ.

يركز الجزء الأول من الفيلم التسجيلي على بداية علاقة الصبيين بجاكسون

التحرش بالأطفال.. توريط الضحية

الإسهاب في التفاصيل كان مهما كثيرا لنسج مرافعة رصينة وجدية، ليس فقط ضد جاكسون، بل في بحث ظاهرة التحرش الجنسي بالأطفال بشكل عام.

لا يستسلم الفيلم لإغراء توجيه اتهامات سريعة، بل ينبش في موضوع حساس كثيرا موجها إليه أضواء مختلفة، فالتحرش الجنسي بالأطفال لا يأخذ دائماً صيغة الاعتداء الواضح، حيث يمكن أن يورط المعتدي ضحيته فيما يفعل، ويجعل الضحية بعد ذلك تشعر أنها ربما اختارت ذلك، أو يتوجب عليها الصمت وعدم كشف ما حدث.

ويركز الجزء الأول من الفيلم التسجيلي (عرضت القناتان المنتجتان والعديد من القنوات الأوروبية الفيلم على جزأين وفي يومين متتاليين) على بداية علاقة الصبيين بجاكسون، في حين يركز الجزء الثاني على الآثار النفسيّة الثقيلة التي رزحا تحتها بفعل ما حدث، والتي قادت في النهاية إلى كشفهما ما حصل.

يحفل الجزء الأول بالتفاصيل الصادمة حقا، مثل حفل الزفاف غير الرسمي الذي مثله جاكسون مع أحد الصبيين، وتفاصيل الهدايا الثمينة التي كانا يحصلان عليها من ملك البوب.

تستعرض الشخصيتان الظروف التي أوصلتهما لقرارهما بالبوح بالسر الأكبر في حياتيهما، وهما اللذان اختارا الصمت لسنوات

البوح بالسر.. بعد صمت طويل

هناك أيضا تفاصيل أخرى تكشف -وإلى حد كبير- العزلة والوحدة التي كان يعيش فيها جاكسون، فهو المغني الأشهر في العالم حينها، فقد كان يقضي ساعات طويلة يتحدث فيها على الهاتف مع ويد في أستراليا، وذلك قبل انتقال الصبي إلى الولايات المتحدة بشكل نهائي. كما كان يقضي جاكسون أياما عديدة في بيت ستيف العادي تاركا مزرعته الشهيرة “نيفير لاند”، وهذا وسط دهشة والدي ستيف، لكن سعادة هؤلاء باستضافة جاكسون أنستهم غرابة الوضع.

في الجزء الثاني من الفيلم تستعرض الشخصيتان الظروف التي أوصلتهما لقرارهما بالبوح بالسر الأكبر في حياتيهما، وهما اللذان اختارا الصمت لسنوات. تتشابه ظروفهما في هذا الخصوص، فزواجهما ثم إنجابهما لابنيهما الأول أطلق أسئلة عديدة مُوجعة عن تجارب الماضي، خاصة بعد أن وصل عمر الأبناء إلى عمر يقارب ما كانا عليه عندما تعرفا على مايكل جاكسون.

وإلى جانب الظروف العائلية الجديدة، هناك الأزمات النفسيّة التي أصبحت تدهم ويد وستيف وقربتهما من الانهيار النفسي، إذ يغدو فعل البوح الإعلامي نفسه أداة في عملية الشفاء التي ستكون طويلة جدا.

موت جاكسون كان مناسبة لأهل الصبيين لمراجعة أخطائهم، فأُمّ “ويد” ستعترف في الفيلم بأنها لن تسامح نفسها أبدا

بعد البوح.. مزيد من البوح

لم تنته أزمات الشخصيتين مع موت مايكل جاكسون المفاجئ في 2009، بل يُمكن القول إن رحيل المطرب عمّق تلك الأزمات، إذ أجبر الشخصيتين على مواجهة ذاتية، وبعد أن عرقل حضور جاكسون المتواصل في حياتيها هذه المواجهة لسنوات.

موت جاكسون كان مناسبة لأهل الصبيين لمراجعة أخطائهم، فأُمّ “ويد” ستعترف في الفيلم بأنها لن تسامح نفسها أبدا، وبأنها ستعيش مع مشاعر الذنب المؤلمة السنوات القادمة من حياتها.

يأخذ الفيلم شخصيتيه إلى أقصى حدود البوح والكشف، والتي ستزيدها فعالية وقوة اللقطات المقربة لوجهي الشخصيتين التي فضلها المخرج، حتى بدا أن لا مفرّ من الاعتراف الكامل رغم الصعوبة الكبيرة لذلك، لما تتضمنه الشهادات من تفاصيل حساسة.

لا جدار تتوارى خلفه الشخصيتان في الفيلم، ولا خيار آخر سوى الاعتراف بالحقيقة الكاملة. هذه المقاربة هي التي حولت هذا العمل الفنيّ إلى ظاهرة تتعدى مايكل جاكسون نفسه، فالكثير من القنوات الأوروبية التي عرضت الفيلم، عرضت أيضا مباشرة بعد انتهاء بثه حوارات مباشرة مع أخصائيين نفسيين ومشاهير، وذلك للحديث عن ظاهرة التحرش بالأطفال، على أمل الاستفادة من شعبية الفيلم للحديث في موضوع يتجنب الخوض فيه الإعلام الشعبي عادة.

جاكسون.. مُذنب أم بريء؟

بعد أيام قليلة من عرض الفيلم، أطلقت العديد من محطات الراديو الغربية أحكاما على ملك البوب، فأوقفت بثّ أغانيه على محطاتها، وفي الوقت نفسه تخلّت شركة أزياء شهيرة عن عقد مع وَرَثة مايكل جاكسون كان ينص على استخدام صور له في حملاتها الإعلانية.

يُمكن إدراج هذه التطورات المُهمة كإشارة على نجاح الفيلم في إقناع الرأي العالمي بالاتهامات التي واجهها، حيث غدا من الصعب للبعض الارتباط باسم مايكل جاكسون نفسه. وفي الوقت ذاته لا تزال أسرة جاكسون (رفعت دعوى قضائية على قناة “إتش بي أو” الأمريكية) والمعجبين بالمطرب؛ يدافعون بشراسة عن نجمهم الذي بُرِّئ قضائيا في حياته من كل التهم الموجهة له بالاعتداء أو التحرش الجنسي بالأطفال.

صورة تجمع مخرج فيلم “مغادرة نيفرلاند” البريطاني “دان ريد” مع الضحايا “ويد روبنسن” و”ستيف كروبي”

غياب الطرف الآخر.. أين الموضوعية؟

تعرّض مخرج الفيلم البريطاني “دان ريد” إلى نقد حاد كثيرا من الإعلام في بريطانيا، وذلك لما وصفوه بغياب الرأي الآخر في الفيلم، حيث لم يسع المخرج إلى مقابلة شباب شهدوا في محاكمة جاكسون الشهيرة ببراءة صديقهم من التهم المنسوبة إليه، لكن ريد ردّ على ذلك بأنه أحب أن يبقى مع شخصيتيه، وبأنه أنجز كل العمل الاستقصائي المنتظر منه أثناء الاستعداد لتصوير فيلمه، وأنه لم يجمع شخصيتي الفيلم معا أثناء التصوير، وأن تشابه تفاصيل ما تحدثا به في الفيلم يرجع بالكامل لأنهما تعرضا لاستغلال جنسي من الفاعل نفسه، ولم يرتبا مسبقا شهادتيهما كما يدّعي البعض.

من المتعذر الآن أو في السنوات القادمة الوصول إلى الحقيقة الكاملة عن سيرة مايكل جاكسون، وما اقترفه أو لم يقترفه في حياته، فهو لم يعد موجودا ليدافع عن نفسه أو يعترف بالجرائم الموجهة إليه، بيد أن هذا لا يلغي الأثر الكبير للفيلم التسجيلي “مغادرة نيفرلاند” الذي يَعرض الكثير من الوثائق والصور الخاصة لمايكل جاكسون مع شخصيتي الفيلم، فلا جدال هنا أن مايكل كان قريبا كثيرا من الصبيين حينها، لكن الوصول إلى الحقيقة أصبح غير ممكن في غياب المتهم الرئيسي.