“متمسكون بالخط”.. زعيم عصابة برتبة رئيس دكتاتوري

قيس قاسم

في المقابلة التي أجرتها الصحفيَّة الفلبينية “ماريا ريسا” مع “روديغو دوتيرتي” أثناء حملته الانتخابية عام 2015 قبل مدة وجيزة من توليه الحكم؛ صرح لها بأن البلاد ستكون خلال حكمه دولة ديكتاتورية وستكون هناك الكثير من الدماء.

لم يكذب “روديغو” في قوله، ولم يكن كلامه مجرد خطاب دعائي شعبوي للاستهلاك العام، بل كان يعني ما يقول بالدقة، فخلال الأسابيع الأولى من توليه الرئاسة عام 2016 وتحت شعار “محاربة المخدرات” قام الجيش ورجال الشرطة بقتل الآلاف من أبناء الفلبين، وبعد مدة اعتقلت السلطات الصحفية “ماريا ريسا” وفرضت رقابة مشددة على موقعها الإخباري “رابلير”، كما وصلت تهديدات بالقتل للعاملين في الموقع في محاولة لإخراس أصواتهم المعارضة له.

حولت الإجراءات القمعية ضد المعارضين والدماء الكثيرة التي تسيل في الشوارع لقطة ظهور الرئيس والصحفي إلى مشهد عام مكثف لأبرز أطراف الصراع في البلد، وقد حاول الوثائقي الألماني “مُتمسكون بالخط” رصد ذلك وتوثيق تفاصيله، لكونه يعبّر بدقة عن توجهات الطرفين المتناقضين: الأول ينشد تحقيق الديمقراطية ويحمي حرية التعبير، والثاني يريد فرض ديكتاتورية دموية تُشيع الخوف في قلوب الفلبينيين.

 

سيمفونية محاربة المخدرات.. إعدام بلا محاكمة

رصد وكشف ما يجري في الفلبين بشجاعة ورصانة وحرفية جعل منجز المخرج الألماني “مارك وايس” مرجعا وثائقيا مهما استحق عليه جائزة “فاكت” لمهرجان “كوبنهاغن دوكس” للفيلم الوثائقي، وقدمت مادته المصورة دليلا قويا على ممارسات سلطة لم تتوانَ أو تخجل من فعل القتل.

يراجع الوثائقي شعارات الحملة الانتخابية للرئيس “دوتيرتي” ويجد أن التركيز كان منصبا على محاربة المخدرات، وهو الوباء الذي اجتاح البلد، وخلق حالة من التعاطف عند سكانه مع كل من يتطوع للقضاء عليه، وقد وفر له هذا التوجه شعبية كانت كافية لتوصيله إلى دفة الحكم.

وفور فوزه بالرئاسة أمر الرئيس قواته من جيش وشرطة بتصفية تجار المخدرات وموزعيها، لكن لم ينتبه الناس أول الأمر إلى عشوائية تنفيذ الأوامر وغياب مسوغات قانونية لمحاسبة المتورطين فيها بالفعل، إلا بعد تنبيه صحفيين إلى خطورة الوضع الذي وصلت إليه البلاد حين غدا الموت ظاهرة يومية في شوارعها.

طالب هؤلاء الصحفيون بتوفير إجراءات قانونية ومحاكم أصولية لكل متهم، حتى لا تستغل السلطة الدكتاتورية شعار “محاربة المخدرات” لتصفية المعارضين السياسيين، وحتى لا تتحول الفلبين إلى بلد ديكتاتوري.

الصحفية الفلبينية “ماريا ريسا” تُحاور الرئيس “رودريغو دوتيرتي” أثناء حملته الانتخابية عام 2015

 

عبثية التصفية.. ضريبة الرأي السياسي

يقابل الوثائقي صحفيين استقصائيين عملوا على كشف آلية إصدار الأوامر بالقتل وتصفية المتهمين في وضح النهار، ومن بين ما توصلوا إليه هو أن رجال الشرطة كانوا يقومون بتصفية الأشخاص حسب القوائم التي تصل إليهم من الجهات العليا، وترد فيها أسماء من يجب قتلهم دون تحقيق.

توصل “تشاي هوفلسينا” الصحفي العامل في موقع “رابلير” الإخباري بعد استقصاء وتحري إلى حقيقة أن من بين القتلى رجالا عرفوا في أعمالهم بنزاهتهم وعدم تورطهم في أمور غير قانونية، كما انتبه إلى شيء آخر وهو تمركز عمليات الاعتقال والقتل في أكثر المناطق فقرا في البلاد، والمثير للاستغراب غياب إحصائية رسمية بعدد القتلى، فالكثير منهم أدرجوا ضمن قوائم “التحقيقات الجارية”، وهي عبارة غامضة وغير محددة.

يقابل معدو الوثائقي زوجة رجل من تلك المناطق جرى اقتحام بيته وضربه أمام أطفاله، ويتضح من كلامها أن زوجها معارض سياسي وليس تاجر مخدرات، وأن رسائل تهديد وصلته في الفترة الأخيرة تدعوه للكف عن نشاطه المعارض أو ستكون نهايته وشيكة، وبعد سحبه بالقوة من البيت تسمع الزوجة في الخارج أصوات عيارات نارية، فقد قاموا بقتله وسط الشارع وغادروا المكان.

أحد المرتزقة المدنيين الذين تستخدمهم الأجهزة الأمنية لتصفية معارضي سياسة الرئيس “رودريغو دوتيرتي”

 

استئجار المرتزقة.. وسيلة ترسيخ السلطة المطلقة

يتوصل الوثائقي مع صحفيين استقصائيين إلى حقيقة استعانة الأجهزة الأمنية بمرتزقة مدنيين يقومون بقتل الرجال الواردة أسمائهم في قوائم التصفية حتى يُبعدوا الشبهات عن شرطتهم، ويقنع معدو الفيلم رجلا من هؤلاء المرتزقة بمقابلتهم شرط الحفاظ على سرية هويته وعدم الكشف عن وجهه.

يجلس المرتزق داخل غابة أمام الكاميرا متباهيا بمسدسه الذي يستخدمه أثناء قيامه بنتفيذ المهام التي تُكلفه بها الأجهزة الأمنية مقابل مبالغ مجزية من المال، وكل ما يعرفه أنه يقوم بمهمة تصفية مجرمي مخدرات ليحصل مقابلها على مكافأة مالية جيدة.

تكشف تحريات الموقع الإخباري عن دور كبير للمرتزقة في عمليات تصفية معارضين لسياسة الرئيس “رودريغو دوتيرتي” الذي يستخدم العنف وسيلة لترسيخ سلطته المطلقة.

الصحفية والناشطة المدنية “ماريا ريسا” مسؤولة الموقع الإخباري “رابلير” الذي كشف دور المرتزقة في تصفية المعارضين

 

بين سندان الجيش الإلكتروني ومطرقة الاعتقال.. صحفيون في الواجهة

يلازم معدو الوثائقي مسؤولة الموقع الإخباري الصحفية والناشطة المدنية “ماريا ريسا” في كل خطواتها، فمن خلالها يمكن الاطلاع على حقيقة ما يجري في البلد، وهذا ما جاؤوا من أجله، ولا يتميز نشاط الصحفية بالشجاعة فحسب، بل في مصداقية ما يُنشر على موقعها.

عملت السلطة لهذا السبب على منع انتشاره عبر تجييش الرئيس المنتخب ضده علنا من خلال عمل ممنهج يقوم به خبراء تواصل اجتماعي مهمتهم الرئيسية كانت وضع “ريسا” وموقعها بين سندان الجيش الإلكتروني المُشترى بالمال العام، وبين مطرقة التهديد المستمر بالاعتقال والإغلاق من قبل أجهزة الشرطة.

صحفيو موقع “رابلير” الذي قامت السلطات الفلبينية بحجب موقعهم من الشبكة العنكبوتية بحجة التهرب الضريبي

 

موقع “رابلير”.. ألاعيب المخابرات الابتزازية

لا يخفي الرئيس كراهيته للصحفيين النزهاء، إذ يسجل الوثائقي مهاجمته علنا لصحفية تعمل في موقع “رابلير” الإعلامي ويصفها بعميلة للأجانب، وبأن مقالاتها مليئة بالأكاذيب، كما هدد بإغلاق الموقع الذي تعمل فيه أثناء طرحها عليه سؤالا خلال مؤتمره الصحفي حول حقيقة استعانته بمرتزقة ورجال عصابات مسلحة يقومون بتصفية المعارضين.

وقد وصل رجال مخابرات إلى موقع “رابلير” بعد أيام قليلة، وطالبوا العاملين فيه بإخلاء المبنى بناء على أوامر واردة من السلطة، لكن مسؤولة الموقع لم تخضع للابتزاز، وأصرت على مواصلة العمل، فلجأت السلطة إلى حيلة جديدة تتمثل بحصولها على قرار قضائي يطالب بحجب الموقع من الشبكة العنكبوتية بحجة التهرب الضريبي، وتهديد إدارته بالتقديم للمحاكمة في حالة عدم التقيد بالقرار.

السلطات القمعية تحوّل البلاد إلى ساحة قتل وتصفية للمعارضين بذريعة محاربة المخدرات

 

ابن الرئيس.. أنشطة مافيا وتهريب للمخدرات

لم يجد التهديد نفعا لموقع “رابلير” ومديرته ولم يحقق القضاء رغبة الرئيس في إسكاته لضعف التهم وبطلانها ضد العاملين فيه، بل زاد كل ذلك التضييق من شعبية ما ينشر فيه من أخبار وتحقيقات استقصائية مع صلابة مواقف صحفييه.

كما شجع ذلك آخرين من خارج الموقع على نشر مزيد من الحقائق وفضح الكثير من ممارسات السلطة القمعية التي حولت البلد خلال أشهر قليلة إلى ساحة للقتل وتصفية المعارضين واستغلالها شعار محاربة المخدرات لأغراض شخصية، بل والتورط في بعض تلك الأعمال التي تدعي محاربتها.

يكشف السيناتور “أنتونيو تريلانيس” أمرا خطيرا يتعلق بتورط ابن الرئيس بعمليات تهريب مخدرات ونشاط مافيوي كبير، وحسب ما أعلن أمام كاميرا الوثائقي فقد كان دافعه هو ترسخ قناعة لديه بأن الهدف الحقيقي من وراء رفع الرئيس ذلك الشعار إنما هو لإشاعة الخوف بين الناس من أجل تأمين سيطرته المطلقة على السلطة.

يشرح السيناتور فكرته بتروٍّ قائلا: كلما زاد الخوف بين الناس زاد ميلهم نحو السلطة وطلبهم حمايتها، دون التفكير بطرح أسئلة عن حقيقة ما يجري حولهم من انتهاكات لحرية الأفراد والصحافة، وتغاضيهم عن السؤال المهم حول صحة التوجه لمحاربة المخدرات من عدمها.

السيناتور “أنتونيو تريلانيس” وعائلته التي هددتها السلطات الفلبينية بالقتل بعد فضح السيناتور علاقة السلطة بتجارة المخدرات

 

وشم العصابة الصينية.. دليل الإدانة مدى الحياة

تعزز تجربة السيناتور “أنتونيو تريلانيس” مع فضيحة ابن الرئيس قناعاته، فيقدم بالأرقام حجم انتشار تجارة المخدرات خلال فترة تولي “دوتيرتي” منصب محافظ ولاية دافاو، فقد جرت خلالها أكبر عملية تهريب مخدرات من ميناء المدينة، وبعد توليه الرئاسة انتقلت أكبر عمليات التهريب معه إلى العاصمة مانيلا وموانئها.

وجد السيناتور بعد تكليفه بالتحقيق في بعض تلك العمليات أن شحنة كبيرة من المخدرات كانت تعود لـ”باولو” ابن الرئيس، كما توصل بعد التحقيقات المكثفة إلى أن الابن منذ شبابه قد انضم إلى أكبر شبكة تهريب مخدرات صينية، ومن الدلائل على تورطه وجود وشم العصابة على ظهره، فمن تقاليدها وضع وشم يتضمن أرقاما سرية لكل عضو فيها، ويبقي ذلك الوشم ثابتا على أجسادهم طيلة حياتهم.

ينقل الوثائقي مشهدا مسجلا لوقائع تحقيق طالب به السيناتور داخل البرلمان مع ابن الرئيس، وذلك حول تهم تورطه بتجارة المخدرات وعضويته في المنظمة الصينية، ويظهر الابن مسيطرا محاطا بعدد من أفراد الحمايات الخاصة، لكنه يرفض الكشف عن الوشم الذي على ظهره ويستهزئ بالمحققين وأعضاء البرلمان، ويتعامل برعونة شديدة مع أسئلتهم.

السياسي المعروف “نيسترو كالانغا” الذي قُتل على أيدي رجال الموت في أحد شوارع مانيلا

 

“فرق الموت”.. اغتيالات بأمر رئاسي

تصل بعد أيام قليلة تهديدات للسيناتور بالقتل وتصفية عائلته، فقد أوصل أحد الأشخاص التهديدات مباشرة من الرئيس إليه يطالبه بوضوح بالكف عن التحقيق وإلا سيكون الموت نصيبه.

التهديد للسيناتور ومقتل السياسي المعروف “نيسترو كالانغا” على أيدي رجال الموت في أحد شوارع مانيلا في شهر حزيران من العام الفائت؛ يسلطان الضوء على الدور الذي تلعبه فرق الموت الجائلة، فقد سجلت التحقيقات الصحفية مقتل أكثر من 12 محافظا و40 قاضيا وعشرات الصحفيين على أيدي رجال الموت، وتكشف مقابلة أحدهم عن العلاقة المباشرة بينهم وبين الدوائر المقربة من الرئيس.

تهمة التحريض على السلطات.. إصرار على فضح القاتل

من نتائج إشاعة الخوف والرعب حصول الرئيس على دعم شعبي ضمن له الحصول على أغلبية مجلس الشيوخ أثناء الانتخابات الوسيطة عام 2019، وبذلك كرس سلطته الديكتاتورية بالكامل، وتشجع على ممارسة ضغط أكبر على الأصوات الحرة المطالبة بتحقيق الديمقراطية وضمان حرية التعبير.

توج ذلك التوجه القمعي باعتقال الصحفية “ريسا” عند عودتها من الولايات المتحدة الأمريكية التي ذهبت إليها للمشاركة في مراسيم توزيع جوائز اختيار صحيفة “تايم” لها كواحدة من بين الشخصيات المئة الأكثر تأثيرا في عام 2019.

وُجهت للصحفية عدة تهم ملفقة من بينها التحريض ضد السلطات بمقالات قديمة نشرتها قبل عدة سنوات، وقد قاموا بسجنها وطالبوا بإغلاق موقعها لكنها رفضت وأصرت على موقفها، ثم أطلق سراحها بعد مدة بكفالة مالية لضعف إثبات التهم ضدها، فعادت للعمل وهي أكثر إصرارا وثباتا على فضح رئيس قاتل حول مدينة مانيلا إلى ساحة للقتل والانتقام السياسي.