“متى تعود يا كيس؟”.. عودة سينمائية إلى أطفال السيدة العريضي بعد 30 عاما

محمد موسى

بعد ثلاثة عقود من فيلمه التسجيلي الأول الذي صوره في قرية حوسان في الضفة الغربية في فلسطين، وحمل عنوان “أطفال السيدة العريضي” (The Children Of Madame Al Areidy)؛ يعود المخرج الهولندي “كيس سخاب” إلى شخصيات فيلمه ذاك، عائلة العريضي الفلسطينية ليقدمهم في فيلم تسجيلي جديد أخرجه بالاشتراك مع ابنه الشاب مارك سخاب يحمل عنوان “متى تعود يا كيس؟” (?When Are You Coming Back, Kees).

لن يكون الهدف الأولي من هذه العودة تسجيل أحداث وتفاصيل جديدة من حياة أفراد العائلة التي قدمها المخرج في فيلمه الأول كما يفعل مُخرجون وثائقيون أحيانا، ذلك أن سخاب كان يُخطط بالدرجة الأساس للكشف عن هواجسه للعائلة الفلسطينية، وكيف أنه حمل مشاعر ذنب عميقة تجاههم طوال الثلاثين عاما الماضية، فالفيلم الذي أنجزه كان عن أرضهم، وكانت العائلة تُصارع السلطات الإسرائيلية للاحتفاظ بها، لكنها انتزعت منهم في النهاية بالقوة، ولم يفعل الفيلم التسجيلي أي شيء لتغيير هذه الحقيقة.

 

“في النهاية انتزعت الأرض وانتهى كل شيء”

يشرح الأب في حواره مع ابنه الشاب الذي رافقه في الرحلة إلى القدس والضفة الغربية خلفيات مشاعر الذنب التي لم تفارقه منذ أن سمع بسلب أرض العائلة الفلسطينية: لا أشعر بالرضا عما حدث، لا أعرف ما الذي توقعته العائلة من فيلمي، على الأرجح أني قلت لهم حينها أن مشاركتهم في الفيلم ستساعد في صراعهم للاحتفاظ بالأرض المُتنازع عليها.

بيد أن الفيلم لم يُحرك رأيا عاما في فلسطين أو خارجها بحسب المخرج الهولندي إذ شاهده 600 شخصا فقط عندما عُرض في الجامعة الهولندية حيث كان يدرس “سخاب” الإخراج السينمائي.

يختنق المخرج الذي يقترب من الستين من العمر عندما يصل إلى هذه العبارة التي بدت أنها أرقته ليالي عديدة “في النهاية انتزعت الأرض منهم وانتهى كل شيء”. سخاب غير متأكد أيضا أن عائلة العريضي قد شاهدت الفيلم التسجيلي عنهم حينها، وبعد عرضه في هولندا عام 1987.

يُخبر سخاب ابنه مارك في الطائرة التي كانت تحملهم إلى فلسطين: أرسلت لهم الفيلم في عام 1991، لكني سمعت أنه ضاع ولم يتمكنوا من مشاهدته.

اللقاء الأول الذي جمع المخرج الهولندي “كيس سخاب” والفلسطينيين عدنان وهشام بعد ثلاثين عاما

 

“اشتقنا لك يا كيس”.. رواية أخرى للصراع

احتفظ المخرج “كيس سخاب” بعلاقة لم تنقطع مع عائلة العريضي على طوال العقود الثلاث الأخيرة، فقد ظهر في واحد من المشاهد الافتتاحية للفيلم التسجيلي الجديد يتحدث من هولندا عبر الهاتف مع عدنان أحد أبناء العائلة، وصديقه الذي يقاربه في السن، ويسأله: اشتقنا كثيرا لك يا “كيس”، متى تعاود زيارتنا؟

يبرز الفيلم الجديد -إلى جانب علاقة “سخاب” بعائلة العريضي الفلسطينية- العلاقة الخاصة بين المخرج “كيس” وابنه “مارك”، ويتبدى ذلك من المشاهد الافتتاحية للفيلم عندما كان الأب والابن يتجولان في القدس القديمة، وعندما يصلان إلى حائط المبكى الذي تحرسه وحدة جنود إسرائيلية يكشف الابن لوالده أن ما يهمه في مدينة القدس هو رؤية المسجد الأقصى فقط.

يقول “مارك” أثناء تجواله في مدينة القدس القديمة: يبدو أني أشاهد هذه المدينة بعيون أخرى تختلف عن السائحين من حولي، هذا ليس ذنبي، هو ذنب أبي الذي كنت أسمع في حياتي كلها روايته الخاصة عن إسرائيل.

يكشف “مارك” أيضا أن والده اليساري الذي يقترب بأفكاره من الشيوعية قد وقف دائما إلى جانب الفلسطينيين في صراعهم ضد الاحتلال الإسرائيلي.

هشام الذي تولى مهمة الترجمة من العربية إلى الإنجليزية خلال الفيلم التسجيلي الأول قبل 30 عاما

 

“أعيش أسوأ سنوات حياتي”.. تقلبات الثلاثين عاما

يركز الفيلم على عدنان وصديقه هشام الذي تولى مهمة الترجمة من العربية إلى الإنجليزية عندما كان المخرج يحاور شخصياته قبل ثلاثين عاما، وقد نشأت علاقة صداقة بين “سخاب” والشابين العربيين وقتها، ويتابع المخرج الهولندي المسارات التي سارت عليها حياة الشابين طوال السنوات الماضية.

انقلبت حياة عدنان وهشام بعد تصوير فيلم “أطفال السيدة العريضي”، إذ إنهما انخرطا في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وقضيا سنوات في السجون الإسرائيلية، وقد تركت تلك الأوقات العصيبة والتعذيب آثارهما النفسية والجسدية على هشام الذي يُعاني اليوم من إعاقة واضحة في إحدى رجليه، بيد أنه ما زال ينخرط في العمل النضالي لكشف آثار الاحتلال الإسرائيلي على مدينته الخليل حيث يعيش اليوم.

عندما يصل المخرج إلى هشام وعدنان يجدهما قد شاخا قبل الأوان، يخبر عدنان المخرج وهما في طريقهما إلى أرض العائلة التي أخذتها السلطات الإسرائيلية بالقوة “أعيش أسوأ سنوات حياتي.. أسوأ الظروف على الإطلاق”.

يُشير عدنان إلى أرض عائلته وقد أصبحت جزءا من الأراضي الإسرائيلية العامة “كل شيء تغير هنا، هذه المستوطنات الإسرائيلية التي تغطي التلال كلها شيدت في العشرين عاما الماضية”، لكن ما إن يعثر الرجال الثلاثة على مغارة جبلية مائية سبحوا فيها قبل ثلاثين عاما، حتى عادت الحياة إلى عدنان، وأصر أن يسبح مع المخرج في مياه المغارة.

 

سرطان ووفيات وهجر.. مآسي آل العريضي المتوالية

مرَّت عائلة العريضي بفواجع عديدة، إذ مات شابان من العائلة، وهناك ابن ثالث يتعالج اليوم من السرطان، وفقد عدنان زوجته الطيبة المخلصة كما وصفها. يأخذ عدنان فريق الفيلم إلى المقبرة القريبة حيث دفنت الزوجة، وهناك يرقد أيضا ابن عم لعدنان قتل في ظروف بشعة على أيدي السلطات الفلسطينية.

يهجر عدنان عائلته الكبيرة لأسباب لم يرغب بالإفصاح عنها، حتى أنه لم ير أمه المسنة منذ أشهر قبل وصول فريق الفيلم الهولندي، ولم يرغب المخرج أن يضغط على عدنان من أجل شرح أسباب خلافه مع عائلته، بيد أن الابن سيرتب رغم الهجر لقاء مع والديه في منزل العائلة.

عندما يقابل المخرج الهولندي عائلة العريضي يكتشف أنها لا تحمل إلا المودة والتقدير له، وأنها لا تلومه على شيء، ذلك أن فيلمه الذي صوره قبل ثلاثين عاما كان محاولة صادقة لنقل عذاب العائلة بوجه قوة الاحتلال الإسرائيلي.

عرض “سخاب” فيلمه الأول على عائلة العريضي، وقد زاد عددها كثيرا بالأحفاد الذين ولدوا في العقود الثلاث الأخيرة، ولكن أم محمد لم ترغب بمشاهدة الفيلم في البداية، فالأرض ضاعت ولم يعد يجدي نفعا تذكر الماضي كما همست للمخرج، ومع ذلك فإنها أذعنت لرغبة أولادها وشاهدت الفيلم معهم، وشاهدت على نفسها عندما كانت في منتصف عمرها تدافع بلا كلل عن أرض العائلة التي أخذت ظلما.

 

“أبي هو الذي يحدد مسار حياتي”.. علاقة الآباء والأبناء

يُقارب الفيلم في خط موازٍ العلاقات بين الآباء والأبناء والتأثيرات المتبادلة بينهم، فيبدأ المخرج بنفسه وهو الذي ربى ابنه مارك على قيم العدالة والحق وأطلعه في وقت مبكر من حياته على رواية أخرى للصراع العربي الإسرائيلي ربما لا تتردد كثيرا في الإعلام في هولندا.

يبحث المخرجان في تعقيد العلاقات بين الآباء والأبناء والتركات التي يتركها الآباء لأبنائهم، يسأل المخرج هشام عن ما إذا كان قلقا من انجرار ابنه الشاب إلى النزاع المسلح مع إسرائيل كحال أبيه عندما كان بعمره، خاصة أن ابن هشام كان متأثرا كثيرا من فقد صديق له قتل برصاص الاحتلال الإسرائيلي.

يسأل الابن مارك في الاتجاه نفسه أبناء هشام وعدنان الشباب عن ثقل المسؤوليات التي يضعها الآباء فوق أكتاف أبنائهم، فيجيب ابن عدنان الشاب “أبي هو كل شيء لي.. هو الذي يحدد مسار حياتي”، بينما تبدو الميول اليسارية واضحة على نجل هشام، وهو يستشهد بمقولات للثائر الأممي تشي جيفارا في قراءته للواقع الفلسطيني.

هشام يمشي في سوق البلدة القديمة في مدينة الخليل بعد أن أضحى مرجعية مختصة بالشأن الفلسطيني

 

تحدي الاحتلال.. تعددت الطرق والهدف واحد

يركز الفيلم على تبدل الكثير من طبيعة المجتمع الذي يعيش فيه هشام وعدنان، ويتناول تغييرات المشهد السياسي والاجتماعي الفلسطيني العام، وكيف أنه لم يعد يشبه أبدا ما كان عليه إبان الانتفاضة الفلسطينية الأولى.

بيد أن هشام ما زال يحمل همّ الفلسطيني المثقف، وقد تحول في السنوات الأخيرة إلى مرجعية إعلامية في مدينة الخليل، تتصل به فضائيات وجهات إعلامية أخرى عندما تبحث عن مختص في شأن المدينة الفلسطينية أو في الشأن الفلسطيني العام.

يصور الفيلم هشام وهو يجرّ رجله المصابة بصعوبة في شوارع الخليل، المدينة التي مزقتها القوانين الأمنية الإسرائيلية الجائرة لحماية المستوطنين القليلين الذين يعيشون في قلبها. يستعيد الفيلم عبر فيديو صوره فلسطينيون مشاهد مُقززة للغاية لاعتداءات أطفال من أبناء مستوطنين هناك على نساء ورجال فلسطينيين من أبناء مدينة الخليل.

يؤمن هشام أن البقاء في مدينة الخليل وحده يعد تحديا للاحتلال رغم ظروف العيش القاسية جدا، ويريد هشام الخائف على أبنائه أن يتفقوا في دراستهم، وبعدها يُمكنهم أن يختاروا ما يرونه مناسبا لهم، حتى لو كان ذلك الانضمام في صفوف المقاومة بوجه الاحتلال الإسرائيلي.

المخرج الهولندي “كيس سخاب” يتناقش مع ابنه “مارك” حول فيلمهما خلال زيارتها للضفة الغربية

 

“كيس سخاب”.. شعور المخرج بالذنب تجاه شخصيات فيلمه

لم يرغب المخرجان الهولنديان أن يكون فيلمهما بالكامل عن أزمة الأب النفسيّة وشعور الذنب الذي يرافقه منذ سنين، إذ وسعا بؤرة عدستهما ليلتقطا مشهد وظروف الحياة في الضفة الشرقية اليوم، وركزا على شخصيات فلسطينية مُتنوعة منها من ينتمي إلى الماضي اليساري الفلسطيني الذي يكاد يتحول اليوم إلى ذكرى.

أما شعور ذنب المخرج “كيس سخاب” الذي ارتكز عليه هذا المشروع التسجيلي، فيُعد لوحده سابقة على السينما التسجيلية من ناحية أن تكون هذه المشاعر نقطة الانطلاق لمشروع سينمائي جديد.

لا ريب أن الكثير من المخرجين التسجيلين حول العالم يشعر بالذنب أو التقصير تجاه الشخصيات التي ظهرت في أفلامهم، ويتساءل الكثير منهم عن عدالة وإنصاف الأفلام التي صنعوها لهذه الشخصيات. بيد أن “كيس سخاب” ربما يكون الأول على صعيد العالم الذي يأخذ شعور الذنب ذاك ويبني عليه بناء تسجيليا مُؤثرا ومتينا.

يختتم الفيلم بتعليق للابن مارك يتساءل عما إذا كان رد عائلة العريضي قد أرضى والده، وعن ما إذا كان سيتوقف عن الشعور بالذنب تجاه العائلة، كما يتساءل الابن أيضا عن الأحداث التي كان شاهدا عليها في رحلته مع والده، وإذا كانت ستبقى معه لفترات طويلة قادمة، أم ستتحول إلى ما يشبه المسؤولية التي يجب أن يوصلها إلى العالم كما كان الحال مع والده؟