“مجمع لحباب”.. رحلة في فلك الموسيقى من تطوان إلى الأندلس

تستهويك الموسيقى الأندلسية في مشهد لطيف وأنت تتابع إحدى لوحاتها الفنية البديعة في محفل فني أو في حفلة عرس خاصة يحضرها الأهل والأحباب بطقوس عريقة هي غاية في الأصالة والجمال.

يزداد إحساسك بسحر هذا الفن التراثي الشعبي القديم الذي يريح الخاطر والأعصاب خاصة حينما تؤديه مجموعات نسائية وهن يغنينه مبتسمات بتناسق تام وانسجام فريد في الإيقاع والمواويل والأمداح والسماع، وتسلسل أحداث قصته التي تتغنى بخوالج الروح ونبض الوجدان وحكايات الإنسان.

ينهل فيلم “مجمع لحباب” لمخرجه محمد الشريف الطريبق من خيال أفراح صغيرة ولطيفة، ويتحول إلى أفراح كبيرة تسعد الفؤاد وتخلق للحاضرين انتشاء فنيا شكلا ومضمونا، وصوتا وصورة عبر قصة امرأة أحبت هذا الفن حتى النخاع كإبداع أصيل وجميل يأخذ من سحر الأبيض المتوسط والفضاء المغاربي ويمتد إلى غرناطة والأندلس.

تروى في الفيلم أيضا قصة حماسية وبطولية لامرأة حالمة بالسينما الوثائقية وتاريخ وقائع مرت عليها في الزمان والمكان، والكثير من الإشراقات البهية والانكسارات التي تنقل الخيال إلى واقع ملموس وتنقل الواقع إلى حقيقة بهية لها زهو الحاضر والماضي والتاريخ.

يعد هذا العمل سيناريو المخرج نفسه، وتصوير عبد الله المقدم، وإنتاج شركة “هيدلايت”، وتمثيل سناء ركراكي وعبد الرحمن بوزكري ومصطفى الولانتي، ومدته 72 دقيقة.

هجرة نفيسة.. خطة لاستدراك حلم مؤجل

يتتبع الفيلم أحداث امرأة تسمى نفيسة تقرر -بعد تدهور علاقتها بزوجها واستحالة العيش والاستمرار معه- السفر إلى مدينة تطوان لتحضير مشروع عمل سينمائي وثائقي مؤجل عن الفِرق الموسيقية، ويعد هذا المشروع بالنسبة لها حلما راودها منذ مدة طويلة، لكن خطتها للهروب من بيت الزوجية باءت بالفشل، حيث يلحق بها الزوج لثنيها عن قرارها، فيتداخل الماضي بالحاضر والذاتي بالموضوعي والوثائقي بالروائي عبر تسلسل الأحداث المتعاقبة.

بهذا تكشف الأحداث المتسارعة في الفيلم عالما من الأسرار والحقائق التي تخبئها المرأة في مشاعرها تجاه نفسها ومحيطها وتجاه ما تصبو إليه في ظل وضعها المتأزم في بيت الزوجية، وهنا يبرز حكي متوازٍ بين البطلة نفيسة التي تعيد اكتشاف ذاتها من جديد وحكاية نساء من مدينة تطوان خلال النصف الأول من القرن الماضي عندما يكتشفن الموسيقى الأندلسية والفضاء الخارجي بعدما كان هذا الفن يؤدى في الزوايا الدينية.

ومن خلال هذا التحدي على خوض هذه التجربة الفنية التي تبدو حكرا على الرجال تنتقل النساء الحالمات بكل إصرار من ممارسة عفوية وفطرية للغناء إلى الظهور في أماكن عمومية بنوع من الاحتراف.

الممثل المغربي عبد الرحمن بوزكري في لقطة من فيلم “مجمع لحباب”

روح الهوية.. انصهار في لغة الموسيقى

برع المخرج في إنجاز هذا العمل السينمائي في تجمع جميل للأهل والأحباب، وديوانية صغيرة معطرة بأريج السعادة تتنامى فيها أحلام نساء حالمات من خلال إصرارهن على جعل الموسيقى الأندلسية لغة للتواصل اليقين في لحظات يفرح بها الكبار والصغار.

كما يمكن استلهام الكثير من الجوانب التي تنتجها الصورة، وتوثق لأشكال مختلفة تبرز روح الهوية والعادات والتقاليد تنجلي عبر أزياء المجموعة الموسيقية وتنوعها، وأدوات زينتهن وأناقتهن، فضلا عن تحف المعمار المغربي والأندلسي، ويظهر عبر الفسيفساء والزليج والأقواس وزينة الدروب العتيقة وغيرهما.

إن أداء الممثلين وخاصة البطلة نفيسة في تطلعاتها المستقبلية وصدامها مع زوجها بعد فشل مخططها للهروب، وملامح الممثلين والشخصيات المرافقة في الفيلم مع شهادتهم المختلفة وجودة كتابة السيناريو، كل هذا أعطى للفيلم قيمته الجمالية والروحية.

إحدى النساء المغربيات التي تعمل عازفة العود في المجموعة الخاصة بالطرب الأندلسي

مزيج الروائي والوثائقي.. معالجة خلاقة للواقع

يمنح بُعد الفيلم التفاعلي مع الجمهور إمتاعا وقراءة من وجهات نظر مختلفة، مما يساهم في إخصاب رؤاه وأفكاره وإن كانت واضحة.

إن أسلوب التصوير وفضاءاته الداخلية والخارجية واختيار الموسيقى منح للصورة الفيلمية الكثير من الاستعارات والتأويلات الجمالية والإبداعية، فكان ذلك جزءا من قوة وشاعرية العمل، وهو يمزج بين الوثائقي والروائي بطريقة لا تخلو من معالجة خلاقة للواقع وقيم المجتمع.

بهذا يستطيع المتلقي أن يتماهى ويتفاعل مع أحلام وتطلعات البطلة وصدامها بالواقع من أجل تحقيق حلمها بإنجاز فيلم وثائقي إن صح هذا التعبير، وذلك عبر تسلسل الأحداث مع فهم معاني الصورة والشخصيات والشهادات الحية وتحركات الكاميرا، وأريج الموسيقى الذي يصدح هنا وهناك.

فهل فعلا استطاع الفيلم بكل هذه المعطيات الفنية والجمالية والمضامين القصصية التشويقية في عالم نسوي؛ أن يخلخل ذاكرة المتلقي لإنتاج مزيد من الأسئلة حول موضوع الفيلم الأساسي وأفكاره وعلاقة الروائي بالوثائقي، والتراثي بالموسيقي والأندلسي والطرب الغرناطي؟

“أفراح صغيرة”.. بذرة الفيلم الجديد

أكد المخرج محمد الشريف الطريبق حول فكرة الفيلم في تصريح للجزيرة الوثائقية أن الفكرة جاءت بشكل طبيعي بعد أن عمل على فيلم وثائقي قصير سابق بعنوان “أفراح صغيرة”، ثم فيلم روائي طويل آخر يتحدث عن الموسيقى الأندلسية بمدينة تطوان.

وقال الطريبق: إن هذه المادة الفنية تعتبر الخلفية الحقيقية لفيلم “مجمع لحباب”، وأن فيلمه الجديد استعاد فيه بحثه السابق عن الموسيقى الأندلسية التطوانية من خلال قصة الفيلمين السابقين، وذلك لإنجاز هذا الفيلم.

وتبرز مسحة وثائقية قوية ونفس روائي طويل في الفيلم، والمزج بينهما بطريقة فنية احترافية راقت للملتقي خاصة أثناء متابعة الفيلم في المهرجان الوطني للفيلم بطنجة خلال دورته الـ12، يقر المخرج بوجود هذا التناغم الإبداعي والفني في الفيلم عبر قصته وتسلسل أحداثه وشهاداته.

كما يقر بوجود جانب روائي مهم من الضروري إعادة بنائه وتوظيفه سينمائيا بطريقة جديدة ورؤية أخرى، وبالتالي جاءت الفكرة بشكل طبيعي من خلال حكايات مخرجة تريد أن تنجز فيلما وثائقيا، لكن هذه المخرجة الحالمة تحمل قصة شخصية تستحق أن تروى سينمائيا، وهنا تكمن جمالية الفيلم الوثائقية والروائية.

لقطة للمخرج محمد شريف طريبق خلال تصوير فيلمه “مجمع لحباب”

فيض العادات والتقاليد.. رمزية مدينة تطوان

يستشعر المتلقي من خلال متابعته لمشاهد الفيلم حسا فنيا وجماليا تتأسس عليه الموسيقى الأندلسية كفن غنائي تراثي وشعبي له امتدادات في منطقة شمال المغرب بحكم قرب المغرب من إسبانيا فضلا عن بلدان المغرب العربي.

أكد الطريبق حول هذا الجانب أن الفيلم يبرز هذا المعطى الإبداعي والجمالي العريق في تاريخ المنطقة بطريقة راقية، فضلا عن إبراز أهمية مدينة تطوان التي تعد من بين المدن القليلة في المغرب المحافظة على هذا الموروث الموسيقي القديم.

كما لفت إلى أن المدينة تتفتق عن مواهب نسائية كثيرة تمارس الموسيقى الأندلسية من خلال فِرق ومجموعات طورت هذا الفن عبر سنوات من خلال تجاربها، وحولته من موسيقى جامدة إلى موسيقى شعبية لها الكثير من العشاق، وتُغنى في الكثير من المحافل خاصة المناسبات والأعراس وغيرها.

وأشار إلى أن هذا الفن الذي يعد الفنان الراحل عبد الصادق شقارة أحد رموزه في المنطقة هو جزء من الهوية المحلية والذاكرة الفنية والتراثية الشعبية لمدينة تطوان ومدن شمال المغرب عامة.

أما بخصوص أهمية حضور الجانب الوثائقي لفن موسيقي عريق له روافد أندلسية يفيض من العادات والتقاليد والطقوس الجميلة من حيث الأزياء والآلات الموسيقية وطبيعة الجلسة النسائية الخاصة، فيعتبر أن هذا المعطى يمنح للمخرج إمكانية اكتشاف الواقع الخلاق كما هو بالرغم من إعادة كتابة الحكاية الوثائقية بنفس روائي.

ويؤكد أن الجانب التوثيقي من خلال الفيلم يتجلى في أننا “حاولنا تقديم المادة كما هي خامة وطبيعية بدون رتوشات أو مساحيق حتى يكتشفها الجمهور على سليقتها، بينما حضور الجانب الروائي في الفيلم هو محاولة لتذويب الواقع وتحويره من خلال شروط الدراماتورجيا (فن الكتابة المسرحية) داخل الحكاية والبنية الفيلمية بشكل عام”.

مخرج فيلم “مجمع لحباب” محمد شريف طريبق رفقة المخرج لحسن زينون خلال تتويجه في إحدى المهرجانات المغربية

تصالح مع الذات.. تلاحم الحاضر بالماضي

يحضر في الفيلم النسق التاريخي والحضاري، وتلاحم الحاضر بالماضي والذاتي والموضوعي، وهي عملية ركز عليها المخرج بشكل كبير، ولتوضيح هذه القضية يقول المخرج: جرى العودة دائما إلى التاريخ انطلاقا من الحاضر، كما أن بطلة الفيلم تنطلق من ذاتها لتحكي قصتها من خلال تجربة والدتها التي تمارس الغناء.

وأضاف: من هذا المنطلق تشكلت المادة التوثيقية التي ترسخت كفهم للواقع والتصالح مع الذات، وبالتالي فإن الحاضر هو المتأزم، والإجابة عن كل هذه الإشكاليات توجد في الماضي بل جزء منها.

وحول رؤيته الإخراجية في التوفيق بين الوثائقي والروائي وتحقيق نوع من الانسجام بينهما يقول الطريبق إنه أعطى حرية أكثر للكاميرا في الحركة وتتبع الشخصية من خلال قصتها المشوقة لإبراز الجانب الوثائقي في الفيلم بالخصوص.

كما أن التقاطع بين الأزمنة والشخصيات التي تلتقي وتتباعد جعلت المخرج قريبا من الشخصيات في حركاتها وإبراز خصوصياتها وطبيعتها، حيث قدمت حركة الكاميرا المتحررة بشكل أفضل أبعاد الأحاسيس ومشاعر الشخصيات والتعبير عما يختلجها من أحلام وآمال وتطلعات.

ويستعد المخرج بعد رفع الحجر الصحي لتقديم فيلمه في العديد من المهرجانات والتظاهرات السينمائية داخل وخارج المغرب، وأوضح حول هذا الموضوع أنه يتابع المهرجانات والتظاهرات السينمائية المقبلة التي يمكن أن تنظم بعد رفع الحجر من أجل مشاركة فيلمه ولقاء الجمهور من جديد.

مجموعة نسائية للطرب الأندلسي تؤدي إحدى الأغاني في إحدى البيوت القديمة في مدينة تطوان المغربية

تجمعات النساء.. ميلاد الموسيقى الأندلسية الشعبية

أشار مخرج الفيلم فيما يتعلق بحضور جانب الحكي بين النساء بشكل قوي وقيمته الفنية والاجتماعية في الحفاظ على تقاليد نسائية هي جزء من الهوية المحلية والمتوسطية؛ إلى أن خصوصية الفيلم تبرز من خلال طرح إشكالية مجتمعية وواقعية، وتسليط الضوء على حكاية نسائية ونوع موسيقي معروف.

وأكد أن هذا الفن تبلور من خلال جلسات نسائية تقام كل مساء بينهن في تجمع يحضره الأهل والأحباب، إذ يبدؤون في القيام بنوع من الارتجال الغنائي والموسيقي على بعض النوبات والمقامات الأندلسية، كما نبه إلى أن هذا الغناء يتخلله سرد حكايات وقصص، وتبادل للأخبار والحديث بين النساء، وبالتالي فإن هذا الحكي النسائي هو المولد والمبلور لهذا الشكل الموسيقي المعروف بالموسيقى الأندلسية الشعبية.

وكشف أن هذا الفن الموسيقي التراثي العريق توجد فيه مؤثرات جزائرية بحكم أن مدينة تطوان عرفت هجرة جزائرية بعد دخول الاستعمار الفرنسي، وأيضا فيها مؤثرات إسبانية وأندلسية مغربية، وهذا ما يعطي لهذا الشكل الموسيقي نوعا من الخصوصية في الصوت والحكاية والهوية والتاريخ.