“مخطوطة السمك”.. رحلة السينما إلى منفى الكاتب الكوري الخارج عن سرب المملكة

د. أحمد القاسمي

كثيرا ما يردّد نقاد الأدب بتباهٍ أنّ الرواية جنس إمبريالي توسّعي، وحجتهم أنها تستولي على مقدرات باقي الفنون والخطابات فتدرجها في عالمها، ككل دولة إمبريالية تعيش من خلال الهيمنة على محيطها، لكن ما إن ظهرت السينما حتى انتزعت منها هذه الصفة، فجعلتها هي نفسها مجالا حيويا تتوسع فيه وتقتبس منها حكاياتها.

 

هذا بديهي، فهي تروي الحياة بكل وجوهها، لذلك ما فتئت عدسات الكاميرا تحوّل الفنون والرياضة والسياسة إلى موضوعات حكايات مدهشة، لكن يبقى التاريخ مجالها الأثير، فمنه تستمد القصص المدهشة فتوقظ فينا الحنين، أو تدفعنا إلى أن نعيد قراءته ونسائله من جديد.

فيلم “مخطوطة السمك” (2021) للمخرج “لي جون إك” الذي يعرض سيرة “جيونغ ياك يونغ” (1758-1816) أهمِّ المفكرين الكوريين؛ هو نموذج جيد لهذه الصلة العميقة بين الفنين.

“جيونغ ياك يونغ”.. ارتداد عن المسيحية ونفي إلى نهاية الدنيا

يعود بنا الفيلم من حملة اضطهاد الكاثوليكيين في كوريا مطلع القرن التاسع عشر، وذلك حين اعتلى الطفل “سون جو” عام 1801 عرش مملكة جوسون (1382-1910)، فقد توفي الملك “جونغ جو” فجأة، وتولّت أرملته “ليونغ سون” الوصاية على عرش ابنها.

وعلى خلاف زوجها الذي كان يسمح بقدر من الحريات الدينية، فقد مالت الأرملة في سياستها إلى الجناح المحافظ في البلاط الذي يدافع عن القيم والمعتقدات الكونفوشيوسية التي يُعدّ الخروج عنها خيانة في كوريا.

الفيلسوف والشاعر “جيونغ ياك يونغ” الذي ارتدّ عن المسيحية فقوبل بالنفي من عائلة

 

في هذه الأثناء كانت عائلة “تشونغ” التي تُعتبر عائلة فكر وثقافة قد اعتنقت المسيحية الكاثوليكية، وكان الفيلسوف والشاعر “جيونغ ياك يونغ” أكبر أبنائها، ولأنه أعلن ارتداده عن المسيحية لم يُقتل مثل شقيقه الأوسط الذي تمسك بمعتقداته، ولم ينف نفيا رحيما مثل شقيقه الأصغر، وإنما نُفي إلى الجبل الأسود في جزيرة هوكسان المعزولة عن العالم، ليواجه قدره هناك، فهو رغم ارتداده المعلن يظل الأخطر بين أشقائه.

هناك يلتقي “يونغ” بالشاب العصامي “تشانغ داي” الخبير بعالم البحار، والمؤمن إيمانا عميقا بتلك القيم المحلية، فيصطدمان لاختلاف معتقداتهما، ثم تتحول العلاقة شيئا فشيئا إلى تعاون وتبادل للتأثير خدمة للإنسانية، فيساعد الفيلسوفَ في فهم أسرار الحياة البرية، وفي تأليف كتاب مخطوطة السمك، ويساعده الشيخُ بالمقابل في فهم الحياة من منطلق تصوّرات حديثة.

وتنبؤنا المصادر التاريخية بأن الكاتب عاش في غانييغ، فكان يرتاد حانة صغيرة، ثم تعرّف على حياة الفلاحين الفقراء، إلى أن استقر في منزل يُطل على مينائها وخليجها، وكان محاطا بالطلاب الذين يعيشون في منزل قريب منه، وكان غزير الإنتاج للغاية، فقد كتب 500 كتيب.

لكنّ الفيلم قد ابتكر شخصية الشاب “تشانغ داي” ليجعله عنصر تجاذب شيّق مع الشاعر، وغيّر من فضاء الأحداث، فجعل الأرملة “غا غيو” تستضيف “جيونغ ياك يونغ” في ملحق بمنزلها، فتوفر له دفئا عائليا في نهاية الدنيا، حتى يضفي مؤثرات درامية على قصّته.

تصورات المخرج.. غطس في السياقات التاريخية الكورية

يدفع السياق التاريخي بتصورات المخرج ورؤاه إلى السطح، ويصر على أن الفيلم ليس فرجة وتسلية فحسب، إنه مواقف ووجهات نظر، حيث يعود بنا إلى الصدام بين رؤيتين للوجود في كوريا في مستهلّ القرن التاسع عشر، وهو التصور التقليدي المسمى بالكونفوشيوسية، وهو منهج حياة وسُلم للقِيم ظهر في الصين، ثمّ انتشر في عامة آسيا الشرقية إلى كوريا، وعمادها فلسفة دنيوية محافظة ترى أن بإمكان الأفراد أن يدركوا إنسانيتهم، وأن يتحدوا مع السماء من خلال تأمل قيمها ومبادئها، كما ترى أنّ هذا التحوّل يتجاوز الأفراد، فيشمل الأسرة والمجتمع ويسهم في خلق أمّة متناغمة.

من اليسار صورة تجمع الممثل “سول كيونغ غو” و”بيون يو هان” ومخرج الفيلم “لي جون إك”

 

والثاني هو التصور المسيحي الكاثوليكي الذي أخذ في الانتشار في كوريا بين علماء مملكة جو سون منذ القرن السابع عشر، وتسارعت وتيرته في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، رغم أنّ تعويض قيم الكونفوشيوسية بمعتقدات؛ كان يعدّ خيانة للأمة، ويستوجب العقاب القاسي.

ورغم اعتناق الفيلسوف والشاعر “جيونغ ياك يونغ” للديانة المسيحية، فإن الفيلم لم يبرزه مهتما بدراسة اللاهوت، فعزلته ومواجهته لذاته في الجزيرة من جهة، واكتشافه للبؤس الذي يعيشه الأهالي من جهة أخرى؛ جعلاه يكتشف أنّ العبادة الحقيقية تتمثل في فرض القيم المدنية، وتخليص الإنسانية من بؤس الصراعات المذهبية، فترك هذا المبحث لينصرف إلى إجراء التجارب العلمية المادية، وليبحث في أسرار حياة المخلوقات البحرية في أثره “مخطوطة السمك”.

لقد صوّر لنا الفيلم الطريقة التي عاشت بها كوريا مدنيتها وانفتاحها على العلوم الحديثة، وعلى الفلسفة الوضعية، دون صدام مع الماضي أو اجتثاث له، فحافظت على الدور الاجتماعي للدين، وواءمت بين الأصالة والحداثة.

أفكار فلسفية عميقة تغزو سلوك الأهالي.. ثورة المنفى

لا سبيل إلى إنجاز فيلم جيّد دون سيناريو محكم، ففيلم “مخطوطة السمك” طويل جدا (تتجاوز مدّته الساعتين)، وأحداثه متشعبة وشخصياته كثيرة. وفي مثل هذه الحالات كثيرا ما ينفرط عقد البناء الدرامي، ويتحوّل القصّ إلى متاهة، أما في فيلم “لي جون إك” فقد كان السيناريو ينضد الأحداث، ويجعلها تتدرّج في مسار متنام يكسب الأثر وحدته وانسجامه.

الفيلسوف “جيونغ ياك يونغ” الذي التقى بعالِم البحار “تشانغ داي” وساعده في الانتهاء من كتاب “مخطوطة السمك”

 

تبدأ الأحداث برحلة “جيونغ ياك يونغ” نحو المجهول، فيُقاد ذليلا مُهانا إلى جزيرة الجبل الأسود النائية، حيث يكون في حالة انكسار، ولا تزيده الذاكرة إلا انهيارا، وهي تعود به إلى ما لقي من تنكيل بسبب ديانته المسيحية، وإلى إعدام شقيقه بفظاعة أمام ناظريه.

يأخذنا الوسط إلى تحدي البقاء، فيحوّل نفيه في جزيرة المهالك إلى تلاؤم مع الحياة الجديدة أولا، فيكسب ثقة الأهالي، ويغير نظرتهم إليه من المنفي الخائن إلى المعلّم الحكيم.

في منتصف الفيلم تأخذ الأحداث منعرجا جديدا، حيث يسير كل شيء كما أراد له الفيلسوف، فيسهم في تغيير سلوك الأهالي ورؤيتهم للحياة، مسرّبا أعمق الأفكار الفلسفية عبر الحوار البسيط، ويظهر ذلك في نقاش بينه وبين السيدة “غا غيو” مداره على أنّ الخصب لا ينشأ من طبيعة البذور، بقدر ما ينشأ من طبيعة التربة التي يزرع فيها، وأن الجيل الصالح ينشأ من حضن الأم أكثر مما يدين إلى غرس الأب.

يهرع الشاب التقليدي ليقوم بأعباء المطبخ ويساعد أمه، راميا بقيم الكونفوشيوسية عرض الحائط، ويتحول إلى منارة تشع علما، فيُدرّس الأطفال وينشر المعرفة بينهم، ويجعل ما حدث من نفيه فرصة ليمارس دور المثقف الطلائعي، وتكون النهاية مُحصّلة ذلك المنعرج الكبير في اهتماماته، لما صرفه “تشانغ داي” إلى دراسة أسرار السمك البيولوجية، فيتحوّل من الخوض في المسائل الدينية واللاهوتية المتعالية، إلى البحث الميداني ذي النفع المادي المباشر على الصيادين.

“هذا الرجل خائن”.. صرخة في ضمير الأمة وخزان التاريخ

في الأفلام الأصيلة تختزل البدايات والنهايات رؤية المخرج، فيكفي أن تتذكر اللقطة الأولى، والستار يسدل على مشهد النهاية ليتضح لنا مسار الأحداث في شكل سهم.

 

هذا ما ينطبق على “مخطوطة السمك” تماما، فالفيلم يبدأ بالملك “جونغ جو”، ويحذر “جيونغ ياك يونغ” من عواقب تنتظره بسبب الانغلاق الديني، ويوصيه بأن يصمد خدمة للبلاد قائلا له إن أفضل إنجاز يحققه عالم ومفكر مثله هو البقاء على قيد الحياة، وبالفعل يواجه الفيلسوف محنا كثيرة بموت ملكه، تنتهي بنفيه بعيدا عن الحضارة والعلم، وتمثل النهاية امتثالا لتلك النصيحة، فقد تحدى المصاعب، وكسب رهان البقاء خدمة للبلاد، وإسهاما في نهضتها العلمية.

لهذا المسار دلالتان عميقتان، فعلى المثقف من وجهة نظر الفيلم أن يكون ضمير الأمة الذي لا يغفل، وقدره خدمة البلاد والعمل على النهوض بها، وإن كان الوسط فظا معاديا يقابله بالاضطهاد وتأليب الرأي العام ضده والرمي بالكفر والخيانة. وتجسيدا لهذا المسار يصل “جيونغ ياك يونغ” إلى الجزيرة مُرهقا منكسرا، فيقدمه الحاكم الجاهل المتسلط إلى الأهالي قائلا: هذا الرجل خائن، وصل إلى هنا بعد أن نجا من حكم الإعدام بأعجوبة، فلا تكونوا لطفاء معه.

والمسار الثاني هو أن على التاريخ أن يكون خزّان حلولنا لمواجهة حاضرنا. ربما عدنا إليه لنجعله مصدر فخرنا، ولندعّم إحساسنا بكينونتنا المشتركة، وتعميق جذور هويتنا، لكن ليس ذلك سوى المستوى الظّاهر، فللوجه قفا هو مساءلته وإعادة تأمل وقائعه، لنطرح من خلاله قضايا الراهن، ونستخلص الدروس والعبر، لا لنقدسه ونعمل على إعادته، ونحاول عبثا أن نوقف سهم الزمن وعجلته.

“جريمتي أنني كنت رجلا، هو لكم فخذوه”.. سحر الأبيض والأسود

يعرّفنا صوت السارد في الدقائق الأولى للفيلم بأن الجزيرة نهاية العالم، حيث تكون السفينة الشراعية في عباب البحر قريبا من الجزيرة، فتصوّر من منطلق لقطة جامعة تعرض الجبل المتعالي والضبابُ الكثيفُ يلفّه. وبما أن الفيلم يصوّر بالأسود والأبيض، فإن اللقطة تغرق في السواد، وتطمس الحدود بين البحر والضباب والجبل، ويضحي الكل ممتدا لا نهائيا يجسّد العزلة القاتلة التي أرادها الفكر المحافظ للفيلسوف بعيدا عن مباهج الحياة.

 

لكن كلّما تقدمنا في الفيلم وأضحى “جيونغ ياك يونغ” مسيطرا على مصيره، حيث كسر عزلته وتحوّل نفيه إلى بعث للحياة في جزيرة نائية منسية؛ أضحت الصورة أكثر إشراقا، فاعتمدت التباين بين القيم الضوئية، وشكلت لوحات بديعة تُذكرنا بسحر الأبيض والأسود، لما كانت الشاشة فضية بالفعل.

وفي نهاية الفيلم يعود الشاب “تشانغ داي” إلى الجزيرة، فقد تركها لما اشترى له والده منصبا كبيرا قريبا من دوائر الحكم. وهناك اكتشف زيف القيم وعمق الاستغلال، حيث يدفع الرجل المكوس بلا نهاية لأنه أنجب الأطفال، ويظل يدفعها بعد موتهم، فينتفض أحدهم قائلا، وقد بات عاجزا عن توفير القوت لعائلته “جريمتي أنني كنت رجلا، هو لكم فخذوه”، ويقطع عضوه الذّكري وينزف حتى الموت.

وحين تبكيه زوجته يهم بها أعوان الجباية ويحاولون قتلها، فتنتفض في “تشانغ داي” الإنسانية التي سهر “جيونغ ياك يونغ” على تغذيتها فيه، وينتقم للرجل النازف ولزوجته، ويترك عالم المدينة الزائف، وعند الاقتراب من الجبل تقول زوجته “ها قد وصلنا إلى الجبل الأسود”، فيجيبها “ليس جبلا أسود، إنه ذاك الجبل”، ثم تظهر الألوان فجأة، ويكتسب الفضاء بهجته التي ينتهي عليها الفيلم.

لم يخل الفيلم من سحر الأبيض والأسود، ومن حنين إلى سينما القيم الضوئية التي تبرز قدرات المخرج التشكيلية قبل أن تغزو الألوان الشاشات، فلا يصل بين الماضي والحاضر من خلال طرح القضايا الإنسانية العميقة، من صراع العقل ضد التحجر الرافض للتطور، أو مقاومة الاستبداد، أو وظيفة المثقف في المجتمع، وإنما من خلال التقنيات أيضا.

كان المخرج يتطلّع إلى المستقبل المشرق من خلال عودة الشاب “تشانغ داي” إلى الجزيرة، وقد أصبح تمرّده واعيا بعد أن وجده “جيونغ ياك يونغ” شخصية متدهورة، لذلك فإن المخرج جعل البهجة تشرق على الشاشة في شكل تناغم بين الألوان، في اللحظات الأخيرة من الفيلم.

حيوان الجاحظ.. مرآة الفيلم المنعكسة على التراث العربي

لا توجد معانٍ قارة في الفيلم، فالمتفرّج هو من يفعّل بعضها وينزلها في سياق حضاري بعينه، ولا نخال متفرّجا عربيا يشاهد الفيلم دون أن تعود ذاكرته إلى كتاب “الحيوان” للجاحظ، وهو يصف الحيوانات من جهة تكوينها وطبائعها وغرائزها وسلوكها وغذائها ونموها، أيام كان للعرب دور ومكانة، رغم الاختلاف بين الرجلين في المصادر والمنهج والغايات والعصر.

 

ولا نخال ذهن هذا المتفرّج يتجاهل أسئلتنا المحرقة اليوم حول منزلة الوطن في ظل حلم شبابنا بالهجرة كما رحل الشاب “تشانغ داي” إلى المدينة، أو حول التعايش بين ماضينا وحاضرنا دون صدام كما نجحت كوريا في أن تحقق ذلك، بينما نفشل نحن في تحقيقه فشلا عظيما.

ما يطرحه الفيلم قضايا إنسانية كبرى لها نظير في مجتمعاتنا العربية، والفيلم الجيد هو الذي يجعلك ترى على شاشته مرآة نفسك ومرآة مجتمعك، فيدفعك إلى التفكير، بعيدا عن التقبّل الاستهلاكي الساذج