مدارس التمثيل.. الثورة الفنية التي صنعت السينما المصرية

الفنان المصري هشام عبد الحميد

لعل من أكثر الحرف والمهن غموضا وسحرا هي مهنة التمثيل، فالناس يشيرون على الممثل الذين أحبوه قائلين: إنه رائع، ولكنهم قد لا يعرفون على وجه الدقة لماذا، وكيف؟ بل إننا نعجب في كثير من الأحيان لنجاح ممثل وهو غير موهوب بالدرجة الكافية.

على أي حال نحن في هذا المقال سنعرض قدر المتاح مدارس التمثيل المختلفة، وكيفية استخدامها أو استثمارها سواء عن قصد أو دونما قصد بالسينما المصرية.

ودعونا أولا نتعرض لمعنى التمثيل كما عرّفه القطب الكبير “قسطنطين ستانيسلافسكي” الذي قال من ضمن ما قال: إن عملية التمثيل هي عملية معقدة داخل عقل الممثل ووجدانه منعكسة على جسده، وتعبير الوجه للوصول إلى أقصى درجات الإقناع  للمتفرج، وذلك بأداء طبيعي لا افتعال فيه ولا مبالغة كاذبة.

كان هذا التعريف ثورة في عالم التمثيل، وكان “ستانيسلافسكي” يستمد تعاليمه تلك من نقده للأداء الأوبرالي الذي يعتمد على المبالغة في الانفعال وحركات الجسد والوجه، وهذا النوع من الأداء المتكلف له جذور تستند لفكرة أن البطل التراجيدي لا بد أن يكون مختلفا، فهو ليس مثل البشر العاديين، بل أرفع منهم قدرا وشأنا، ومن ثم لا بد أن يكون أداءه مُفخما مبالغا فيه صوتا وجسدا وتعبيرا. إن هذا الفن وُلد داخل المعابد والقصور، وبالتالي فإنه يُقدم فنا نخبويا.

“قسطنطين ستانيسلافسكي” الذي أنشأ مدرسة “ستانيسلافسكي” بروسيا، والتي أنقذت مدرسة التمثيل من امتداد مدرسة المبالغة إليها

 

“قسطنطين ستانيسلافسكي”.. مدرسة الاندماج الروسي

تغيرت النظرة النخبوية للفن بعد ظهور مدرسة “ستانيسلافسكي” بروسيا، فقد أنقذت هذه المدرسة التمثيل من امتداد مدرسة المبالغة إلى التقمص الكامل للشخصية، وتلك التقنية في ذاك الاتجاه معناها أن يسيطر لا وعي الممثل على وعيه فلا يدرى الممثل من نفسه شيئا غير الشخصية المنوط بها فيعود بها إلى درجة أنه يتمناها بكل جوارحها.

فعلى سبيل المثال -وهذا ما حدث بالفعل- فإن الممثل اندمج في شخصية “عطيل” لشكسبير الذي يعاني من الشك في سلوك حبيبته “ديزدمونه”، ويوغر صدره صديقه الشرير “ياغو”، حيث يجد عطيل المنديل الذي يؤكد شكوكه، فيندفع كالثور الهائج نحو “ديزدمونه” ويصيح فيها “المنديل يا ديزدمونه المنديل”، ويقوم بخنقها حتى تلفظ أنفاسها، وللأسف اندمج الممثل وتقمص الشخصية، وبالفعل شرع بخنق الممثلة، وبسرعة أدرك القائمون على العمل إمكانية وقوع الكارثة فأوقفوا المسرحية وأنقذوا الممثلة.

عاد الممثل إلى وعيه بعد أن كادت تحدث مصيبة متأثرا بما تعلمه من مدرسة الاندماج والتقمص، ولعل هذه المدرسة برغم خطورتها لها مريدوها حول العالم.

الفنان المصري زكي رستم الذي تأثر بمدرسة الاندماج التي أسسها “ستانيسلافسكي”

 

زكي رستم.. صفعة أدت إلى إغماء الممثلة

لا شك أن المثال الأهم لمدرسة الاندماج التي أسسها “ستانيسلافسكي” عندنا في السينما المصرية هو الكبير زكي رستم، إذ إن من المعروف عنه الاندماج الكامل بالتمثيل لدرجة أنه من فرط اندماجه في التمثيل صفع بيده القوية وجه ماجدة في عمل من إنتاجها.

وقد أدت هذه الصفعة من فرط قوتها إلى نزيف في الأنف وأدت إلى إغماء ماجدة، وبالطبع قدموا لها الإسعافات اللازمة، وعندما أفاقت قدم زكي رستم اعتذاره لها، فكان رد ماجدة أنها غير غاضبة، ولكنها فقط تريد أن تكمل الفيلم في إشارة منها أنه إذا تكرر الأمر بهذه القوة دون تحكم في مظاهر القوة قد يحدث ما لا يحمد عقباه.

الفنانة المصرية سعاد حسني التي اندمجت بالفطرة إلى مدرسة التحكم التي تضع مسافة بين الوعي واللاوعي

 

سعاد حسني.. ابنة التحكم التي اندمجت في مشهد الاغتصاب

من المرات القليلة التي اندمجت سعاد حسني رغم انتمائها بالفطرة إلى مدرسة التحكم -هذه المدرسة التي تضع مسافة بين الوعي واللاوعي- في مشهد الاغتصاب بفيلم “الكرنك” لعلي بدرخان، وقد كان المشهد قاسيا إلى أبعد الحدود.

ذلك المشهد الشهير الذي يقوم فيه فرج باغتصابها كنوع من كسر إرادتها لكي تطوعها الأجهزة الأمنية حسب ما تريد، وبالطبع صرخت سعاد وانهارت بالمشهد، ويبدو أنه كان انهيارا حقيقيا من شدة الاندماج إلى درجة أنها انخرطت في نوبة هستيرية من البكاء والصراخ، حتى بعد أن أوقفوا التصوير.

انتهى المشهد لكن سعاد استغرقت في تلك الحالة وقتا طويلا حتى استطاعت تهدئة نفسها.

 

“غرام وانتقام”.. كاريزما نجوم الأداء المبالغ فيه

أعطينا أمثلة من السينما المصرية عن التقمص، ولا بد أيضا أن نعطي أمثلة عن التمثيل المبالغ فيه  سواء كان انفعالا أو مبالغة في الهدوء كنوع من اصطناع الطبيعة، ولعل المثل الصارخ عن هذا هو يوسف وهبي، وأيضا ميلودرامات حسن إمام، وبالطبع ليست كل أعمال حسن إمام.

في فيلم “غرام وانتقام” -على سبيل المثال- كان هناك أداء مبالغ فيه ليوسف وهبي، وهو مثال واضح لهذا النوع من الأداء، ولكن يظل السؤال الحاضر في الذهن كيف نجح يوسف وهبي وأنور وجدي وغيرهم في هذا الأداء المفتعل؟

والإجابة على هذا السؤال الوجيه هو الكاريزما أو الحضور، فلا شك أن يوسف وهبي وأنور وجدي وفاطمة رشدي كانوا يمتلكون ذاك الحضور القوي الذي يأسر المشاهد ويجعله يتغاضى عن مبالغتهم الشديدة في الأداء إلى درجة أن الجمهور المصري بقي معتمدا على هذا الأداء المبالغ فيه سنوات طويلة، حتى تطور ذوقه وأخذ يتذوق الأداء الحقيقي المقنع دونما افتعال في التمثيل.

 

نجيب الريحاني.. عبقرية عفوية في فجر السينما المصرية

لعل الاستثناءين الوحيدين في زمن الثلاثينيات والأربعينيات كان للعظيمين نجيب الريحاني وسليمان نجيب، فلم ننس هذا المشهد الضاحك المبكي بينهما في فيلم “غزل البنات” آخر ما مثله نجيب الريحاني. كان هذا المشهد يزخر بكثير من المعاني والمتناقضات بين مدرس اللغة العربية البسيط وبين الباشا في زي بستاني.

ترتب على ذلك مفارقات ضاحكة إلى حد الصراخ، ولكن دون الافتعال أو لي عنق الموقف أو الأداء، وكذلك لا ننسى تمثيل الريحاني العبقري في فيلم “أحمر شفايف” مع الجميلة سامية جمال، فقد كان أداء الريحاني بهذا الفيلم تحديدا مذهلا، أداء يقترب بل يكاد يتفوق على كثير من أداءات ذلك العصر في الطبيعة والتحكم في نبرات الصوت وتعبير الوجه الدقيق وقبل كل هذا سيطرة وعيه على كل مفردات الشخصية. حقا كان عبقريا.

النجمة الأمريكية مارلين مونرو التي تأثرت بمدرسة استوديو الممثل

 

استديو الممثل.. ثورة في عالم التمثيل في أمريكا

بالطبع تطورت تعاليم “ستانيسلافسكي” في أمريكا على يد معلمة التمثيل “ستيلا أدلر”، ونقلته بدورها إلى “لي ستراسبير” الذي أنشأ مدرسة تمثيل سماها استديو الممثل، وتعنى هذه المدرسة بالأسلوب، وكانت تطويرا لتعاليم “ستانيسلافسكي” كما ذكرنا.

وقد تخرج من هذه المدرسة أهم النجوم، فمنهم على سبيل المثال لا الحصر “مارلون براندو” و”بول نيومان” و”ميريل ستريب” و”روبرت دي نيرو” و”آل باتشينو” و”جاك نيكلسون” و”داستين هوفمانو” و”جين هاكمان”، و”مارلين مونرو” و”جيمس دين”.

وكل هؤلاء النجوم الذين ذكرنا قد أحدثوا ثورة في عالم التمثيل، وحققوا النجومية أيضا إذ من الصعب أن تصبح ممثلا مميزا ونجما كبيرا على صعيد واحد، وهذه المدرسة هي التي ينتمي إليها كاتب هذه السطور.

 

عمر الشريف.. صفعة تؤدي إلى عاهة مستديمة

نعود إلى أهم الممثلين الذين انتموا إلى “ستانيسلافسكي” أو الذين انتموا إلى مدرسة الاندماج، وكان منهم شكري سرحان وعمر الشريف في فيلم  قبل مرحلة العالمية، فعلى سبيل المثال انهال شكري سرحان في أحد المشاهد بالصفعات المتتالية مندمجا، ولم ينقذ الممثلة إلا كلمة توقف لكي ينقذوا الممثلة من أيدي شكري سرحان، وكذلك عمر الشريف كانت نسبة اندماجه عالية لدرجة أدت لإحداث عاهة مستديمة بأذن سناء جميل.

فأثناء مشاهد فيلم “بداية ونهاية” لصلاح أبو سيف في المشهد الشهير بنهاية الفيلم كانت سناء جميل تلعب دور أخت عمر الشريف الملوثة بالعار، وبعد احتجازها بالقسم بتهمة الدعارة واستدعاء أخيها الضابط عمر الشريف يأتي فيأخذها ويخرج خارج السجن، لتحدث المواجهة والاستعطاف من الأخت.

انتهت المواجهة بصفعها صفعة قوية تركت آثارها بعدم السمع في أحد الأذنين، وبالطبع فمع ممثلة بحجم سناء جميل نحن نقف أمام مدرستين مختلفتين مدرسة الاندماج الكامل لعمر الشريف ومدرسة الوعي والسيطرة تمثلها سناء جميل.

سناء جميل بجانب أنها ممثلة موهوبة موهبة كبيرة، فهي خريجة المعهد العالي للفنون المسرحية، وبالتالي فإنها تفهم وتعي الفرق بين مظاهر القوة واستخدام القوة نفسها، وهذا لم يكن متوفرا لعمر الشريف وقتها.

هناك فرق بين استخدام القوة نفسها وبين مظاهر القوة، أي هناك فرق بين أن أصفع أحدا صفعة حقيقية، أو أن أُمثل ليظهر أن الصفعة تبدو حقيقية، وبالطبع هذا يعود إلى درجة وعي الممثل من عدمه.

 

“شيء من الخوف”.. مشهد الزواج الخالد في ذاكرة السينما

من الأمثلة الهامة والشاهدة على استخدام وعي الممثل -كما يجب أن يكون- مشهد الممثل الكبير محمد توفيق في فيلم “شيء من الخوف” لحسين كمال، ويلعب محمد توفيق دور والد شادية، ويجبر في الفيلم على تزويجها من عتريس (الممثل محمود مرسي)، لينتهي الفيلم بعد ذلك بثورة أهالي القرية حين يخرجون جماعات مرددين الجملة التي أصبحت أيقونة في حد ذاتها “جواز عتريس من فؤادة باطل.

كان  الأداء في مشهد استنطاق محمد توفيق من قِبل المأذون بموافقته على زواج ابنته فؤادة من عتريس -رغم أن هذا الزواج عن غير رغبته- عظيما تبدى في تهدج الصوت وتقطع الكلمات وارتعاش محسوب في خلجات الوجه بشكل دقيق خال من الانفعال أو كثرة الاستخدام، ولن تنسى ذاكرة السينما هذا المشهد وهذا الأداء تحديدا لأستاذ من أساتذة التمثيل.

 

“الزوجة الثانية”.. صراع يودي إلى الشلل

من المشاهد التي وقع فيها اندماج مشهد صلاح منصور في فيلم “الزوجة الثانية”، حين ينتزع العمدة صلاح زوجة أحد الفلاحين الغلابة، ويلعب الأدوار شكري سرحان وسعاد حسني في المشهد المُشار له. ينتظر العمدة الفتاة ويطلقها من زوجها بالإكراه لكي يتزوجها لتكون الزوجة الثانية بعد سناء جميل (الزوجة العاقر)، ولكن بدهاء الفلاحين تنتقم سعاد حسني لشرفها وشرف زوجها بأن تمنع العمدة من مجامعتها.

تجتمع الزوجة الثانية بنفس الوقت مع زوجها السابق بعد أن اطمأنت إلى عدم شرعية بطلان زواجها الإجباري مع العمدة، لكن ما نفذته سعاد مع زوجها الأساسي (شكري سرحان) نتج عنه حمل جنين؛ مما شكل صدمة للعمدة، فالعمدة لم يستطع أن يجامعها مطلقا، فإذن هناك من جامعها ويقع العمدة في صراع نفسي عنيف.

إنه لا يستطيع أن يجهر بحقيقة الأمر، وفي الوقت ذاته يريد أن يثأر لشرفه، ونتيجة لهذا الصراع يُصاب بالشلل. هذا الصراع الذي عَبر عنه صلاح منصور تعبيرا فريدا، وبتحكم مذهل في كل أدواته من خلال التحكم في وعيه -الوعي الجمعي في تراثنا- قدم صلاح واحدا من أهم أدواره على الإطلاق إن لم يكن أهمها.

الفنانة المصرية سناء جميل التي تألقت في فيلم “حكمتك يا رب”

 

سناء جميل.. ابتسامة الأموات في قفص المحكمة

تألقت سناء جميل في فيلم “حكمتك يا رب” لحسام الدين مصطفى، وتلعب سناء بالفيلم دور مهربة مخدرات لا أحد يعلم بها حتى ابنتها الطالبة الجامعية، لنكشف أمرها لاحقا في نهاية الفيلم.

تُقدم سناء لحظات درامية عديدة من أجمل لحظات التمثيل، لكني أجزم أن اللحظة الدرامية التي قدمتها عندما كانت خلف القضبان أثناء محاكمتها تُعتبر من أعظم اللحظات الدرامية في العالم، ففي تلك اللقطة يرتسم على وجهها شبح ابتسامة وعند النطق بالحكم يأمرها الشاويش داخل القفص  بأن تنهض، ولكنها تستمر مبتسمة ولا تُحرِّك ساكنا.

عندما يقوم بتهديدها تقع على الأرض بنفس الابتسامة وهي تُفارق الحياة، أي أنها ماتت أثناء المحاكمة وشبح الابتسامة يعلو وجهها. من أين جاءت سناء جميل بهذا التعبير المدهش، وبهذا التحكم في عضلات الوجه بهذه الدقة؟ إنها أعلى درجات الوعي بالشخصية المُناطة بها. إنها القدرة على التحكم بالجهاز العصبي بتلك الصرامة والقوة. تلك اللحظة تُعتبر درسا في التمثيل وعلومه لمن يريد.

بالطبع هناك الكثير من اللحظات الدرامية لكثير من الممثلين والممثلات، وتتنوع بين التقمص والاندماج الكامل، وقد ذكرنا عيوب الاندماج والفرق بين التحكم في الوعي وترك مساحة مقصودة بين الوعي  واللاوعي، أي أن يُدرك الممثل أنه يقدم الشخصية الفلانية من إخراج المخرج الفلاني، ولكنه بنفس الوقت يمسك بتلابيب الشخصية دون الاندماج الكامل بها.

علنا بهذا المقال نكون ألقينا بعضا من الضوء على هذا الفن والعلم الدقيق في عناصره والمعقد في آلياته، رغم ما يبدو عليه من بساطة وسهولة.