مدرستنا العربية.. في الحاجة إلى ثورة تربوية

د. الحبيب ناصري

هدف هذا المقال هو طرح سؤال الإبداع التربوي والتعليمي والبيداغوجي في مدارسنا العربية، أي هل هي مهتمة بسؤال التجديد؟ وهل تقدم مدارسنا العربية محتويات لمتعلميها تحفز على طرح السؤال والبحث عن قيم إبداعية للتعلم بها؟

نعيش اليوم في زمن عولمة حارقة، مخلخلة للقيم والعباد والبلاد، غايتها في المقام الأول التحكم في البشرية جمعاء، على الرغم مما يُحسب لهذه العولمة من بعض المنافع، لكن لن تكون منافعها تلك الشجرة المخفية لحقيقتها وغاياتها، بل حتى هذه المنافع في نظر البعض، شبيهة بفعل ذلك التاجر الشاطر الذي يدرك قيمة منتوجه غير الصالح، لكن بـ”حلاوة” لسانه وصناعة واجهة جذابة لمنتوجه يجعلك تقتني بضاعته بسرعة.

هكذا هي العولمة، راغبة في تحقيق الربح ولا شيء غير الربح، عولمة تتحكم فيها الشركات العابرة للقارات والصانعة لسياسات هذا العالم، بل شركات هي اليوم تتحكم في رقابنا جميعا. فكيف الخلاص، وكيف من الممكن أنسنتها، بل كيف يمكن التغلب عليها لا سيما نحن العرب الذين لا نزال نبحث عن مكانة متقدمة ضمن هذا الهرم العالي؟

نقصد بمدرستنا العربية، ما يُقدم للمتعلم العربي من المحيط إلى الخليج
نقصد بمدرستنا العربية، ما يُقدم للمتعلم العربي من المحيط إلى الخليج

التربية أولا.. وثانيا

التربية مدخل رئيسي وأساسي في زمننا هذا، فإن أردنا فعلا أن نبني مستقبلا مفيدا للجميع علينا أن نسأل عن واقع التربية العربية. ونقصد بهذا المفهوم الإطار النظري/الفلسفي الذي تستقي منه منظوماتنا التعليمية في بلداننا العربية وداخل مؤسساتها التعليمية “رؤاها” لننقل تصوراتها النظرية المختارة إلى أرض الواقع.

هل من الممكن القول هنا إننا فعلا نجحنا في “نقلٍ” “صحيحٍ” للتصورات التي تم اختيارها في بلداننا العربية وتم تطبيقها بشكل سليم وأعطت ثمارها في تطوير الفعل التعليمي العربي من المحيط إلى الخليج؟

نطرح هذا السؤال دون نبش في سؤال آخر، ويتعلق بمدى نجاح العرب في تطوير موروثهم التربوي العربي وجعله محورا رئيسيا لأي تطوير وتجديد تربوي؟ وطرح مثل هذا السؤال الثاني، نجزم ومنذ البدء أننا لم نقتحم سؤال تطوير الفعل التربوي العربي انطلاقا من الإرث التربوي العربي، لكوننا نعيش وضعا وضغطا كبيرا من لدن من كان يستعمرنا حتى “لا نجتهد” في هذا المجال، بل إن الاستعمار المادي القديم هو اليوم استعمار ثقافي بامتياز، أي من الصعب أن “يفكر” العربي في بناء مشروع مدرسة عربية لها خصائص مستمدة من طبيعة رؤيته الثقافية لذاته وللآخر وللكون كله.

ننطلق في مقالتنا من فكرة بسيطة، مفادها أن كل مدارسنا العربية -أو لنقل كل منظوماتنا العربية- هي بشكل أو بآخر، لا تزال تعيش قلق البحث عن فعل تربوي حُرّ غير تابع لأي فعل استعماري سابق.

إن أردنا فعلا أن نبني مستقبلا مفيدا للجميع علينا أن نسأل عن واقع التربية العربية
إن أردنا فعلا أن نبني مستقبلا مفيدا للجميع علينا أن نسأل عن واقع التربية العربية

منظومات التعليم العربية.. تبعية للاستعمار

مسح أولي لهذه المنظومات التربوية العربية، يفيد ما يلي:

– منظومات تربوية عربية فرنكوفونية:

وقصدنا بها تلك المنظومات التربوية التابعة كليا أو جزئيا للمنظومة التربوية/السياسية/الثقافية الفرنسية. وهنا نجد أن هذه المنظومات العربية تستقي العديد من “حاجياتها” التربوية من هذه المرجعية الفرنسية في الدرجة الأولى، مع العلم أن المنظومة التربوية الفرنسية بدورها تعيش العديد من الأسئلة العميقة والمتعلقة بلغة التدريس، مما يجعلها في وضعية شبيهة بعلاقة مستعمراتها القديمة معها هي، أي أنها تنظر في البحث للعديد من مشاكلها التربوية إلى مرجعيات لغوية إنجليزية، لكونها تدرك قيمة هذه اللغة في علاقتها مع اللاعب الكبير سياسيا واقتصاديا وعلميا وتقنيا، أي أمريكا تحديدا.

طبيعة المنظومات التربوية العربية التابعة لهذه المنظومة تحاول ما أمكن أن لا “تسقط” كليا في نقلها لتجربة فرنسا التربوية، لا سيما وهي تعطي بعض الاهتمامات الجزئية للغة العربية واهتمامات أخرى محتشمة جدا للغة الإنجليزية. (من نماذج هذه المنظومة المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا).

بيعة المنظومات التربوية العربية التابعة لهذه المنظومة تحاول ما أمكن أن لا "تسقط" كليا في نقلها لتجربة فرنسا التربوية
بيعة المنظومات التربوية العربية التابعة لهذه المنظومة تحاول ما أمكن أن لا “تسقط” كليا في نقلها لتجربة فرنسا التربوية

– منظومات تربوية عربية أنجلوفونية:

وقصدنا بها تلك الدول التي تنهل من المرجعيات التربوية الإنجليزية، مثل دول الخليج العربي ومصر والأردن وغيرها؛ دول تحتل فيها اللغة الإنجليزية مكانة متقدمة بالمقارنة مع اللغة العربية، وهذا راجع إلى طبيعة الماضي السياسي لهذه الدول مع بريطانيا وأيضا طبيعة العلاقة الاقتصادية والسياسية والتجارية مع أمريكا.

في المجمل هذه هي طبيعة الواقع التربوي العربي حاليا. وهو وضع قد يسائلنا عن طبيعة ما يجمع بين هذه المنظومات التربوية العربية كلها.

من الممكن أن نفرز ثلاثة توجهات تربوية لغوية كبرى مميزة لطبيعة السؤال المضمر والظاهر لكل من يبحث في هذا الحقل التربوي العربي:

1/ توجه عربي محض: وهو توجه ينادي بضرورة جعل اللغة العربية لغة التدريس الأولى على جميع المستويات المضمونية التعليمية (تدريس العلوم الدقيقة والإنسانية وغيرها) باللغة العربية، من بداية تعلم الطفل إلى نهاية تعلمه الجامعي. ويستمد هذا التوجه “رؤيته” هذه من طبيعة علاقاته مع هذه اللغة وعلاقاتها مع الدين الإسلامي.

2/ توجه خارجي محض: يرى أنه لا مكانة لأي تعليم عربي متقدم خارج اللغة الأجنبية (الفرنسية بالنسبة للدول الفرنكوفونية والإنجليزية بالنسبة للدول الأنجلوفونية).

3/ توجه جامع بين الأول والثاني: يرى من الممكن الجمع بين اللغة العربية ولغة المستعمِر القديم لطبيعة الوضع العالمي كوضع يرفض الانغلاق.

لا داعي للنبش في ما قدمه دعاة استعمال الدارجة كـ”لغة” للتعليم، مثل ما وقع -على سبيل التمثيل لا الحصر- في المغرب من لدن بعض دعاة استعمال الدارجة المغربية في التعليم عوضا عن العربية، لكون هذه اللغة العربية الرسمية ليست هي لغة “الأمومة” و”الشارع”، وهي دعوة أثارت العديد من النقاشات، وانتهت بشكل نهائي، خاصة مع ظهور القانون الإطار الرسمي في المغرب والذي رجع بعد فترة “التعريب” الطويلة إلى تبني اللغة الفرنسية لغة لتدريس العلوم.

هذه في المجمل رؤية ماسحة لسؤال الوضع التربوي اللغوي في عالمنا العربي، وهو وضع طرح منذ بداية الاستقلال ومازال يطرح إلى يومنا هذا، ولعبت فيه السياسة العربية الحزبية دورا كبيرا، لا سيما والكثير من هذه الأحزاب العربية تحملت عبء تدبير وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي في العديد من الدول العربية.

جميع اللغات البشرية هي إنسانية ومتساوية من حيث الوظيفة التواصلية ومن زاوية لسانية محضة، والذي يجعل لغة أفضل من أخرى هو الوضع الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي والإنتاج البحثي العلمي والعسكري والسياسي.. وبناء على هذا، فمن منا اليوم من الممكن أن لا يهتم باللغة الإنجليزية، خاصة وأن أكثر من 80% من البحوث العلمية تنشر اليوم بهذه اللغة، والنسبة المتبقية تتقاسمها بقية لغات العالم.

مدرستنا العربية.. إلى أين؟

نقصد بمدرستنا العربية، ما يُقدم للمتعلم العربي من المحيط إلى الخليج، أي طبيعة المحتويات التي يتعلمها هذا المتعلم من أدنى مستوى إلى أعلى مستوى دراسي في مدرسة عربية تنفذ سياسة تربوية رسمية عربية في أي بلد عربي. فهل فعلا مدرستنا العربية تعي الرهانات التي تنتظرها؟ وهل السياسي العربي المدبّر لسؤال التربية والتعليم والبحث العلمي مدرك هو والمجتمع السياسي والمدني وكافة مكونات بلده، أن الثورة الحقيقية تبدأ من باب المدرسة مرورا بكافة مكوناتها المكانية والمحتوياتية والبشرية.

إذا أردنا فعلا تغيير واقع التخلف الذي يطوق عنق الجميع، فإن الرهان الأول هو رهان المدرسة التي عليها أن تكون جذابة ومانحة لتعليم حقيقي لجميع مكونات المجتمع.

من الصعب اليوم بناء مجتمعاتنا العربية أو الأفريقية أو الإسلامية أو كل المجتمعات التي تبحث عن مكان للتقدم في هذا العالم، دون المرور من المدرسة وبكافة مراحلها الدراسية والبحثية. وبدون هذا فإنها مجرد لعبة أو إلهاء.

بناء الإنسان، بناء علميا وفكريا وإبداعيا وأخلاقيا يمر مما يُقدم للمتعلم خلال كافة مراحل تعلمه إلى أن يحصل على أعلى شهادة جامعية أو مهنية. فهل من الممكن تحقيق أي خطوة تقدمية خارج المدرسة؟

حينما نقول المدرسة نتحدث عن العديد من الأجيال، نتحدث عن ذلك الطبيب والمهندس والشرطي والحارس الليلي والممرض وربان الطائرة والمطرب والشاعر والوزير ولاعب كرة القدم والعاطل.. الكل يمر من المدرسة، لكن هل الكل يخرج من بابها وهو مزود بالحق في الحلم والوعي بطبيعة مكانته في مجتمعه وتعلمه لكيفية بناء الوطن والدفاع عنه والتعريف به والإيمان بطريق العلم والمعرفة والجمال والقدرة على تدبير الاختلاف؟

إلى يومنا هذا، مدرستنا العربية مجرد وسيلة للتعلم في أفق البحث عن عمل، ومن هنا تنتهي مهمتها، وإن لم يتحقق الحصول على وظيفة، فكل “اللعنة” لها ولمن “علّمنا” ولما “تعلمنا”، مما يجعل صورة المدرسة تهتز، وفي اهتزازها هذا “خدمة” بشكل أو بآخر لبعض الفئات التي في صالحها “التمرد” على العمل والمعرفة والارتماء في كماشة “القدر” والانتظاريات المشؤومة، لأن غرس الجمال له بعدٌ آخر غير ما يسعى إليه السياسي، لا سيما ذلك السياسي الباحث فقط عن السلطة والمال دون تفكير عميق في جعل السياسة رؤية جمالية غايتها بناء الإنسان، وجعلها أكثر التصاقا بالسعادة والحب والعلم والمعرفة والثورة الدائمة على كل أشكال التخلف وركوب مركب التقدم الحقيقي، كما هو الشأن لدى الأمم التي قطعت أشواطا نوعية في جعل مدرستها ومُدرسيها وعلمائها ومفكريها وفلاسفتها رموزا وطنية وثروة حقيقية، عوض جعل “الغناء” وليس الطرب، و”اللعب” وليس الثقافة الرياضية؛ ذلك النموذج الذي على شبابنا الجري وراءه، لأنه مدر لربح خيالي لا يمكن تحقيقه لمن سار في مدارج العلم والمعرفة والبحث.

من هنا توجيه “الضربة” الكبرى لمدرستنا العربية؛ نموذجنا الذي من الصعب أن نصنع ونبني الوطن بناء علميا وفكريا وثقافيا وتكنولوجيا دونها مهما “أقنعنا” رجل السياسة وبكافة ألوانه المتبدلة باستمرار بأن التصويت عليه سيكون “حلا” لمشاكلنا المتعددة في بلداننا العربية التي مهما تنوعت مصادر عيشها، فإنها جميعا تقوم على مبدأ الاستهلاك من الإبرة إلى الطائرة، أو استهلاك ما يسير في الأرض والبحر والسماء، وما نستعمله من تكنولوجيا طبية ومنزلية، مما جعلنا وبلغة اقتصادية صرفة، زبائن جيدين لا نعرف إلا دفع فاتورة الشراء من دول كبرى عملاقة كالصين واليابان وألمانيا وأمريكا وكوريا الجنوبية، وهي الدول التي آمنت بأن نهضتها الحقيقية تمر عبر العقل، والعقل يُصقل ويُصنع ويُجمّل.. في المدرسة.

جميع اللغات البشرية هي إنسانية ومتساوية من حيث الوظيفة التواصلية ومن زاوية لسانية محضة
جميع اللغات البشرية هي إنسانية ومتساوية من حيث الوظيفة التواصلية ومن زاوية لسانية محضة

الإبداع.. بناء الإنسان

من الصعب أن نبني الإنسان العربي خارج شرط الثقافة بمفهومها الواسع وفي مقدمتها سؤال الإبداع. سؤال الإبداع في مناهجنا الدراسية العربية يحتل مكانة متدنية، وقصدنا بهذا “الحكم” أنه لا يزال لم يجد بعد التوظيف الجيد في أقسامنا كي يكون لهذا الإبداع وظيفة جوهرية في بناء القيم الوطنية والدينية المعتدلة والإنسانية الكونية، فهل من الممكن غرس هذه القيم التي تسعى جميع مدارسنا العربية إلى ترسيخها في نفوس المتعلمين ومن خلال محتويات بيداغوجية متعددة (قراءة، لغة، أناشيد، محفوظات، تعبير وإنشاء..) دون توظيف حقيقي للإبداع؟

كيف يمكن أن نحبب للمتعلم قيمة الوطن دون تمرير هذه القيمة عن طريق المسرح والسينما والتشكيل، وبشكل دائم في القسم وليس كأنشطة موازية بمناسبة عيد وطني ما. الشيء نفسه نقوله عن القيم الدينية المعتدلة التي يستحيل أن نبني متعلما محبا لدينه الإسلامي من زاوية معتدلة متعايشا مع بقية الديانات ومقدما صورة مشرقة عن إسلام الجمال والمحبة، متحاورا مع الجميع دون تكفير ولا إصدار لفتاوى القتل؛ دون المرور بترسيخ هذه القيمة في مدارسنا ومن خلال فنون عديدة، داخل وخارج القسم.

انتشار لغة التكفير والتطرف والقبح والتشجيع على زرع الكراهية والاقتتال الطائفي والمذهبي، دواؤه بعد تشخيص المرض الفتاك، يكمن في التربية الإبداعية، وهي التربية المولدة لغرس قيم الجمال في نفوس المتعلمين، ومن هنا رِبح ذلك المواطن المحب لوطنه ودينه وغير الرافض لمن يختلف معه.

ما قلناه عن القيمتين الوطنية والإسلامية نقوله عن القيمة الثالثة وهي القيمة الإنسانية الكونية، لا سيما في زمن التكنولوجيا الحديثة وزمن العولمة التي أصبح العالم يعيش فيه في بيت واحد وليس قرية واحدة. أن تنفتح مدرستنا على ما يجري  في العالم، وتتواصل مع الغير في كل بقاع هذا العالم، وأن نساهم في بناء قيم هذا العالم، من الصعب الوصول إلى هذا دون المرور من طريق الإبداع، لأنه سبيل رئيسي وجوهري لتحقيق وغرس هذه القيم.

من الصعب أن نحقق هذه الثورة التربوية والتعليمية والثقافية في مدارسنا العربية بمدرسين يمارسون مهنة غير راغبين فيها
من الصعب أن نحقق هذه الثورة التربوية والتعليمية والثقافية في مدارسنا العربية بمدرسين يمارسون مهنة غير راغبين فيها

ثورة تربوية

نُفذت في مدارسنا العربية إصلاحات جزئية عديدة، وضمن “رؤى” سياسية عديدة نفذتها العديد من الحكومات العربية وفي بلدان عربية عديدة، لكن السؤال الجوهري الذي نود طرحه هنا، هل وصلت هذه الإصلاحات الجزئية -والتي لا نقلل من قيمتها- إلى درجة تغيير شامل في كل مناحي الحياة المدرسية العربية؟ هل حققنا فعلا ثورة تربوية ومنهجية في برامجنا التعليمية والتكوينية الخاصة بالمدرسين العرب؟ هل من الممكن القول إن مهنة التدريس اليوم من المحيط إلى الخليج مهنة جذابة للعقول الشبابية العربية؟ أقصد هل أصحاب المعدلات المرتفعة على مستوى حاملي شهادات البكالوريا، وخاصة في الشعب العلمية والتقنية، يتنافسون لولوج المعاهد والمراكز ومدراس التدريب الخاصة بتكوين المدرسين؟

من الصعب الإجابة بنعم، لا سيما ومهنة الطب والهندسة والصيدلة ومهن الطيران لاتزال من المهن التي تستقطب الطلبة وأسرهم الحالمة بأن يتخرج من أبنائها طبيب أو مهندس أو صيدلاني أو ربان طائرة، مما يجعل من مهنة التدريس مهنة غير جذابة لهذه العقول النوعية، بل عادة ما يُفتح المجال لهذه المهنة لشعوب أخرى، وهي شعوب لا نقلل من قيمتها هنا، لكنها المرجع الرئيسي بالنسبة لمن يريد ممارسة مهنة التدريس التي هي اليوم رغم بعض الإغراءات المالية في بعض الدول العربية -خاصة دول الخليج- ما زالت غير مصنفة ضمن المهن التي يحلم بها شبابنا العربي النوعي، بل هي مهنة في بعض الدول العربية، تلجُها أفواج من الشباب الذين اكتووا بالبطالة ولم يتمكنوا من تحقيق أحلامهم في مجالات أخرى، فاختاروا هذه المهنة التي لم يتوقعوا في يوم أن يمارسوها كمهنة رئيسية، لا سيما في زمن ارتفاع معدلات البطالة.

من الصعب أيضا أن نحقق هذه الثورة التربوية والتعليمية والثقافية في مدارسنا العربية بمدرسين يمارسون مهنة غير راغبين فيها. فشرط حب مهنتنا شرطٌ جوهري لتحقيق مقدمات هذه الثورة التربوية والعلمية، وإلا فإنه بمجرد أن يجد المدرس المبتدئ -وحتى من مارس هذه المهنة لسنوات عدة- مهنة مدرّة لربح مالي مهم سيترك هذه المهنة التي هي في نظره مهنة متاعب عديدة.

عشق مهنة التدريس بوابة من البوابات الغائبة في هذه المهنة، ولدى العديد من المدرسين العرب، وقلة قليلة تمارسها وهو مقتنعة بها. فكيف الوصول إلى زرع قيمة عشق هذه المهنة في نفوس المدرسين؟

أفضّل طرح السؤال هنا وترك إجابته معلقة، لكونه فعلا سؤالا مخلخلا لنا جميعا.

لا ننكر الكثير من الجهود المبذولة لتحسين وضعية نساء ورجال التعليم في بعض الدول العربية، بالإضافة إلى خدمات عينية وضعت لهم ولأسرهم، لكن يكفي تحليل صورة المدرس في النكتة العربية، لا سيما في بعض الدول العربية التي تحتل فيها أجرة المدرس رتبة متدنية لا تكفي لسد حاجياته المتعددة والمتنوعة، حيث من الممكن هنا العثور على عناصر عديدة تشخص نظرة المجتمع للمدرس، ناهيك عن تمثّل العديد من الفنون مثل السينما لطبيعة المدرّس الاجتماعية التي تظهر من خلال طبيعة الملابس وضعف الوضع المالي.. كل هذا يساهم بشكل أو بآخر في جعل المهنة غير مرغوب فيها.

المدرسة البوعنانية في فاس
المدرسة البوعنانية في فاس

الكمّ المرهق

عديدة هي الحفر التي وضعت فيها مدرستنا العربية منذ الاستقلال. يكفي تتبع الغلاف الزمني لما يقضيه المتعلم العربي في القسم وطبيعة الامتحانات وما يحفظه المتعلم وما يعده من واجبات منزلية وما يحمله من دفاتر وكتب.. لنستخلص وبسهولة طبيعة الجهد والإنهاك الجسدي للمدرس والمتعلم.

لا بد من البدء في زحزحة هذا الكم وجعل الكيف ينتصر على الكم وبناء مقررات دراسية وبحثية تجعل من المتعلم قطب الرحى لأي تغيير حقيقي في منظوماتنا التربوية العربية، مع جعل الإبداع مقدمة حقيقية لتغيير حقيقي للعقليات التي لها صلة بالعملية التربوية وبالمجتمع ككل.

لا تطور لدولنا العربية خارج جدران المدرسة، فالمدرسة هي الفضاء الحقيقي الذي يصنع فيه تقدم الأمم. التفكير فيها وبها ولها شرط رئيسي لأي هروب من ذيل التخلف الذي نعيشه في عوالمنا العربية. البناء يبدأ من هنا، وجني الثمار يتطلب الوقت الكافي، لا سيما وقانون الطبيعة علمنا أنه من الصعب أن أزرع الآن وأجني الآن.

كل عملية زرع تتطلب توفير تربة صالحة للزراعة، وإن لم نكن نتوفر عليها سابقا، فعلينا إعدادها، أي علينا تحويل الأرض المملوءة بالأحجار الصغيرة والكبيرة إلى أرض لها تربة صالحة وقابلة للزرع، وبعدها تأتي بقية العمليات المعروفة.

بناء المواطن العربي يبدأ مما يتعلمه في المدرسة، وبناء المدرسة يبدأ بتوافقات مجتمعية بعيدة عن “التناطح” الحزبي والسياسي والمذهبي والطائفي، لكن تحويل المدرسة العربية إلى “فضاء” لتصفية الحسابات الضيقة وللي عنقها، يجعلها سببا في تعميق التخلف بشكل مقصود أو غير مقصود.

الثورات الحقيقية الهادئة والمفيدة للبلاد والعباد والجماد هي الثورات الثقافية التي نبتتها الرئيسية هي الثورة التربوية على كل مظاهر التخلف في أقسامنا ومؤسساتنا التربوية، ولا أمل في تحقيق كل هذا خارج شرط ترسيخ قيم الإبداع في نفوس المتعلمين.

الإبداع ممر موصل وناقل لمجتمعاتنا من لائحة الدول المتخلفة، إلى نادي الكبار والدول المصنعة التي لها مكانة في هذا العالم الذي يسير بسرعة فائقة ومذهلة. فمتى يمكن البدء في التنافس بين المتفوقين في الدراسة لولوج معاهد ومراكز ومدارس التأهيل الخاصة بالمدرسين، بنفس الطريقة التي تتهافت فيها الأسر وأبناؤها على كليات الطب والصيدلة والهندسة؟

طريقنا الوحيد نحو الحداثة والرقي وخلخلة كل أشكال التخلف يبدأ حينما نصوغ قرارات كبرى توافقية بين مكونات المجتمع، وجعل المدرسة قطب الرحى وعزلها عن كل صراعاتنا السياسية والحزبية، فحينما نجد ابن الغني بجانب ولد الفقير يدرسان في نفس المؤسسة دون تمييز اجتماعي ولا مكاني، فاعلم أن نقطة بدء انطلاق القطار على سكة متينة وحقيقية ودون “سكيزوفرينيا” قد بدأت.

نقول هذا الكلام ونحن نعي ونعرف ذلك الفصل الموجود في العديد من الدول العربية، بين مؤسسات في ملكية البعثة الأجنبية وأخرى في ملكية شركات اقتصادية أو مؤسسات دينية طائفية، والباقي مؤسسات عمومية في ملكية الدولة، تعاني ما تعانيه سواء على مستوى البنى التحتية أو الأجور الضعيفة التي تدفع للمدرسين، مما يجعل من سؤال التربية والتعليم مجالا “خصبا” لترسيخ التفاوت الطبقي وبناء جدران إسمنتية عازلة بين الأسر الغنية والفقيرة، ولهذا تبعات كبرى سيئة تجعل الطفل وهو في صغر سنه يفكر ويطرح السؤال التالي: لماذا أدرس أنا هنا وهو هناك؟ لماذا مدرستي غير جميلة ومدرسته ملونة بكل أشكال الألوان؟ لماذا ولماذا؟ وهي نفس الأسئلة المطروحة لدى الآباء والأمهات، مما يجعل الجميع يعيش دوامة الصراع الذي يفوّت على البلاد والعباد مسلك السلم الاجتماعي، وهنا تضيع سبل التنمية الحقيقية وبناء المجتمع بناء سليما سالما من كل أشكال الحقد والكراهية، وهنا سيشعر الجميع أن لديه نفس الفرص، والفرق في الجد والاجتهاد ومن يفكر ويبدع أكثر.

لا تقدم دون جعل مدرستنا العربية هي عربة القيادة الحقيقية لقطار التنمية والازدهار والابتكار والإبداع، غير هذا مجرد إلهاء ورغبة بشكل مقصود أو غير مقصود بأن عربة القيادة هي السياسة التي لن تكون جميلة إلا بجمال البناية المدرسية ومحتوياتها التربوية والبشرية والإدارية والمالية.