“مرحبا بسالفيني”.. إيطاليا تنزلق إلى المجهول بكل سرور

قيس قاسم

في مدة زمنية وجيزة استطاع الشعبوي “ماتيو سالفيني” تصدّر المشهد السياسي الإيطالي، وتمكنت رابطته من تجاوز شعبية أحزاب عريقة بكثير، حيث تحوّل إلى نجم و”كابتن” في أعين قطاعات كبيرة من الشعب الإيطالي خلال فترة قياسية. لم يقتصر التأييد الذي أوصله إلى البرلمان وتوّلي منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية على الأغنياء والأحزاب اليمينية، بل شمل أعضاء في حركات يسارية، وجمهورا كبيرا من جنوب البلاد التي اعتادت التحفظ على القادة الشماليين.

لم ينطلق الوثائقي الفرنسي “مرحبا بسالفيني” في بحثه عن أسباب صعوده المُدوّي من “كليشيهات” مُكررة عن طبيعة القادة اليمينيين الأوروبيين، والطرق التي يستميلون بها الجماهير، بل أراد صانعه “أنتوني روبين” التعرف على العقلية التي تمتع بها، وتشخيص القدرات التي مكّنته من النفاذ إلى قلوب الإيطاليين، فالواقع يؤشر إلى شعبية واسعة، وعلى الوثائقي معرفة الأساليب والأفكار التي أثّر بها على الناس ليمنحوه أصواتهم.

حاول الوثائقي تقصّي ما هو مخفي من أساليب دعائية أخرى غير تلك المعلنة على السطح، مثل العنصرية والحدّ من الهجرة، والتخويف بـ”سيطرة” الأغراب على البلاد وأسلمتها. من ذلك المنطلق شرع الوثائقي في رحلته إلى جهات متفرقة من البلاد، سعيا وراء مسح ميداني لا يتدخل فيه أحد من خارج السكان المحليين.

لم يُشرِك أنتوني في وثائقيه آخرين من خارجه، مثل الخبراء والمحللين السياسيين والصحفيين وغيرهم، بل اكتفى بالتسجيلات الفيلمية ومقابلته أشخاصا (عينات) يمكن من خلال أحاديثهم ومواقفهم الاقتراب أكثر من ظاهرة الشعبوية، وفهم محركاتها وبالتحديد الإيطالية منها.

 

“فيرونا”.. في خدمة الأغنياء

من شمال البلاد ومن مدينة “فيرونا” الواقعة في مقاطعة “فينيتو”، انطلق صانع الوثائقي في بحثه، فقد اختارها لأنها من بين أغنى المدن الإيطالية، بفضل وجود أعداد كبيرة من الشركات الصغيرة فيها، مما أدى إلى توفر فرص العمل، وبالتالي انخفاض نسب البطالة بين سكانها.

منحت المدينة “سالفيني” أكثر أصواتها في الانتخابات العامة الأخيرة، ولتقصّي أسباب ذلك قابل صُنّاع الوثائقي صاحب شركة بيع مستحضرات تجميل، كان في السابق غير متحمس للاشتراك في الانتخابات، لكنه وبعد الذي سمعه من “سالفيني” حول برنامجه الهادف إلى خفض الضرائب عن أصحاب الشركات؛ تحمّس للتصويت له.

كانت المدينة تقليديا تصوّت لأحزاب الوسط، وكان للحزب الديمقراطي المسيحي نفوذ كبير فيها، لكنه تراجع في الثمانينيات وأخذ اليسار مكانه.

زعيم حزب الرابطة اليمينية المتطرفة ماتيو سالفيني يحتضن سيلفيو برلسكوني خلال مؤتمر صحفي مشترك عقد في روما عام 2018

 

فشل الأحزاب التقليدية.. دغدغة لأحلام اليائسين من السياسة

أسباب تصويت الناس لليمين الشعبوي يُحيله صاحب الشركة إلى فشل الأحزاب التقليدية، فبعد سنوات عجاف عاشها الإيطاليون تحت حكم اليسار؛ قرروا التوجه إلى اليمين الوسط. قبلوا بـ”سيلفيو برلسكوني” وباليمين المتشدد، لكن النتيجة لم تكن أفضل من سابقتها، لهذا وبسبب خيبة الأمل تحمّس الناس لفكرة “تجريب” آخرين لم يُجرَبوا من قبل، ولم يكونوا جزءا من اللعبة السياسية القديمة.

اكتشف صانع الوثائقي في جولاته ومقابلاته أن “سالفيني” عرف ذلك المزاج جيدا واشتغل عليه بدهاء، حيث تقدم بمشروع يُدغدغ أحلام اليائسين من السياسة، وتوجّه إلى الأغنياء عبر مقترح تقليص الضريبة على أرباح الشركات، وأخذ بالنموذج البولندي الذي يُحدّد الضريبة بـ15 إلى 25٪، فيما كانت تصل سابقا في إيطاليا إلى أكثر من 40٪.

أطلق “سالفيني” على برنامجه الضريبي اسم “فلات تاكس”، أي الضريبة الباهتة أو المخففة. هذا التوجه يفسر لماذا تحمس الأثرياء وأصحاب الشركات الصغيرة له.

“الكابتن”.. كيف استغلّ منصات التواصل؟

رصد الوثائقي في مراجعته للحملة الانتخابية وجودا شخصيا مُكثَفا ومُنظَما لـ”سالفيني” على شبكات وسائل التواصل الاجتماعي، فكل كلمة ينطقها تُنقل بعد لحظات إلى المنصات الفاعلة للترويج له. صورته ثابتة فيها، وفي أغلبها يظهر مرتديا قميص فريقه المفضل نادي “إيه سي ميلانو” لكرة القدم.

لقد كان “سالفيني” مشجعا شماليا متطرفا إلى درجة أن الناس كانت تطلق عليه لقب “الكابتن”، وأغلب مؤيدي حزبه “رابطة الشمال” هم من أنصار الفريق.

الزعيم النقابي الشيوعي المُتقاعد وهو أحد العمال الذين التقوا سالفيني وغيّروا توجهاتهم وصوتوا له

 

إمساك العصا من الوسط.. اختراق الطبقة العاملة

لا ينحصر التأييد لـ”سالفيني” في المناطق الغنية، بل يمتد إلى المدن الصناعية ذات التوجهات اليسارية، فبالقرب من مصانع سيارات “لامبورغيني” الشهيرة والغالية الثمن، التقى “سالفيني” عمّالا منها غيّروا توجهاتهم وصوتوا له، أحدهم كان زعيما نقابيا شيوعيا، وهو الآن متقاعد.

أسباب تحوّله يحيلها إلى مشروع تخفيض السن التقاعدي للعمال، فقد كان العمر التقاعدي في عهد برلسكوني 67 عاما، واقترح سالفيني تخفيضه إلى 62، مما اعتبره خطوة في صالح الطبقة العاملة، وبشكل خاص العمال الذين قضوا فترات طويلة من عمرهم في العمل الشاق، وحان الوقت ليرتاحوا في سن أبكر. ليس المشروع وحده ما شجّعه على التصويب، بل أيضا الإحباط من فشل سياسة اليسار، وخوف قادته من الإقدام على خطوات تخدم العمّال حقيقة.

سالفيني يستخدم السلاح في محاولة للترويج لبيع السلاح لبسط الأمن في المدن

 

حمل السلاح.. شعبوية مبطنة تغزو عقول الشباب

إن شعبوية “سالفيني” مبطنة، لا تظهر بوضوح إلا في الموضوعات المُهيّجة لمشاعر الناس، مثل الحدّ من الهجرة وتبجيل الذكورية والتشجيع على بسط الأمن في المدن بقوة السلاح الشخصي.

يذهب الوثائقي إلى مكتب مُحامٍ يدير في أوقات فراغه ناديا لألعاب الدفاع عن النفس، بدأ الحديث معه بسيطا أول الأمر، ثم أخذ بالتوسع إلى جوانب تكشف جهد “سالفيني” ورابطته في تنظيم حملات دعائية تدعو إلى حق امتلاك الناس للسلاح، والدفاع به عن أنفسهم ضد اللصوص أو المعتدين على حرمات بيوتهم.

يعمل المحامي مع مؤيدي “الكابتن” على كسب الشباب من خلال تشجعيهم على فكرة “الدفاع الذاتي”، وشراء الأسلحة بحجة فشل الدولة وأجهزة الشرطة في حماية الناس، حيث يقدمون أمثلة عن سرقات وعمليات سطو حدثت في المدن الكبرى، وإحصائيات تُشير إلى ارتفاعها دون ذكر الدوافع والمشكلات الاقتصادية التي تقف وراءها، فهم يحيلون الأمر كله إلى غياب وسيلة الدفاع الفعالة، ويعنون بها السلاح. لا يتحدثون عن المستفيد من بيعه ولا عن الفوضى المحتملة جراء حمله على نطاق واسع.

من فكرة حماية النفس ذاتيا يدخل سالفيني إلى عقول الشباب، ويشجعهم على إبراز قوتهم “من أجل حماية إيطاليا من الأخطار”.

سالفيني يُلقي خطابا شعبويا أجوف، كنوع من أساليب الدعاية التي تروّج للكابتن

 

البطل القومي.. شعار إعادة الإرهابيين

لتعزيز صورته كرجل قومي شجاع اشتغل “سالفيني” على موضوع إعادة المطلوبين للقضاء من الخارج، فهناك عدد لا بأس به من الإيطاليين المتهمين بالتطرف اليساري لجأوا إلى فرنسا وغيرها وما زالوا هناك. حيث قام “الكابتن” عبر مسؤول بلدية بولونيا اليسارية بحملة ضد فرنسا، متهما إياها بإيواء “الإرهابيين”.

كلمات مسؤول البلدية تكشف عن شعبوية طافحة، حيث يفخر أنه أزاح اليسار من بلديتهم العريقة، وأنه سيُعيد الإرهابيين وسينظف المدينة من الأشرار. ذلك واحد من أساليب الدعاية التي روجت للـ”كابتن” وأظهرته كبطل قومي.

أحد الشباب المؤسسين لشبيبة الرابطة التي تسعى لخدمة المشروع السياسي لسالفيني

 

“شبيبة الرابطة”.. إستراتيجيات الاستقطاب

سيقود الحديث مع بعض مسؤولي المناطق التي سيطرت عليها “رابطة الشمال” إلى حقائق غير معروفة، مثل اشتغالهم على تأسيس قوة شبابية تعمل على كسب أصوات الناخبين مقابل تأمين مصالح مادية ومعنوية لهم، ووعود بتوليهم مسؤوليات في الرابطة.

يحضر معدّ الوثائقي بعض اجتماعات “شبيبة الرابطة”، ويفهم من خلالها كيف يتم نشر أفكار اليمين الأوروبي المتشدد، حيث لاحظ غياب النساء، إذ لم يحضرها إلا أعداد قليلة جدا منهن، وهذا يتوافق مع توجهات المتطرفين الممجدين للذكورية، لكن “سالفيني” يعمل بالضد من ذلك.

يعمل “سالفيني” وبقدر من الدهاء على إخفاء موقفه من المرأة في سبيل مصالحه، حيث يشجع شبيبته على كسب أصواتهن وضمهن للرابطة، وهو يتفرد بذلك التوجه (الكاذب) عن أشباهه من اليمينيين الذي يُجاهرون بكراهيتهم لها. ليس في هذه النقطة فحسب يختلف عنهم، بل في انفتاحه على الجنوب الذي ظلّ موقفه رافضا للشمال ورجالاته الأثرياء والمتعالين عليهم.

صورة بورتريه للشعبوي “ماتيو سالفيني” الذي تصدّر المشهد السياسي الإيطالي

 

طرد “لصوص روما”.. واستيلاء على كرسيها

يقتحم “سالفيني” مواقع الجنوبيين ويعمل على تفتيت موقفهم الرافض للشماليين بوعود مغرية، من بينها تشجيع المنتج الزراعي الوطني، وخفض الضرائب على المزارعين، حيث رفع شعار “الوحدة الإيطالية” وأعطاها أولوية على “الوحدة الأوروبية”. من المفارقات الصارخة التي ثبتها الوثائقي حول موقفه المعلن منها أنه يُخطّط بدقة، ويعمل بجدّ للسيطرة عليها وزيادة نفوذ رابطته فيها، وذلك عبر انتخابه لعضويتها وإيصال أكبر عدد من أعضاء رابطته إلى مجالسها.

الأمر نفسه يفعله في الداخل، حيث يتوجه إلى روما لإبعاد لصوص الحكومة منها، كما يُروّج في أحاديثه الصحفية وعلى منصات التواصل الاجتماعي بأن الوقت قد حان لطرد “لصوص روما”، فيما هو يعمل في السرّ من أجل الاستيلاء على كرسيها.

“موسوليني جديد”.. سياسات مهينة للإنسان

في المشهد الذي تظهر فيه ساحة عامة تجاور ملعبا لكرة قدم في روما تجري فيه مباراة لنادي “إيه سي ميلانو” ويحضرها “الكابتن”، ويكتظ فيها جمهور كبير؛ يتضح الجانب المناهض لأفكاره. جموع من الناس تحمل لافتات كتبت عليها شعارات مناهضة له ولتوجهاته، فبعضها يصفه بـ”موسوليني جديد”.

بين هؤلاء توغّل صانع الوثائقي وسأل عددا منهم عن رأيهم بـ”الكابتن”، الإجابة تلخص رأي المعارضين لتوجهاته السياسية التي تركز على الوعود لا الفعل، وعلى إرضاء الأثرياء وزيادة ثروتهم على حساب الفقراء، حيث يقولون إنه “أسوأ ما شهدته البلاد طيلة تاريخها”، وإنه بلا رحمة، في إشارة إلى جهوده للحدّ من الهجرة وإغلاقه الموانئ في وجه اللاجئين، وهي السياسة التي شخصوها كسياسة مهينة للإنسان، لا رحمة فيها ولا تضامن مع المحتاجين للحماية والأمان.

مسؤول ملف الهجرة لدى سالفيني، وهو من أصول نيجيرية، حيث تستّر سالفيني خلف مهاجر مؤيد لسياسته

 

مهاجر في وجه المهاجرين.. خبث سياسي

بدهاء وخبث سياسي يوكل “سالفيني” ملف الهجرة في رابطته إلى مسؤول من أصول نيجيرية، يدافع الرجل بقوة عن برنامج رابطته، ويدّعي أن سياستها تصبّ في صالح الدول الأفريقية التي تخسر قوة عملها من الشباب بسبب الهجرة. كلامه يعكس الموقف الرسمي لليمين الإيطالي من المهاجرين، ودعايته التي بنى عليها “سالفيني” حملته الانتخابية، ففي مشاهد منقولة من تسجيلات فيلمية (أرشيف) يظهر هو مخاطبا سكان جزيرة لامبيدوزا، داعيا إياهم بإغلاق موانئ جزيرتهم في وجه الغرباء الواصلين إليها بـ”طرق غير شرعية”.

يفخر في كل مكان يذهب إليه ويخبر جمهوره بأنه هو من خفّض أعداد المهاجرين من 120 ألفا تقريبا عام 2017 إلى حدود 23 ألفا في العام الحالي. من التسجيلات يظهر هو بنفسه يقود قاربا يمنع وصول مجموعة من المهاجرين إلى السواحل الإيطالية، وفي تسجيلات إضافية يظهر التنسيق بينه وبين بقية القادة الأوربيين اليمينين، ودعوته لتشكيل “اتحاد” لطرد المهاجرين واللاجئين.

أحد قوارب المهاجرين التي يمنع سالفيني وصولها إلى سواحل بلاده

 

الحافلة المحترقة.. تبعات مُخيفة تمتد إلى كل البلاد

ينقل الوثائقي تبعات سياسته إزاء المطرودين من بلاده، وترحيلهم عنوة إلى بلدان أخرى مثل إسبانيا وليبيا، وعلى المستوى الداخلي تثير مواقفه غضب المهاجرين وتشعرهم بانعدام الاستقرار والعيش بخوف دائم. إنها سياسة لا تخلق مناخا سلميا.

المشهد الأخير المأخوذ من الأرشيف يُعبّر عن ذلك الشعور، حيث يظهر فيه حافلة نقل ركاب محترق، فقد قام سائق مهاجر بحجز أطفال إيطاليين، وهدد بإضرام النار فيه احتجاجا على سياسة “سالفيني”. تبعات سياسته السلبية لا تنحصر على المهاجرين فحسب، بل تمتد إلى كل البلاد التي يأخذها بأفكاره العنصرية وشعبويته الجوفاء إلى المجهول.