مسرح “البولشوي” يتعافى.. ماذا عن روسيا؟

 

قيس قاسم

بالتجربة، لم تغب تماما عن متن أي من الأفلام التي تناولت عالم فن الباليه؛ الأجواء الرائعة والساحرة التي تحيط به، حيث تزرع على الدوام الموسيقى الكلاسيكية ومقاطع الرقص المعروضة خلاله -على قصر مدتها- في روح المشاهد إحساسا عاليا بالمتعة والرقة.

فمهما اشتدت قسوة وبشاعة القصص التي تدور حول أبطالها أو تمس جانبا إشكاليا من جوانبه، فقد اكتسبت تلك الأفلام خصوصية لجمعها في آن متعة الفرجة وجدية المعالجة، كما يظهر على سبيل المثال في رائعة المخرج “دارين أرنوفيسكي” الشهيرة “البجعة السوداء” وفي فيلم “الشهرة” وبشكل مبهر في تحفة “فردريك وايزمان” “الرقص” والآن في الوثائقي البريطاني الرائع “بولشوي بابيلون” (Bolshoi Babylon).

 

يُعد مسرح “البولشوي” علامة ثقافية بارزة في تاريخ الشعب الروسي، ودليلا على رقيّه وقوة إسهامه الحضاري. لهذا كان وما زال حتى يومنا هذا موضع اهتمام الأوساط الشعبية والمؤسسة السياسية، لدرجة أشاع وجوده في وجدان الأمة مقولة “إذا مرض راقص باليه واحد في مسرح البولشوي شعرت الأمة الروسية كلها بالمرض”. وعلى مثل هذه المقولة يؤسس فيلم “بولشوي بابيلون” مشروعه، بعد أن شاع في السنوات الأخيرة إصابة المسرح بـ”أمراض خطيرة” دفعت مخرجه “نِك ريد” ومساعده “مارك فرانتشيتي” للذهاب إلى موسكو والدخول إلى غرفة “المريض الروسي” لتشخيص مرضه بدقة.

أحماض حارقة.. أحرقت سمعة البولشوي وليس “فيلين”

الحادثة التي تعرض لها مدير المسرح الفني الأسبق وأحد أشهر راقصي الباليه في العالم سيرجي فيلين عام 2013 عندما هوجم بـ”أحماض حارقة” أدت الى تشويه وجهه؛ دفعت “نِك ريد” ومساعده “مارك فرانتشيتي” للدخول إلى المسرح. فهذه الأحماض التي رشه بها أحد منافسيه لم تحرِق وجهه فحسب، بل أحرقت معها سمعة المؤسسة الفنية الأرقى في البلاد، وأظهرت خلافاتها إلى السطح، مما لفت انتباه العالم إليها. ومن هذه الزاوية بالتحديد يمكن النظر إلى منجز المخرجَين البريطانيين باعتباره محاولة لتقصي الحقائق وكشف الجوانب المعتمة والصراعات الخفية خلف كواليس “البولشوي” المقدس.

فيلين بعد الاعتداء عليه بالحامض الحارق

 

فالقدسية التي يضفيها الناس على العاملين في “البولشوي” كانت على الدوام سببا في عذاباتهم، وكان ضغط المؤسسة السياسية وتدخلاتها يثقل كواهلهم ويزيد من توترهم وخوفهم من عدم الظهور بالصورة المثالية التي يريد الجميع منهم الظهور بها على خشبة المسرح.

والفصل التام بين عالمين -الشخصي والاحترافي- جعلت منهم كائنات باردة وجوههم لا تشي بحقيقة مشاعرهم، والمكانة العالية التي وضعهم الناس فيها فرضت عليهم المنافسة الشديدة ورفعت معها نسب الكراهية والغيرة من بعضهم البعض، وبسببها تعرض الراقص الشهير “فيلين” إلى هجوم من زميل له صاحَبه في أكثر عروض الباليه روعة وبهاء.

قدسية مُكلِفة.. مزبلة تعبث بها الفئران

التناقض بين المقدس والعادي فرضته عوامل تاريخيه طويلة ونفسية، يراجعها الوثائقي عبر مقابلات أجراها مع بعض الراقصين، إلى جانب تتبعه لأهم مراحل تطور مسرح البولشوي منذ القرن الـ18 وحتى اليوم، وذلك بفضل حصوله على خامات فيلمية نظيفة وأشرطة فيديو ومطبوعات وغيرها الكثير أُرفقت بمشاهد حية من أعمال المتحدثين الذين أظهروا بها قدراتهم الإبداعية ومواهبهم النادرة.

المخرج نِك ريد صاحب التشخيص المرضي لمسرح البولشوي

 

عبرت الشهادات الشخصية عن مشاعر جوانية مكبوتة طفحت في ثنايا نص سينمائي مذهل عرف صُنّاعه كيف يقنعون “النجوم” بالنزول إلى الأرض والتحدث بعفوية وصراحة في كل تفاصيل حياتهم ومعاناتهم ويشخصون أمراضهم دون خجل.

واحدة من العوامل المشجعة لكشف ما كان يجري خلف الكواليس، سوء سمعة المسرح في العقود الأخيرة، وانتشار صورته السلبية في وسائل الإعلام المحلية والعالمية. فقد صُوّر “البولشوي” في كثير منها كمزبلة تعبث بها “الفئران” وتتعارك فيما بينها من أجل الاستحواذ على المكاسب المالية والشهرة والبقاء على خشبة المسرح حتى الموت.

السياسة والنرجسية.. أوديا بأهم مؤسسة فنية

تكشف شهادات الراقصين الأشهر في العالم عن وجود جبهتين متناقضتين فيه، سببهما التدخل السياسي المباشر و”النرجسية” العالية التي لا يمكن مقارنتها بنرجسية بقية المبدعين، لأن فن الباليه نفسه لا يشبه بقية الفنون، ففيه سمو يضعه بين صنوف الفنون الأرقى والأكثر نخبوية، ومن هنا كانت السياسة تأتي إليه.

ففي روسيا بالتحديد، حيث منبع أهم أعمال الباليه وصاحبة مدرسة تُخرج أشهر الراقصين في العالم، يكفي ذكر اسم باليه “بحيرة البجع” حتى يذهب الذهن إلى الكثير من عظمة المنجز الفني والمؤسسة التي تقف خلفه وأبطالها نادري الوجود.

فالشعور بالعظمة وحب الظهور يمثل الجانب السلبي الأول عند الراقصين المحترفين، والثاني خارجي يتجلى في تدخل السياسيين في تفاصيل إدارته.

مشهد لراقصات باليه في مسرح البولشوي يؤدين رقصة “بحيرة البجع*

 

كما ويكرس العامل الذاتي الوثائقي وقتا كافيا لتوفر عناصره، فيتحدث الفنانون عن حبهم لمهنتهم والرغبة في تحقيق أكبر قدر من النجاح فيها، وبسبب قصر مدة عمل المشتغلين فيه يريد كل واحد منهم البقاء بطلا حتى آخر لحظه من حياته، وهو ما نتج عنه صراعات شخصية غالبا ما انتهت بإبعاد طرف واستبداله بآخر، لكن دون خروج أحد من المشهد العام تماما، لأن عدد العاملين المحترفين فيه يظل قليلا، فتبقى الضغائن لذلك في النفوس حية، وتظهر في أغلب الأحيان على شكل شلليات.

تغول السياسة.. مؤسسة فنية تدار بمنطق غير فني

يقدم الوثائقي حقائق عن الصعوبات والشروط القاسية المفروضة على راقص الباليه كي يبقى محافظا على مستواه وقوة أدائه، ودور المديرين في توزيع فرص المشاركة لاعتبارات ليست بالضرورة احترافية.

فعلى المستوى السياسي يتعامل قادة البلاد مع “البولشوي” على أنه مؤسسة وطنية ينبغي لهم أن يفيدوا من إنجازاتها، لذا فإنه منذ عهد القيصرية ومرورا بالمرحلة الاشتراكية وما بعدها رُتبت لضيوف الدولة -من بينهم على سبيل المثال- فيدل كاسترو ومارغريت تاتشر والملكة إليزابيث ورونالد ريغان وغيرهم، عروض خاصة، وكثيرا ما افتُتحت مواسمه برفع صورة رئيس البلاد على خشبته لإضفاء أهمية على وجوده.

عروض مسرحية خاصة في مسرح “البولشوي” للرئيس فيدل كاسترو والملكة اليزابيث وغيرهما من الزعماء

 

أما في الخارج، فكانت تحاط برامجه وعروضه برعاية مسؤولي الدولة الذين كانوا بدورهم يقدمون بسخاء الامتيازات إلى إدارته والعاملين فيه، وكثيرا ما كان يتردد تعبير “500 متر فقط تفصل البولشوي عن الكرملين” للدلالة على التقارب الأكثر من مكاني بينهما.

ولأغراض سياسية بحتة، وحصرا وفق تصورات السلطات، كان تعيين مديري المسرح وحتى راقصيه يتم بموافقة المسؤولين وبإشرافهم المباشر، وهو ما أدى الى ظهور شروخ واضحة بين مديريه وراقصيه، وصار انتقال راقص إلى الإدارة يعني للعاملين فيه انتقاله إلى صف الأعداء.

ومع الوقت تضخم الموقف وتحول إلى مشكلة جدية ظهرت بقوة في قضية “بافل ديمترتشنكو” ومحاكمته بتهمة الاعتداء على المدير الفني للمسرح بالحامض الحارق، وغطى جزءا منها هذا الوثائقي المتعدد المستويات.

مدير جديد.. نبذ تدخل السياسيين

انتقال الراقص الأشهر إلى الإدارة خلق له أعداء من بين صفوف زملائه القدامى، وتسبّب بخلق اصطفافات مهنية كانت سببا في سوء سمعة المسرح والعاملين فيه. لهذا توقف الوثائقي عند تعيين مدير بديل اسمه “فلاديمير أورين”، ممن امتاز بالخبرة الكبيرة. وخلال لقائه بالرئيس بوتين وضع “أورين” شرطا لقبول المهمة هي “عدم تدخلكم في عملنا”.

ويكرس المخرج البريطاني نِك ريد النصف الساعة الأخيرة من فيلمه لعرض التغييرات التي حدثت خلال وجود المدير الجديد، وكيف نجح في تغليب الاحترافية على البيروقراطية، وحدّ من تدخل السياسة، وهو ما نتج عنه عمليا تخفيف المشاكل بين العاملين، وتحسين سمعة المسرح الأشهر في العالم. لكنه أبقى الباب مواربا يسمح للناظر عبره بمراقبة الكواليس وعدم التعامل مع العاملين فيه ككائنات أسطورية، بل كبشر من لحم ودم.

فلاديمير أورين مدير المسرح الذي اشترط على “بوتين” عدم تدخل الحكومة في عملهم

 

لأجل ذلك عاد الوثائقي ليأخذ عينات من الراقصين ويرسم عبر ملاحقة سلوكهم اليومي ملامح حياتهم الشخصية، وصعوبات إيجاد توازن بين عملهم المضني الاحترافي الذي لا يحتمل التهاون، وبين حياتهم الواقعية ومن أساسيات وجودها؛ العائلة.

صعوبات كبيرة.. لكنه يتعافى

تقول “آناستاسيا ميسكوفا” الراقصة المعروفة “سأعمل كل ما في وسعي لمنع ولدي من دخول عالم الباليه”. إنه تعبير مكثف للصعوبات التي تشعر بها، لكنها سرعان ما تردفه بعبارة ثانية “بالنسبة لي، هذا عالمي وكل حياتي ولا أستطيع العيش بدونه”.

الراقصة آناستاسيا ميسكوفا في غرفة تغيير الملابس في مسرح البولشوي

 

ويترك “بولشوي بابيلون” دقائقه الأخيرة لعرض مقاطع من تدريبات الفرقة على باليه يريدون تقديمها خلال جولتهم القادمة الى الولايات المتحدة الأمريكية، وكأنه بها يهدي جمهوره هدية نادرة ويمنحه فرصة الاستمتاع بحلاوة الرقص والموسيقى وتأمل حركة الراقصين الرشيقة والمعبرة عن استعادة المسرح الأعظم عافيته ثانية. لكنه لا يُغفل أسباب وعكته الصحية ويذكّر بوجودها.

لهذا ختم كتابة فصله الأخير بعبارة استفهامية لأحد مديريه الفنيين: “البولشوي يتعافى ويرجع عظيما مثلما كان دائما، ولكن روسيا المريضة اليوم بالفساد والرشاوى ماذا بشأنها.. هل ستتعافى هي أيضا؟”.