“مشفى المقاطعة” و”إغلاق حديقة الحيوانات”.. وثائقيات ترصد آثار الجائحة على الإنسان والحيوان

يُعيد الوثائقيان الجديدان “مشفى المُقاطعة” (A Provincial Hospital) و”إغلاق حديقة الحيوانات” (Zoo Lock Down) التذكير بالفترة التي اجتاح فيها وباء كورونا العالم كله، وراح ضحيته ملايين من البشر، وما زالت تداعياته حاضرة في أذهان الناس، وفي عقول سينمائيين حرصوا على توثيق الوضع البشري خلال الفترة التي اشتدت فيها قساوة الجائحة، وانسحبت ويلاتها ليس على الناس فحسب، بل شملت حتى الحيوان، وكل ما هو موجود على الأرض.

يقارب الفيلمان الحالة الوبائية من منظورين؛ الأول يتناوله الفيلم البلغاري عبر يوميات مشفى إقليمي يقع في مدينة كوستنديل البلغارية، بينما يتناول الفيلم الثاني النمساوي أحوال حديقة حيوانات مدينة سالزبورغ لحظة إغلاقها في وجه الزوار خوفا من انتشار الوباء، فقد يطال الحيوانات ويزيد من تفاقم الوضع الصحي في البلد.

 

“مشفى المُقاطعة”.. جهود خارقة لمحاربة وباء لم يُستعدّ له

أدرج الفيلمان لأهميتهما في مسابقات الدورة الـ56 لمهرجان “كارلوفي فاري”، واستقبلا بترحيب نقدي وجماهيري لانشغالهما -كلا بطريقته- في رصد حالة خاصة يمكن من خلالها تصور حالات أوسع منها وأكبر.

في البلغاري “مشفى المُقاطعة” يبذل صانعوه “إليان ميليف” و”إيفان خيرتوف” و”زلاتينا تينيفا” جهدا كبيرا لعرض مشهد دقيق لأوضاع مشفى يقع في مدينة يبلغ عدد سكانها حوالي 50 ألف نسمة واجه العاملون فيها تحديات وصعوبات كبيرة، حيث تظهر في سياق الرصد الميداني الذي دام 70 يوما لم يفارق فريق العمل خلالها المشفى رغم تحذيرات الأطباء من احتمال إصابتهم بالمرض.

يحالف الحظ فريق العمل بوجود الطبيب “إيفجي بوبوف” على رأس الكادر الصحي المكلف باستقبال المصابين بفيروس كورونا، لتقديم ما يمكن تقديمه لهم من مساعدات طبية تبقيهم على قيد الحياة.

في تلك اللحظة التي لم يكن متوفرا بها في المستشفيات أي دواء خاص لمعالجة المرض، ولا حتى لقاحات تحد من انتشاره، كان الطبيب ومساعدوه يبذلون جهودا خارقة، وفي الوقت نفسه يقدمون دعما نفسيا للمرضى الذين يواجهون توترات عصبية.

ظل الطبيب محافظا على هدوئه للسيطرة على الوضع، وعدم ترك الفوضى تسود في مشفى يمكن وصفه بأنه عاجز وغير مستعد لمواجهة الوباء الخطير. وسط كل هذا الانشغال سمح الطبيب لفريق العمل ومصوريه على وجه الخصوص بالاقتراب قدر المستطاع من الحالات المراد رصدها، ومن الدخول إلى الغرف والممرات التي تشهد صراعا في كل لحظة بين الموت والحياة.

الطبيب “إيفجي بوبوف” الذي يبذل جهده لإنقاد المصابين رغم ضعف الإمكانيات

“دانييل”.. رُهاب المشفى ومحاولات التشبث بالحياة

مثل كل الوثائقيات المعنية برصد حالة أو ظاهرة تجري في مكان واحد وتضم كثيرا من الناس، يسعى عادة صُنّاعها إلى أخذ عينات صغيرة منها، أو انتقاء بعض الشخصيات المتفردة عن غيرها بخصائص يمكن البناء عليها دراميا.

هذا ما يفعله صُناع الفيلم الوثائقي البلغاري أيضا حين يركزون على مجموعة صغيرة من الممرضات، وعلى بعض المرضى الذين يمكن من خلالهم توسيع المشهد الخاص وتعميمه على حالات مشابهة قابلة لتصور وجودها في أماكن أخرى بعيدة عنها.

من بين هؤلاء شاب يدعى “دانييل” يُعاني من رهاب الوجود في المشفى، والخوف من موته داخل جدرانه، ويلحّ على الطبيب للسماح له بالخروج على مسؤوليته الخاصة، بالمقابل يرفض الطبيب طلبه لأن وضعه الصحي سيئ جدا، بسبب الانخفاض الحاد في نسبة الأوكسجين في دمه.

لا يجد الطبيب مفرا من الاتصال بأقاربه رغم شدة انشغاله بالمرضى الآخرين، وبشكل خاص بالحالات الخطرة، حيث يحاول بلغة جميلة إقناعه بجدوى التشبث بالحياة، وبمستقبل أفضل ينتظره، وينجح في إقناعه بالبقاء لحين تحسن حالته الصحية.

اهتمام الطبيب بمرضاه ينسحب أيضا على الممرضات اللواتي يعملن معه ليل نهار، وفي جو نفسي ضاغط على الجميع، من أجل توفير أقصى ما يمكن من عناية طبية للداخلين إلى المشفى وهم في أسوأ حال.

بكاء الممرضات.. آمال الإنقاذ وآلام الخيبة في بلغاريا

في الاستراحات ورغم التعب تظهر بين ثنايا كلام الممرضات رغبة حقيقة في إنقاذ المرضى، حتى لو كان ذلك على حساب وضعهن النفسي والجسدي. كل حالة موت تحدث توجع دواخلهن، وتدفعهن للبكاء بمرارة أحيانا. لم يفكرن طيلة وجودهن بأنفسهن بقدر تفكيرهن بالمرضى وبعوائلهم، وبتقديم المساعدات الممكنة لهم، رغم شُحّ المستلزمات الطبية الضرورية والنقص الكبير في الأجهزة الطبية اللازمة لمواجهة جائحة لا ترحم.

في الحجر الصحي يعطي الممرضون أقصى مافي جهدهم على حساب صحتهم النفسية والجسدية

يرصد الوثائقي حالات منها، ويقف أمام الكادر الطبي حائرا في كيفية معالجتها مثل نقص عبوات الأوكسيجين، وفي بعض الأحيان تتعرض الأنابيب المركزية المزودة لأعطال تهدد حياة المرضى.

المشهد المنقول بالكاميرا يقول إن مستوى الخدمات الطبية في بلغاريا سيئ، وذلك يعود لخلل عام في البنى التحتية والطبية منها على وجه الخصوص. تأخذ الحوارات بين المرضى أحيانا طابعا ساخرا ومضحكا، وتحيل ذلك إلى ثقافة فساد ما زالت متفشية، وبسببها تتفاقم المشكلات التي تواجهها المستشفيات أثناء تفشي الوباء.

“المنطقة المعتمة”.. انهيار الجهود الطبية في الطابق العلوي

أكثر النواقص الطبية تظهر في قسم العناية المركزة، وقد شاع بين مرضى المشفى بأن انتقال أحدهم إليه يعني نهايته. ويكرس الوثائقي وقتا لرصد حالات يُنقل خلالها بعض المرضى إلى “الطابق العلوي”، ويقصد به الممرضون قسم “العناية المركزة”، بينما يعني لبقية المرضى المرحلة الأخيرة من حياة المنقولين إليه.

بحزن يصف الطبيب “بوبوف” شعوره حين يعجز عن إيقاف الموت الذي يصفه بـ”المنطقة المعتمة”، فهو لا يريد لأحد من مرضاه الوصول إليها، لكن المرض يفتك بكثير منهم، مما ينسحب نفسيا على بقية الممرضين. كل حالة نجاة من الموت تزيد من تفاؤلهم، وكل نهاية حياة تحبط معنوياتهم، حتى يأتي الطبيب ويرفع منسوبها بكلمات حماسية مشجعة ورغبة للعمل بإخلاص، يقدم بنفسه مثالا حيا عليها.

في “مشفى المقاطعة” تختلط الدموع بالأفراح، وتتشابك الأنانية الفردية مع كرم وعطاء بشري لا حد له. المشهد المنقول من داخل المشفى لا يشي بقبول العاملين فيه لواقعهم المحبط، فهم ينطلقون من دواخلهم الطيبة، ولا يتركون السلبيات تنتصر عليهم، يظهر ذلك من خلال تحسن الحالة الصحية لـ”دانييل”. ويرصد الوثائقي تحسن مزاج العاملين في المشفى مع كل خطوة يخطوها للخروج معافى إلى بيته.

في الطابق العلوي شعرة رقيقة تفصل بين الموت والحياة

هناك أيضا حالة امرأة عجوز نجت من الموت مرات بفضل تدخل الأطباء، يشيع مديحها لهم شعورا بالرضى عندهم، ويشجعهم على تقديم المزيد من الجهد لمرضى تفصل بينهم وبين الموت شعرة رقيقة.

الاشتغال السينمائي في “مشفى المُقاطعة” باهر في دقته، وفي نقله لمشاعر الناس الملتبسة في اللحظة التي كادوا يفقدون فيها كل أمل بالنجاة.

“إغلاق حديقة الحيوانات”.. عالم من الطبيعة مقيد بالحديد

على غير المألوف يأخذ المخرج النمساوي “أندرياس هورفات” في وثائقيه الصامت “إغلاق حديقة الحيوانات” جانبا مختلفا من تبعات جائحة كورونا، ويركز فيه على حيوانات حديقة سالزبورغ، وذلك في اللحظة التي وجدت فيها تلك المخلوقات الأسيرة نفسها لأول مرة حرة من دون جمهور فضولي يأتي عادة لمشاهدتها، ويتمتع بوجودها أمام أنظاره من دون التفكير بما تعانيه، بسبب سجنها في أقفاص حديدية تحرمها من العيش في الطبيعة التي لا يمكن استبدالها بأخرى صناعية، مهما حاول الإنسان تقريب أجوائها من تلك التي ولدت فيها.

الحيوانات الأسيرة تجد نفسها لأول مرة حرة من دون جمهور فضولي يأتي عادة لمشاهدتها

لرصد حالة الصمت التي حلت على الحديقة يستعين صانعه بموسيقى تصويرية مبهرة تقرب الحالة النفسية للحيوانات وتفاعلاتها في الوسط الصناعي الذي تعيش فيه مكرهة.

حركة العاملين العادية والروتينية في الحديقة رغم غياب الزوار عنها وتنفيذهم لواجباتهم اليومية، مثل تقديم ما تحتاجه الحيوانات من غذاء، إلى جانب العناية بالأقفاص ونظافتها؛ تثير مفارقة حادة عند المُشاهد، مردها أن الوظيفة التي جلبت من أجلها الحيوانات والطيور وكل الأصناف الأخرى لا تتحقق في تلك اللحظة، بسبب منع الجهات الصحية زيارة الحديقة خلال فترة انتشار وباء كورنا، ومع ذلك يقوم عمالها بعمل كل ما يستوجب الحفاظ عليها، وكأن شيئا لم يتغير في وضعها.

يركز صانع الوثائقي على رصد وجود الحيوانات في زمن الوباء وأثره على سلوكها الغريزي، لتعميق ذلك الإحساس المتناقض بين تقديم الخدمات والرعاية اللازمة للحديقة وحيواناتها، وبين غياب الزوار، وهم الطرف الذي من أجله أقيمت الحديقة أصلا، وبفضل المردود المالي المتأتي من دفعه ثمن بطاقات الدخول إليها، يدوم وجودها.

غابة صناعية وسط حديقة سالزبورغ لكنها لاتكفي لتتكيف معها الحيوانات الضارية

تلقيح أنثى وحيد القرن.. محاولات لخلق البيئة الصناعية

من التفاصيل الملتقطة لوجود كل مجموعة من الحيوانات على حدة، يبرز سؤال جوهري عن سبب وجودها بعيدة عن بيئتها الطبيعية؟ ولماذا يصر الإنسان على نقلها إلى بيئة صناعية يتكشف عجزها عن خلق ظروف ملائمة لعيش الحيوانات الأسيرة داخلها، وتظهر بوضوح كبير أثناء فترة الصمت المخيمة على المكان، والمنقولة على الشاشة بدقة وصبر لافتين.

لتكثيف الإحساس بصناعية المكان يكرس الوثائقي وقتا لنقل مشهد يظهر فيه أطباء بيطريون يجرون عملية تلقيح صناعية لأنثى وحيد قرن، وفي مشهد آخر يظهر عمال منشغلون بتنظيف جدران أحواض الأسماك الزجاجية، وذلك في محاولة منهم لخلق بيئة مائية تقارب البيئة الطبيعية التي تسبح فيها الأسماك النادرة عادة وتتكاثر.

يقدم أحد العمال لأحد النمور لحما محفوظا في صندوق كرتوني، فيجري إليه مسرعا ما إن يشم رائحته، ليمزقه بأنيابه الحادة ويأكل ما في داخله، مما يثير غرابة عند رؤيته، لبعده الشديد عن واقع عيش تلك الكائنات المفترسة في البراري.

محاولة يائسة لتعويض العالم الطبيعي بعالم مصطنع

جائحة كورونا.. كارثة تحرر الحيوانات من جشع الإنسان

معارضة حبس الحيوانات وعرضها في حدائق خاصة هي فكرة مركزية في نص سينمائي يتعكز على جماليات الصوت والصورة، ويجتهد للبرهنة على هشاشة اللحظة الطارئة التي تمنح الحيوانات راحة قصيرة سرعان ما ستختفي حال انتهاء الجائحة، وسيعود الإنسان لاستغلال الحيوانات البرية لأغراض تجارية وربحية.

ومن أجل تأكيد تصوراته اللاحقة يضيف صانع الوثائقي في نهاية مسار الفيلم أصواتا مسجلة لأطفال حضروا سابقا إلى الحديقة مع عوائلهم، أصوات الزوار المتعالية وتعليقاتهم وعدم اهتمامهم بما تشعر به تلك الحيوانات تعزز الفكرة التي تقول: إن الجائحة قد حررت الحيوانات مؤقتا من جشع الإنسان، وأشعرت المدافعين عنها أكثر من أي وقت مضى بالحاجة إلى إعادتها إلى بيئتها الطبيعية المنتزعة عنوة منها.

وعلى مستويات أخرى خففت الجائحة مؤقتا رغم كل بشاعتها الضغط على الطبيعة، وقللت من تلوث البيئة، وخفضت نسبة الاحتباس الحراري الذي كان على الإنسان العمل على معالجة مسبباته، من دون الحاجة لوجود عامل خارجي لا يقل شرا عن شرور أفعاله واستهتاره بالبيئة، ومن بين نتائج ذلك التدميرية ظهور الأوبئة وتدمير الوجود الطبيعي للحيوانات البرية.